الخميس , أبريل 25 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

التضخم يبتلع سبع فئات نقدية في الاقتصاد السوري

التضخم يبتلع سبع فئات نقدية في الاقتصاد السوري

يعد النقد في التحليل الاقتصادي النهائي معادلاً عاماً للقيم الاقتصادية، وهو المعادل العام الوحيد الذي يلقى قبولاً اجتماعياً واسعاً بين الناس، ويمكن من خلاله تبادل السلع والخدمات وتحديد قيمها التبادلية السوقية، وفي الوقت الذي تحمل فيه ، بوصفها وسيلة تبادل صادرة بموجب قانون حكومي يلزم التعامل بها بموجب قيمتها المكتوبة أو المنقوشة عليها، وهو ما يعبر عنه بالقيمة الإسمية للنقود، إلا أن قيمتها الحقيقية تتحقق فعلياً في الاقتصاد، أي بقدرة تلك النقود على شراء سلع وخدمات من السوق، وفق الأسعار السائدة والكافية لحاجات الناس، وذلك بغض النظر عن قيمتها القانونية التي تحملها، أي أن التبادل الاجتماعي هو الذي يحدد في النهاية قيمة النقود.

وبناء على القيمة القانونية الصادرة بموجب قانون حكومي والقيمة الاقتصادية الناتجة عن تغيرات العوامل الاقتصادية فإن تغيرات قيمة الفئات النقدية يمكن أن يكون له منشآن نظرياً، المنشأ الأول هو المنشأ القانوني والذي يعبر عنه بتغيير قيمة فئات الوحدات النقدية الإسمية، بموجب تغيير قانوني إما بزيادة قيمة فئات النقد المصدر، أو بتخفيض قيمة تلك الفئات، أو باستبدال فئات النقد الحالية كلها بنقد جديد بالكامل وبفئات جديدة، وعند كل تغيير جديد لفئات النقد لا بد من صدور تشريع خاص لذلك التغيير كي تكتسب الفئات النقدية الجديدة القوة القانونية اللازمة لها، بغض النظر عن قيمتها الإسمية المدونة أو المنقوشة عليها.

أما المنشأ الثاني لتغيير قيمة الفئات النقدية فهو المنشأ الاقتصادي، أي المنشأ التبادلي/ السوقي، وبالتالي فإن قيمة الفئات النقدية المطبوعة والمسكوكة فتتغير زيادة أو نقصاناً حسب تغيرات أسعار السوق، أي حسب معدلات التضخم، وبالتالي فإن الفئات النقدية في هذه الحالة تابعة للتغيرات السعرية في الاقتصاد، وإن قيمتها الحقيقية تتحدد في السوق وفق آليات التبادل الاجتماعي المتغيرة. وبناء عليه يمكن القول إن تغيير فئات النقد والذي يعني في شكل آخر من التعبير «تغيير قيمة النقد»، هو أمر شكلي من الناحية القانونية وجوهري من الناحية الاقتصادية، فالذي يحدد ذلك التغيير هو الاقتصاد أولاً ومن ثم يستجيب القانون لذلك التغيير لاحقاً، ليتم إصدار فئات نقدية جديدة بقيم كبيرة أو صغيرة، وغالباً ما يتم التغيير باتجاه إصدار فئات نقدية كبيرة تعكس حالة اختلال اقتصادي عام في اقتصاد ما، وغالباً ما يكون ذلك الاختلال هو «التضخم»، وبالتالي فإن إصدار فئات نقدية اسمية كبيرة بموجب قانون ما هو نتيجة حتمية لوجود اختلال اقتصادي، فالاقتصاد لم يعد قادراً على التعامل بفئات نقدية صغيرة القيمة الإسمية، وبات بحاجة إلى فئات نقدية كبيرة القيمة الإسمية، وبالتالي فإن الفئات النقدية الإسمية الصغيرة سوف تخرج تلقائياً من التداول دون الحاجة لقانون يشرع عملية إخراجها، والتضخم سيكون كفيلاً بفعل ذلك، لأن أسعار السلع والخدمات العالية جداً لم تعد تجد وسيلة نقدية كافية للتبادل تعبر عن قيمتها، فالكثير من أسعار السلع والخدمات قد تجاوزت قيمتها الإسمية.

