الجمعة , مارس 29 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

نظرة أبعد في الأحداث الفرنسية

نظرة أبعد في الأحداث الفرنسية

شام تايمز

مازن جبور

شام تايمز

الشغب المتنامي بسرعة والممتد من مدينة إلى مدينة فرنسية ومن دولة أوربية إلى أخرى كامتداد النار في الهشيم، لا يمكن النظر إليه فقط باعتباره حدث تظهر تطوراته حقيقة ما حدث في سورية أو تظهر الازدواجية الغربية والفرنسية منها في التعاطي الإعلامي والرسمي مع الأزمة السورية، إذ لا بد من النظر أبعد من ذلك، أي النظر في العمق إلى الأحداث، من خلال الحديث عن أسبابها الداخلية والخارجية، والتمحُّص فيها بغية الوصول إلى استنتاجات في صلب علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع.
يبدو جلياً في الحدث الفرنسي كما في غيرها من أحداث شعبية شهدتها عدة دول في العالم خلال العقد الحالي، الإمكانية الكبيرة التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي لفواعل جديدة غير تقليدية للتعبير عن آرائها خارج التشكيلات السياسية والتنظيمات الاجتماعية التقليدية من أحزاب ونقابات وغيرها، وباتت تعبر عن فضاءات جديدة للسياسة في ظل انحسار لدور الدولة القومية وسيادتها، وهناك من يرى أن هذه الفواعل الجديدة تخضع لتوجيهات مالكي وسائل التواصل الحديثة وهناك من يرى أنها عفوية، كما أن هناك رأياً غالباً يقول إنها تتلقى توجيهاتها من الطرفين في آن معاً، وأي كان الرأي الأصح، إلا أنها في كل الحالات باتت قوة فاعلة قادرة على التأثير وعلى التغيير، وضمن هذا السياق يمكن إدراج حركة «السترات الصفراء» في فرنسا.
انطلاقاً مما سبق، وتأكيداً على الرأي القائل: إن مجمل مجريات الأحداث الشبيهة بالحدث الفرنسي والحدث الفرنسي ذاته، ظهرت تأكيدات أنها ذات أسباب داخلية وخارجية في الوقت ذاته، سنقدم رأياً في الأسباب الداخلية والخارجية لمجريات فرنسا.
ففي إطار الأبعاد الخارجية، بدأت تظهر مفاعيله بشكل رسمي من خلال تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي دعا فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى عدم التدخل في شؤون فرنسا الداخلية على خلفية احتجاجات «السترات الصفراء»، وجاءت دعوة الوزير الفرنسي هذه في تصريحات أدلى بها، رداً على تعليق للرئيس الأميركي، ربط فيه بين الاحتجاجات الأخيرة واتفاق باريس للمناخ، داعياً إلى إنهاء هذا الاتفاق الذي وصفه بالسخيف والمكلف جداً، وإعادة الأموال المخصصة له للمواطنين الفرنسيين.
يظهر جلياً كيف أن ترامب أراد استغلال مطالب «السترات الصفراء» التي خرجت بمطلب رئيسي وهو إلغاء رفع سعر المشتقات النفطية، لينتقل الأمر إلى خفض الضرائب ورفع الرواتب، استغلال ترامب لتلك المطالب كي يتدخل في فرنسا لم يأت عن عبث وليس وليد الساعة أو وليد تخريفات ترامب المتكررة، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخلاف فرنسي أميركي أعمق قائم في الأساس على خروج أوروبي قوامه ألماني فرنسي عن التبعية الأميركية والبحث عن أدوار مستقلة في النظام الدولي خارج الدائرة الأميركية، ومحاولة إيجاد شركاء جدد من الدول الكبرى في النظام الدولي وعلى رأسهم روسيا.
إذا نظرنا إلى العلاقة الأميركية الفرنسية منذ مطلع القرن الحالي، نجد أنها وإن كانت تبتعد عن إظهار العداء لواشنطن، إلا أنها وفي الوقت ذاته في العمق كانت تسعى للفصل بين الموقف الفرنسي والموقف الأميركي في القضايا الكبرى على مستوى النظام الدولي والبحث عن مرتكزات جديدة لفرنسا في النظام الدولي القائم، إذ لم تساهم فرنسا في حرب العراق كما فعلت بريطانيا كما أنها راحت تبحث عن مكانة جديدة لها على المستوى الدولي، وبهذا الهدف كان طرح مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، وهو منظمة حكومية دولية تضم 43 بلداً من أوروبا وحوض البحر المتوسط: بلدان الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرون وخمسة عشر بلداً متوسطياً شريكاً من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا، أُنشئ عام 2008 في قمة باريس من أجل المتوسط بهدف تعزيز الشراكة الأورومتوسطية، وضمن هذا الإطار يمكن فهم اشتراك فرنسا في العملية العسكرية ضد ليبيا.
