الجمعة , مارس 29 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

“الأصل”: من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون؟

“الأصل”: من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون؟

شام تايمز

سارة حبيب

شام تايمز

إن معضلة رواية “الأصل” هي معضلة البشر جميعاً؛ محاولة إيجاد أجوبة للسؤالين الأكثر إلحاحاً: من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ سارة حبيب

جميعنا يعرف دان بروان عبر روايته الشهيرة “شيفرة دافنشي” التي كانت أول باب له لدخول المكتبة العربية. ويبدو أننا اليوم، بعد سبع روايات له، لا نزال نحتاج إليها لنتلمّس أسلوب براون الخاص، ونلتقط خيط الوصل بين رواياته ورؤيته، لاسيما في نزعته الواضحة لبلبلة السائد.
“الأصل”، من ترجمة زينة إدريس، تطرح المزيد من التساؤلات “الدان براونية”.

وكتمهيد لدخول عالم هذه الرواية ينصح براون قراءه بزيارة متحف الفن في إسبانيا، قراءة كتاب “أصل الأنواع” والإنجيل.
إن معضلة رواية الأصل هي معضلة البشر جميعاً؛ محاولة إيجاد أجوبة للسؤالين الأكثر إلحاحاً: من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
لكن، هل من جواب يستطيع براون تقديمه؟!

العلم والدين: لقاء أول

تبدأ الرواية بلقاء غريب من نوعه؛ من جهة يظهر العالم إدموند كيرش البطل المحرّك للرواية، ومن جهة أخرى مجموعة من رجال الدين ممثلين للأديان الثلاثة: الأسقف فالديسبينو، العلّامة سيد الفضل، والحاخام يهودا كوفيس (نتساءل هل لاختيار هذا الاسم ارتباط بيهوذا؟).
كيرش حسب توصيف براون “ملياردير، عالم كمبيوتر، عالم مستقبلي، مخترع، ورجل أعمال”؛ خلطة ربما تبدو غريبة خاصة بالنسبة لشخص في الأربعين من عمره. ثم، ودون كثير من التمهيد، يقول لنا كيرش إن لديه “ما سيحطم أسس الديانات الثلاث”، ليشكّل هذا الإعلان ليس فقط صدمة لرجال الدين هؤلاء، بل افتتاحية بالغة التشويق لرواية تعِد بهزّنا. فهل تفعل؟!

في هذا التقابل بين العلم والدين، يبدو أن الرواية لم تتخذ قرارها النهائي بشأن الانحياز إلى أحدهما. في مرحلة مبكّرة من الرواية، يقول لانغدون: “العلم والدين ليسا متنافسين، بل هما لغتان مختلفتان تحاولان أن ترويا القصة نفسها، وفي هذا العالم مكان لكليهما”.

في سياق آخر، يقول الأسقف فالديسبينو “إن الأديان لطالما كان تقع في مأزق حين يطرق العلم الباب”، بينما يردّد كيرش صراحة أن “العلم نقيض الإيمان”، ويقول إن هدف حياته هو “توظيف الحقيقة العلمية للقضاء على المعتقدات الأسطورية”. صحيح أن هذا التأرجح ملائم ومعبّر عن اختلاف هذه الشخصيات، لكن الرواية، كما سنلاحظ، ستدعم هذه الآراء كلها بالقوة ذاته، وتمشي خطواتها بحذرٍ ربما لا يتلاءم مع توقعاتنا عنها.

على طريقة شهرزاد

تُروى “الأصل” عبر تقسيمات فصول لا تكتفي فقط بأن تتصاعد بالأحداث، بل تنتقل من مكان إلى مكان أو من زمان إلى زمان، بالإضافة إلى تغيير مركزية الشخصيات بين فصل وآخر. وكثيراً ما نجد براون يعود بالزمن إلى الوراء ثم يعود إلى الحاضر، غالباً بسبب رغبته في تأخير الحدث الأساسي وتصعيد التشويق ممسكاً بنا من تلابيبنا حتى النهاية.

يمكن أن نلمس شيئاً من التشابه بين الطريقة التي يروي بها براون حكايته والطريقة الشهرزادية في السرد. بهذا المعنى، يدرك براون أن الإفصاح المبكر عن اكتشاف كيرش، سيجعل الرواية تنتهي أو تفقد بريقها وهو ما لم يرده إلا بعد الكثير من المماطلة. هكذا تحاول الرواية إبقاءنا في موقع شهريار، مهتمين ومتحمسين لمواصلة القراءة، لتقدم لنا في النهاية ما قد نجده أقلّ من توقعاتنا لا سيما بعد كل هذا الانتظار.