يمكن إسقاط ذلك التحليل على الاقتصاد السوري خلال السنوات العشر السابقة، وخاصة أن الاقتصاد بدأ يشهد ظهور فئات نقدية كبيرة لم تكن موجودة سابقاً كفئة الـ (1000) ليرة والتي طرحت بالتداول لأول مرة عام 1997، بعد أن تم اعتماداها قانونياً عام 1992 ومن ثم طرحت طبعة جديدة منها للمرة الثانية عام 2015، وفئة الـ (2000) ليرة، والتي طرحت بالتداول لأول مرة عام 2017، فقد اعتاد ذلك الاقتصاد ولسنوات طويلة جداً على التعامل بأكبر فئة نقدية من قيمة الـ (500) ليرة، فما الذي تغير حتى دفع بالمشرع السوري لتغيير قانون النقد الأساسي ولأكثر من مرة من أجل إصدار فئات نقدية كبيرة، كالتغيير القانوني الذي طال قانون النقد الأساسي، ومصرف سورية المركزي من خلال المرسوم التشريعي رقم (15) لعام 2011، الذي عدل الفقرة الأولى من المادة (16) من قانون النقد الأساسي ومصرف سورية المركزي. والذي سمح بإمكانية إصدار أوراق نقدية من فئة الـ(2000) والمرسوم التشريعي رقم (1) لعام 2010 الذي عدل المادة (43) من القانون السابق ذاته، وسمح بإمكانية سك فئات نقدية معدنية بقيمة (50) ليرة، والآن هناك مشروع تعديل جديد لقانون النقد الأساسي من أجل التغطية القانونية اللازمة لإصدار فئة نقدية بقيمة (5000) ليرة.

لقد تجاوب المشرع السوري من خلال سلطته النقدية مع التغيرات الاقتصادية التي طالت الاقتصاد السوري، وتحديداً مع معدلات التضخم العالية التي بدأت تظهر في الاقتصاد، ومع ارتفاع أسعار السلع والخدمات، أصبح من الضروري طرح فئات نقدية كبيرة القيمة من أجل استيعاب ذلك الارتفاع، وكانت النتيجة أن خرجت الفئات النقدية الصغيرة من التداول تماماً مثل فئات (1 و 2 و 5) إذ لم يعد هناك أي سلعة في الاقتصاد سعرها يقابل أي واحدة من تلك الفئات، في حين تحولت فئات مثل (10 و 25) ليرة إلى فئات نقدية متممة لعمليات الدفع فقط، فحتى هذه الفئات لم يعد هناك أي سلعة أو خدمة في الاقتصاد لها قيمة مقابلة لها، ومن خلال حركة التبادل اليومية نستنتج أن أقل قيمة سعرية لسلعة أو خدمة أصبحت تبدأ عند سعر ( 50 أو 100) ليرة، وأن تلك القيمة النقدية أصبح استخدامها محصوراً بعدد ضيق جداً من السلع والخدمات، كخدمات النقل الداخلي والمنتجات البسيطة جداً، وبالتالي فإن التبادل الحقيقي للسلع والخدمات يبدأ فعلياً من فئة الـ (200) وما فوق، ما يدل على خروج سبع فئات نقدية من التداول بشكل اقتصادي رغم عدم خروجها من التداول بشكل قانوني، أي أنه لا يوجد تشريع حتى الآن تم بموجبه إخراج هذه النقود من التداول، والنتيجة أنها ما زالت موجودة بقيمتها الإسمية لكنها غائبة بقيمتها الحقيقية. ومن أجل امتصاص معدلات التضخم الكبيرة التي طالت الاقتصاد تم طرح الفئات النقدية الكبيرة، وذلك من أجل مجاراة الأسعار العالية للسلع والخدمات، ومن أجل تقليل عدد القطع النقدية المتداولة في السوق، فمنزل كان سعره في عام 2000 مثلاً (1) مليون ليرة كان من الممكن دفع ثمنه بـ (2000) قطعة نقدية من فئة الـ (500) أما اليوم فالمنزل ذاته أصبح سعره (20) مليون ليرة فلو أردنا دفع سعره بفئة الـ (500) لاحتجنا إلى (40000) قطعة من فئة الـ (500)، أما لو أردنا دفع قيمته بفئة الـ (2000) لاحتجنا إلى (10000) قطعة فقط، أي إلى ربع عدد القطع، لكن هذا الاحتياج فرضه الارتفاع الكبير في سعر المنزل ذاته قبل أي شيء آخر، وبالتالي فإن بعض الفئات النقدية لم تعد تجدي نفعاً في الصفقات المالية الكبيرة نتيجة التضخم، ويمكن قياس ذلك أيضاً على باقي أنواع السلع والخدمات كافة، فكلفة النقل التي كانت قيمتها (5) ليرة، أصبحت قيمتها بفعل التضخم (50) ليرة، وبالتالي لم يعد هناك من ضرورة لاستخدام فئة الـ (5) ليرة في عملية الدفع، لانعدام قيمة الخدمة المقدمة مقابل لها فخرجت من التداول بشكل تلقائي.

إن الحقيقة الوحيدة والتي باتت مؤكدة هي أن التضخم هو الذي يعمل على إخراج الفئات النقدية الأصغر من التداول، ليحل محلها فئات أكبر، أو ليبقى على الفئات الصغيرة كمتممات لعملية التبادل لا أكثر ولا أقل، وكلما ازداد معدل التضخم كلما خرج المزيد من النقد الصغير من التداول، وكلما بدأ التداول من فئات أكبر من المعتاد، وبالمحصلة النهائية فإن طرح فئات العملة الكبيرة في التداول هو نتيجة التضخم وليست سبباً له.