وعلى الرغم من كل العداء الذي كنته فرنسا وأظهرته لسورية واشتراكها مع أميركا في العدوان الثلاثي الذي استهدف سورية العام الفائت، إلا أن هذا لا يخرج عن إطار المجاملة الفرنسية لأميركا ولا يخرج أيضاً عن مطالبات واشنطن لكل من باريس وبرلين للعب دور أكبر في الحدث السوري بصفتهما عضوين رئيسيين في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، بغية ملء الفراغ بالشرق الأوسط، وبتوصيف أدق، بغية تطويق النفوذ الروسي المتنامي في الشرق الأوسط، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن باريس كانت تحافظ على علاقات ودية مع موسكو ظهرت على شكل نتائجِ قمة سان بطرسبورغ بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي عقدت منتصف العام الجاري.
على الصعيد الداخلي، وباعتبار أن الحدث الفرنسي هو حدث ذو أسباب داخلية مطلبية أساسها كما يظهر على وسائل الإعلام وجود حقد من النوع الطبقي من الفقراء ضد أغنياء فرنسا الذين في الوقت ذاته يمثلهم ماكرون، إن شكل الحدث الفرنسي القائم على معادلة فقير ضد غني لا يخرج عن مبدأ باريتو الذي يقول: إن 80 بالمئة من النتائج سببها 20 بالمئة من الأسباب. ويعرف هذا البدء أيضا بقاعدة 80 – 20. وسمي هذا المبدأ على اسم عالم الاقتصاد الإيطالي فيلفريدو باريتو الذي لاحظ أن 80 بالمئة من الثروة في إيطاليا، مملوكة لـ20 بالمئة من السكان، وأعتقد أن هذه القاعدة يمكن أن تعمم على كامل أوروبا والإحساس الذي تتركه عند الفقراء سيتنامى ويتضاعف ويصل إلى حد إيجاد المبرر الذي يتيح لهم الاستيلاء على أموال الأغنياء، وإن إظهار أن للجاليات في فرنسا الإفريقية والأسيوية بشكل عام والعربية منها على وجه الخصوص ليس سوى نتيجة طبيعية لقرون من الاستعمار الذي مارسته أوروبا على هؤلاء، وسرقة الاستعمار القديم، أي فرنسا وبريطانيا، لخيراتهم واستعبادها لهم، فاجتازوا البحر وتعرضوا للخطر للوصول إلى أوروبا سعياً وراء لقمة العيش، هذا الشعور بدأ يأخذ طريقه داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها وبدأت تظهر مفاعيله على الأرض كما هي حالة «السترات الصفراء» في فرنسا التي بدأت تنتقل إلى بلدان أوروبية أخرى وستصل بالحدة نفسها ربما إلى ألمانيا، لكنها لن تكون بالأثر نفسه لدى بريطانيا باعتبارها ما زالت ضمن التبعية الأميركية ولن يكون للعامل الخارجي الدور ذاته في الدول الأوربية الأخرى.
لعل هناك تأثير لعامل داخلي آخر ذي صلة وثيقة بما سبق، وهو غياب القيادة الكارزمية عن معظم أوروبا منذ بداية القرن الحالي، فجميع القيادات الأوربية الحالية هي قيادات هزيلة جاءت بناءً على دعم الطبقة الغنية وليس الشعب وماكرون الرئيس الفرنسي الحالي خير دليل على ذلك، فمن موظف بنكي إلى وزير اقتصاد إلى رئيس لفرنسا في زمن قصير جداً.
في النهاية أعتقد أن ما يجري في فرنسا وما ستؤول إليه الأمور في أوروبا في الأيام القادمة يقتضي أن نعيد النظر في علم السياسة بشكل عام فلم تعد النظريات والأدوات التقليدية لهذا العلم ذات جدوى في تفسير ما يجري أو في السيطرة على ما يجري ولا بد من إعادة إنتاج فكر متناسب مع المعطيات السياسية الجديدة، إذ إن التجربة الفرنسية ستعمم ليس على أوروبا والدول الغنية عموماً في العالم، بل وعلى بلدان العالم الثالث، باعتبار أن مبدأ باريتو فيها قائم على معادلة 95 – 5 نسبة الأغنياء إلى الفقراء.

الوطن

شام تايمز
شام تايمز