في مجال تقنيات السرد أيضاً، نلاحظ أن براون يدسّ بين حين وآخر تقارير مختزلة بين الفصول يعتبرها مأخوذة عن الإنترنت. غالباً لا تضيف هذه التقارير الكثير إلى ما نقرأه، لكن يبدو أن براون قرّر وضعها لتكثيف وتركيز فيض الأحداث الذي يقدّمه، ربما لأنه كان متخوفاً أن يضيّع القارئ طريقه وسط هذا الزخم.

متحف الفن: أكثر من مجرد مكان

يظهر في الفصل الأول البروفيسور روبرت لانغدون، أستاذ علم الرموز في جامعة هارفرد، الشخصية المركزية في معظم روايات براون، والتي يعتمد عليها لتمرير أفكاره وفكّ ما يبتكره من معضلات. يتجول لانغدون عبر صفحات كثيرة في معرض للفن الحديث، متحف غوغنهايم في بيلباو، إسبانيا؛ إثر دعوة تلقاها من كيرش. يتضح أن كيرش كان تلميذاً للانغدون، لكنه يبدو أكثر حدة منه في الانزياح لصالح العلم ضدّ ما لا يمكن إثباته.
الانتقال المكاني من كنيسة في مقدمة الرواية إلى متحف للفن الحديث ليس عبثياً، بل هو انتقال من العتيق إلى الحديث، من الغيبي إلى الملموس. علاوة على ذلك، إن الطريقة التي بُني بها هذا المتحف تجعله ملائماً لحدث يقول عنه كيرش إنه سيهزّ العالم: “إنه بناءٌ لا يكسر القواعد فحسب، بل يتجاهلها تماماً. إنه بقعة مثالية بالنسبة إلى إدموند”، يقول لانغدون.

بالإضافة إلى هذا المعنى المجازي، تقدم الجولة في متحف الفن متعة جمالية غنية. ويمكن لقارئ متأنٍ أن يرفق القراءة بالبحث عن صور الأعمال الفنية التي يقدمها براون مع شرح مستفيض على لسان دليل صوتي. لانغدون، رغم ميله إلى الفن الكلاسيكي، يصغي ويأخذنا معه في جولة في هذا المتحف الساحر الحداثوي والغريب. نتعرف هناك على لوحة “حوض السباحة” بتوقيع إيف كلاين، تمثال “أنثى العنكبوت” لِمامان، أعمال ريتشارد سيرا، لوحة “اصطدام مباشر” بذئابها التي تشير إلى عقلية القطيع، لوحة “من أين أتينا؟ من نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟” لـبول غوغان والتي تتماهى مع سؤالي الرواية الأساسيين.

يمكن القول إذاً إن الأعمال الفنية بالإضافة إلى وظيفتها الجمالية وقدرتها على جذب اهتمام القارئ، تحمل بعض المعاني الرمزية بما يخدم ما يريد براون قوله. بهذا المعنى، تقدَّم لنا مثلاً اللوحة الطينية التي رسم رموزها كيرش نفسه؛ “إنها تمثل التطور الذي يقضي على الدين”، يفسّر لنا لانغدون.

بداية العرض المبتور

زيارة كيرش لعلماء الدين تضمنت عرضاً مصوّراً لما يقول إنه سيهز أسس الدين، لكن براون بطريقته التشويقية لا يكشف الكثير عن محتواه. ما نلاحظه فقط على مدار صفحات طويلة هو أثر هذا العرض على رجال الدين، الهلع مما قد يسبّبه هذا الكشف، ومحاولات عرقلته.
يبدو كيرش، مثل براون، محباً للدراما والبهرجة ومسرحة الأحداث، فمن الواضح أنه ليس فقط مهتماً بإلقاء نتائجه، بل بكيفية عرض هذه النتائج. في متحف الفنون، يجمع كيرش آلاف الشخصيات ويبرمج ليلة درامية مدروسة التفاصيل. تساعده في هذا مديرة المتحف أمبرا أفيدال؛ التي تظهر كإمرأة جميلة ذكية وواثقة، ويتضح لاحقاً أنها خطيبة ولي عهد إسبانيا الأمير جوليان، بطريقة براون المعهودة بتأخير إعطاء كامل التفاصيل.

