استعراض بغيض وهروب من مواجهة “كبار المهربين”.. و“دكاكين الفقراء” للضبط والمراقبة.
ليس من الحكمة الوقوف في صفّ المدافعين عن الشيطان ، ففي ذلك منتهى الحماقة التي تفتح على صاحبها أبواب جهنم ، وفي هذا المطرح يكون الرجم تحصيل حاصل ، والرجم – على فكرة – حالة غريزية لدى البشر ، ليست مقتصرة على مجتمع القردة ” أقاربنا الظرفاء” في العرف الدارويني ” و نظرية التطوّر التي أطلقها وشغل بها الكون منذ 175 عاماً إلى اليوم.
هو المدخل ” الغليظ” الذي اخترناه كتوطئة لحديث بسيط حدّ السذاجة ، وحسّاس لدرجة التعقيد، بدلالاته في مختلف الأبعاد واتجاهات إدارة السوق- سوقنا – في هذا الزمن الصعب والعصيب ، على خلفيات ما نحن فيه من أزمة ثقيلة الوطأة و بغيضة الإسقاطات على مختلف إحداثياتنا الرسمية والمجتمعيّة.
الحديث يتعلق بـ “البالة” التي لا نقصدها لذاتها هنا في تناولنا ، بل كقرينة دلالة على خصلة “الاستفراد الإجرائي” وانتقائية إنفاذ القوانين ، وتوظيفها – استعراضاً – حيث أسهل المطارح و أوفرها درءاً للصدام مع من يبدو التنازع معهم غير محبب ، وملامح أخرى غير مريحة من تلك التي يسميها رجال القانون ” التعسف في استخدام النص”.
البالة ممنوعة قانوناً أو على الأقل غير مسموحة ..ولهذا أسبابه الاقتصادية والصحيّة التي دفع بها المعنيون في الجهات ذا الصلة بإدارة هذا ” الملف” المزمن، في مواجهة أي تساؤل من عاتب أو لائم .
من وجهة النظر هذه لا يبدو ممكناً إلقاء اللّوم على ما فعلته محافظة دمشق من جهة ، ودوريّات الجمارك من جهةٍ ثانية ، عبرعمليات الدهم والإغلاق النشطة لمكافحة انتشار محال البيع في قلب العاصمة – ونكرر محال وليس مجرد بسطات – فالإجراء قانوني ومشروع ومطلوب ، وليس بوسع أحد الاعتراض على تطبيق القانون ، والاعتراض يعني الدفاع عن الشيطان حكماً .
ولكن…..
هذه الـ”لكن” هي التي تفتح عمل الشيطان ، فثمة سؤال ملحّ هنا يتعلّق بالمتغيّر المفاجئ الذي أيقظ المحافظة والجمارك على هذه المحالّ المخالفة ، وهي قد أمست من نقاط العلام وسط العاصمة وغير بعيدة كثيراً عن مقر الإدارة المركزية لمحافظة دمشق ، أي أنها سمحت بها بما أنها لم تمنع ؟؟
هل من شاكٍ.. كأصحاب محال “النوفوتيه” في الحمرا والصالحية مثلاً ، على خلفية تضرر المصالح من منافسة البضائع المستوردة تهريباً على شكل بالة ، وهي ذات جودة أعلى وسعر أقل بكثير من ” ستوكات ” أسواقنا ، و التي إن فاخرت بجودة ما ، فإنها تفاخر بذات البضائع المهرّبة ، لكن السعر هنا هو العامل المثقل في المسألة والجاذب لزبائن البالة ؟؟
أم أن ما جرى كان صحوة على طريقة “الفزعة” المعروفة بأنها على عداوة مع شيء اسمه الاستدامة ، استدامة الضبط والمعالجة؟؟
والأهم بالنسبة لحضور الجمارك “الميمون” في مثل هذا الميدان أن نسأل..هل خلت أسواقنا و محلات “النوفوتيه” ذاتها من البضائع المهرّبة؟؟
هل تأكدت جماركنا أن أسواقنا “المشروعة” خالية من البضائع التركيّة الممنوعة – سياسياً – بقرار حكومي يعود إلى العام 2015 ؟؟
ثم يأتي السؤال الأصعب وهو : من أين دخلت البضائع المهرّبة ” – ومنها البالة” – ومن المسؤول عن مكافحة التهريب ؟؟
وهل من الحذاقة ترك الحدود وملاحقة حلقات البيع الأخيرة ..وماذا يعني هذا ..ألا يعني أننا حابينا المهرّب وغررنا بالبائع المباشر ، لنستعرض بعمليات البطش به وقطع رزقه ؟؟
مرارة
الواقع أن ثمة ظروف قاهرة كالتي نحن في معتركها حالياً ومنذ سبع سنوات ، لاتبيح “إقامة الحد القانوني” على مسارات التدفقات السلعيّة والبضائع وكل احتياجات المستهلك ، في زمن الحصار والمقاطعة المفروضة على سورية .
و إن تحرينا عن المسلك المخالف لمعظم فعاليات التجارة وحتى الصناعة في بلدنا ، سنجد أن كل الجهات الرقابية والرسمية ، معنية بالتحرك للضبط والمحاسبة ، فلولا تهريب المدخلات الصناعية وتهريب السلع الأساسية المفقودة والمطلوبة بإلحاح كالأدوية مثلاً ، لكانت أزمتنا خانقة أكثر ..أي قاتلة ، وعلينا أن نعلم أن صادراتنا في معظمها هي من إنتاج مشاغل غير مرخصة و أقبية اعتدنا على الانتقاص منها وتصنيفها تحت مسمى “اقتصاد الظل”.
لسنا مدافعين عن البالة – وأنا شخصياً لست من روادها بسبب ضيق الوقت – لكنها ملاذ الفقراء من “العري” في ظل ارتفاع أسعار الألبسة بشكل غير محتمل ، رغم انخفاض جودة المصنّع محلياً منها ، لأن استيراد الخيوط الجيدة مكلف وغير ممكن ، فباتت بضائعنا “بالية” رغم أنها ليست بالة.
نحن بالفعل بأمس الحاجة إلى إجراءات اقتصادية ردعية لكل الفعاليات المخالفة والمرتكبة ، لكن ذلك يجب ألا يكون انتقائياً ، وألا نستعرض في مضمار “دكاكين” الفقراء ونستقوي عليهم.
ومكافحة البالة يجب أن تكون في آخر قائمة الأولويات لا في مقدمتها ، ولعلنا أخطأنا في قراءة القائمة بالمقلوب.
ناظم عيد – الخبير السوري