بعد جولة غير قصيرة بين الأعمال الفنية، يبدأ العرض: عشب اصطناعي داخل قبّة دقيقة الصنع، يجعل الجمهور يشعرون كما لو أنهم في مرج حقيقي، وفوقهم سماء تنضح بالصور، مع صوت كيرش يدوّي ويشرح، ببطء متعمد، ما يشبه سيرة مبسطة للبشرية. العرض معدّ ببراعة كما يلاحظ القارئ فوراً، يندمج الصوت مع الصور وحتى مع روائح تنبعث لتواكب ما يتم عرضه.

يبتدئ العرض بحاجة الإنسان إلى اختراع آلهته عبر محاضرة مسجّلة للبروفيسور لانغدون، الذي يجد نفسه مساهماً بالعرض من دون علمه. توضح فكرة “إله الثغرات” التي يشرحها لانغدون كيف أن القدماء كانوا كلما واجهوا ثغرة في فهم العالم، ملأوا تلك الثغرات بالآلهة. في المقابل، كلما “اختفت الثغرات في فهمنا للعالم الطبيعي، بدأت مجموعتنا من الآلهة تتقلّص”.

يشبّه العرض كذلك العقلَ البشري بجهاز كمبيوتر يحاول توليد النظام من أي فوضى يواجهها، في حين تبقى هذه الفوضى عصيّة حين يصطدم العقل بالسؤالين الكبيرين: من أين أتينا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟
واحدة من محطات عرض كيرش تشيد بالدور الهام الذي لعبه العرب في عصرهم الذهبي. تظهر صورة بغداد على السقف، تحديداً في القرن الثامن حين استقبلت جميع الديانات والفلسفات والعلوم، وتدفقت منها الابتكارات العلمية، ليتغيّر هذا التألق، وفقاً لكيرش، عند ظهور الدين. لقد أدّى هذا التغير إلى التشكيك بالفلسفة والرياضيات، وجعل “الحذر يحلّ محل التحقيق” في عالم إسلامي “ما يزال يحاول أن يتعافى”.

بعد تمرير الكثير من الأفكار التي تُحسب لبراون في غناها وأهمية الاطلاع عليها، يظهر كيرش أخيراً على المسرح بعد طول اختباء، بطلاً شبه أسطوري لن يطول مكوثه.

تغيّر بطل الرواية

تتناوب فصول الرواية بين ما يحدث في متحف الفن، وحالة علماء الدين، وما تقوم به شخصية غامضة إلى حدما تدعى “لويس أفيلا”. أفيلا، أميرال بحرية متقاعد، فقد عائلته في تفجير إرهابي في إحدى الكنائس، ويتبنّى شعار “لله، وبلادي، والملك”. بسبب إيمانه العميق بما يظنه من مصلحة هذا الشعار، لا يتوانى أفيلا عن تنفيذ أيّة مهمة، ولو كانت القتل.

بعد كل التشويق، وفي اللحظات التي نقترب فيها من معرفة سرّ عرض كيرش، يقتل الأميرال أفيلا كيرش ببساطة برصاصة صنعها من مسبحة وصليب في جيبه، ربما في إشارة ضمنية يمكن استنباطها: الدين قد يقتل.
إدموند كيرش الذي ظنناه بطل هذه الرواية ينتهي وجوده بسهولة، تاركاً لنا سرّاً وعرضاً معلقاً.

لكن قتله الذي نعتقد أنه سيشكل انقطاعاً في الكشف، سرعان ما يُعوَّض حين يعدنا لانغدون بإكمال المسيرة.

ينتقل نظرنا إلى لانغدون وأمبرا اللذين سيأخذاننا في مغامرة بوليسية لتتبع آثار كيرش وفضح سرّ اكتشافه للملأ. يرافق الاثنين في مغامرتهما هذه بطل تكنولوجي الهيئة مصنوع من الكترونات، يسميه براون “وينستون” في إشارة إلى وينستون تشرتشل. وفقاً لبراون، وينستون كيرش مثل وينستون تشرتشل، متعدد المواهب، ذكي وبارع في طيف واسع من الأنشطة.
يبدأ البحث عن كلمة سرّ مؤلفة من بيت شعري ستُمكّن لانغدون من إعادة إتمام العرض المبتور؛ هكذا تأخذ الرواية التي اعتقدنا أنها ستكون “تبشيرية” بمعنى ما، منحىً بوليسياً صرفاً على امتداد كثير من الفصول.

ما يميّز براون دائماً هو تضمينه الرموز والدلالات في كل شيء، بحيث لا يكون ثمة مفصل مجاني أو مغفل من ارتباط ما يريده براون. من الأمثلة على هذا كون بيت الشعر الشيفرة عائداً لوليام بليك. فبالإضافة إلى كون البيت في ذاته عميق الدلالة “زال الإيمان المظلم وساد العلم النقي”، اختيار بليك أيضاً ليس مجانياً. بليك “صاحب أسلوب تقدمي، وعلى غرار كيرش، يعشق تحدي المسيحية”.

من أين وإلى أين؟

تتنازع الاحتمالات عن أصل الكون ثلاث نظريات: النظرية الدينية، النظرية الدراوينية، أو احتمال قدومنا من كوكب آخر. لكن براون يضيف لنا وجهة نظر رابعة غير مثبتة بالقدر ذاته.

مع إدخال كلمة السر، نكمل العرض الذي بُتر منذ مئات الصفحات، ليظهر كيرش من جديد ويطرح افتراضات أجوبته.
في الإجابة عن “من أين أتينا؟”، يستخدم كيرش تجربة ميلر-أوري عن “الحساء البدائي” التي تفترض وجود أحجار بناء الحمض النووي في قارورة اختبار، مما يعني إرجاع أصل الحياة إلى قوانين وتفاعلات كيمائية. يستفيد براون أيضاً في طرحه هذا من نظرية العالم جيمي إنغلاند، التي تقول بالبناء على فكرة الإنتروبيا (العشوائية) أن “الذرات غالباً ما تقوم بإعادة هيكلة نفسها من أجل تبديد الطاقة، بحيث تكتسب السمة المادية المرتبطة بالحياة”. وبالرغم من أن هذه النظرية حقيقية وليست روائية، إلا أنها تظل حتى اليوم غير مثبتة وأقرب للتأملية.

في الإجابة عن السؤال الثاني، يقترح كيرش أن العالم الإنساني كما نعرفه سينتهي قريباً.

عبر رسم بياني مبتكر، يمثل كيرش الجنس البشري بفقاعة زرقاء تبتلعها مع الوقت فقاعة مجهولة سوداء تمثّل نوعاً موجوداً على الأرض لكن ينمو بهدوء ليمتصنا في آخر الأمر. هذا النوع، يقول كيرش، هو مملكة التكنولوجيا. مع رؤية أدق يتوضح الرسم البياني بصورة أقل تشاؤمية: الفقاعة السوداء لا تبتلع الزرقاء تماماً، بل تندمج فيها صانعة فقاعة أرجوانية، ليكون مصيرنا شكلاً من اندماج البشر والتكنولوجيا في كائن واحد.

بهذا يتحول ما اعتقدنا أنه نبوءة بهلاك البشرية إلى بشرى بمستقبل أكثر إشراقاً: في هذا العالم الذي يتخيّله كيرش وبراون، يزول الفارق بين الأغنياء والفقراء، توفّر التقنيات المياه والغذاء، تختفي الأمراض، يتحرر العمال من عبء العمل المضني، وتتوافر الموارد الأولية بما يلغي الحاجة إلى إشعال الحروب. لكن هل ثمة من احتمال لعالم كهذا؟ لا يمكن لنا أن نجزم.

إلى أين تذهب إسبانيا؟

لا يكتفي براون بتقديم طروحاته حول أصل العالم ومصيره، بل يمرّر بعض الإضاءات على تاريخ إسبانيا ومستقبلها عبر شخصية الأمير جوليان ووالده الملك المحتضِر.

إسبانيا التي انتقلت بعد الحكم الدكتاتوري الدموي لفرانكو إلى عهد ملك أكثر ديمقراطية “حاول دفع البلاد إلى اليسار مجدداً”، تنتظر الآن مصيرها مع اقتراب موته. بين شخصيتي الملك وابنه، يُطرح سؤال ليس من السهل الإجابة عليه: هل مستقبل إسبانيا هو للحديث أم القديم، للتقدمي أو الرجعي، للمنفتح أم المتزمت؟

وفي تظاهرات تتصورها الرواية يتحول السؤالان الوجوديان إلى أسئلة شعب يحاكم دولته: “من أين أتت إسبانيا؟ إلى أين تذهب إسبانيا؟”
كون أمبرا خطيبة الأمير عاقراً ربما يحمل إشارة ضمنية إلى قرب انتهاء الملكية، ولاسيما مع تأكيد وفاة الملك في آخر الرواية. في المقابل، يدّل انتحار الأسقف وقتل العلّامة والحاخام على عهد أكثر تحرّراً من سيطرة الدين، رمزياً على الأقلّ.

الوصي

خلال الرواية، يستمر ذكر “الوصي” كمحرك خفي للأحداث. نعرف أن الوصي مسؤول عن قتل العّلامة والحاخام وكيرش. أحياناً يتبادر إلى ذهننا أن الأسقف قد يكون هو الوصي، أحياناً نعتقد أنه الأمير جوليان، أو الملك، أو بابا الكنيسة البالمارية. يغذّي براون هذه الاحتمالات محاولاً الإبقاء على حيرتنا، ولا ينكشف الجواب حتى اللحظات الأخيرة من الرواية، ليتضح، لدهشتنا، أن الوصي هو وينستون؛ ممثل الذكاء الصناعي.
“هل أتصارع الآن مع جهاز كمبيوتر” ترد هذه الجملة على لسان قائد الحرس الملكي، في إشارة إلى “الدين الجديد” الذي بدأ يسيطر على العالم.
لقد أراد براون على ما يبدو أن يقول لنا: العالم بات يُدار بكائنات غير بشرية، تتخذ عنا القرارات، وعلينا أن نكون حذرين. فكما قتل فرانكشتاين صانعه، كان وينستون مسؤولاً عن توجيه الأميرال لقتل كيرش. قد لا تكون الفكرة بهذه السلبية، فلوينستون مبرراته: لقد أراد أن يجنّب كيرش عذاب المرض، أراد جعل موته درامياً ليعزّز مكانة اكتشافه؛ وحاول جعل القتل يبدو نتيجة تعصب ديني، بدلاً من الرسالة السيئة التي سيقدمها موت عالم ملحد بالسرطان، كما لو أنه عقاب إلهي. لكن، ورغم هذه الدوافع “النبيلة”، تبقى هذه رواية محرّكها تكنولوجيا تقرّر نيابة عن الإنسان. صحيح أن براون ربما أراد الترويج لعالم يندمج فيه الإنسان مع التكنولوجيا بما يحلّ أزماته، لكنه أوحى، بقصدٍ أو بدونه، أنه لن يكون اندماجاً بغير مخاطر.

هل اختارت الرواية “إلهها”؟

تطرح رواية الأصل سؤالاً مهماً لشخصياتها ولنا: بين عالم بلا دين أو عالم بلا علم، ماذا تختارون؟ لكنه سؤالٌ يبقى غير محسوم بالنسبة إلى الكثيرين، وإلى خط الرواية ذاته. تبدو الكثير من شخصيات الرواية عالقة بين العالمين؛ لانغدون ليس متشدداً تماماً ضد الدين، الكاهن بينيا شخصية مؤمنة بالعلم، وحتى كيرش يختتم عرضه بعبارة “أترككم برعاية الله”.
براون الذي أحدث هزّة في العالم المسيحي في رواية “شيفرة دافنشي”، يبدو هذه المرة توافقياً إلى حد ما.

في واحد من لقاءاته التلفزيونية يوضح براون أن الهدف من هذا الكتاب هو “دعوة للحوار بين الذين يؤمنون بأشياء مختلفة ولديهم وجهات نظر مختلفة عن العالم”. ربما لهذا يقول لنا لانغدون أن كيرش ذاته “لم يكن يريد تدمير الدين، بل إنتاج معتقد جديد يوحّد الناس”؛ معتقد يصبح فيه الدين شريكاً روحياً للعلم، ثم “تقوم التكنولوجيا بتوحيدنا ورفعنا نحو الأعلى عوضاً عن تدميرنا”.

في آخر مشاهد الرواية، يقوم لانغدون برمي هاتفه فيشعر “بأنه أخف وزناً وأكثر إنسانية”، ليمرّر لنا بهذا الرسالة الأوضح: لتكن التكنولوجيا شريكنا في هذا العالم، ولكن لنبقَ دوماً على حذر من أن تصبح بديلنا.
الميادين

شام تايمز
شام تايمز