الجمعة , مارس 29 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

كيف كشف نهر النيل بعض أسرار المصريين القدماء؟

كيف كشف نهر النيل بعض أسرار المصريين القدماء؟
“فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امريء أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر”، ترنيمة دوّنها المصري القديم في نصوصه الأدبية تبرز قدر عرفانه لنهر النيل، جاعلا منه الإله الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم.
أدرك المصريون أهمية النيل منذ عصور موغلة في القدم، فاجتهدوا في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي، ولم يبالغ العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته “المجاعة في مصر القديمة” عندما أشار إلى أن “النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر”.
البداية
توافرت مقومات الحياة البشرية في منطقة شمال أفريقيا خلال العصر الحجري القديم، نظرا لنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، فاعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية عُثر على كثير منها في صحراء مصر الشرقية والغربية.
بيد أن التغيرات المناخية دفعت السكان نحو الأنهار، نتيجة الجفاف وندرة الأمطار، فظهر نمط جديد من المجتمعات في مصر، وهو شكل من أشكال الحياة البدائية التي ربما تعود جذورها وأقدم مفاهيمها وآلهتها إلى مستهل العصر الحجري الحديث منذ حوالي عام 5800 قبل الميلاد، لاسيما في مناطق الفيوم ومرمدة والعُمَري في مصر الوسطى والشمالية، والهمامية والبداري وتاسا في الوجه القبلي جنوبا.
ماذا تعني كلمة “النيل”؟
أطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة “إيترو عا” بمعنى (النهر العظيم)، وتشير الأصول اللغوية لكلمة النيل إلى أنها من أصل يوناني، “نيلوس”، بيد أن آخرين تحدثوا عن أصول فينيقية للكلمة اشتقت من الكلمة السامية “نهل” بمعنى (مجرى أو نهر).
وذهب المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى إن النيل أُطلق عليه هذا الاسم تخليدا لذكرى ملك يدعى “نيلوس” اعتلى عرش البلاد وحفر الترع والقنوات فأطلق المصريون اسمه على نهرهم، وتُستخدم “نيلوس” كاسم علم مذكر بحسب عقد بيع مدوّن على بردية يعود إلى العصر الروماني، يحتفظ به المتحف المصري، بين رجل يدعى “نيلوس” وآخر يدعى “إسيدوروس”.
ويرى العالم المصري رمضان عبده، في دراسته الموسوعية “حضارة مصر القديمة”، ضمن إصدارات وزارة الآثار المصرية، أن كلمة النيل مشتقة من أصل مصري صميم من العبارة “نا إيترو” والتي تعني (النهر ذو الفروع)، كما أطلق المصريون على مجرى النهر اسم “حبت إنت إيترو” (مجرى النهر)، وأطلقوا على فروع النيل في أرض مصر “إيترو نوكيمت” (فروع الأرض السوداء).
بداية مصرية لاستكشاف منابع النيل
تشير الوثائق التاريخية إلى حدوث اتصال ما بين المصريين القدماء ومناطق تقع في جنوب مصر، بلاد “كوش” و”يام” و”بونت”، الأمر الذي يرجح بعض دراية للمصريين بإقليم بحر الغزال، أحد روافد النيل في جنوب السودان، منذ عصور الدولة القديمة، ونتيجة حرص المصريين على التوغل في النوبة والسودان، ظهر رحّالة ومستكشفون في الأسرة السادسة معظمهم من أمراء أسوان جنوبي مصر.
نظم حاكم الجنوب ويدعى “حرخوف” أربع حملات استكشافية إلى أفريقيا بناء على أوامر من الملكين “مر-إن-رع” و”بيبي الثاني” حوالي 2200 قبل الميلاد، وحرص “حرخوف” على تسجيل وقائع رحلاته في مقبرته في أسوان، كما في هذا المقتطف من نص كامل نقلته إلى الفرنسية عن اللغة المصرية القديمة العالمة كلير لالويت في دراستها “الفراعنة في مملكة مصر زمن الملوك الآلهة”:
“أرسلني سيدي صاحب الجلالة مر-إن-رع، في صحبة والدي، الصديق الأوحد، والكاهن المرتل إيري إلى بلاد يام لاستكشاف دروبها، أنجزت هذه المهمة في غضون سبعة أشهر، وجلبت منها شتى أشكال (الهدايا) الجميلة منها والنادرة ونلت من أجل ذلك المديح كل المديح”.
النيل رب الحياة
لاحظ المصريون فيضان النيل وانحساره في أوقات مناسبة على نحو يمكن استفادة أرض مصر منها، إذ يفيض في الصيف والأرض في أشد الحاجة إلى الماء، يغمرها ويجدد حياتها، وينحسر في وقت يناسب الزراعة، فتُبذر الحبوب، فكانت بداية اهتداء المصريين لفكرة التقويم.
وضع المصريون ما يعرف اصطلاحا بـ”التقويم النيلي”، الذي يبدأ ببداية الفيضان، عندما تصل المياه إلى منطقة استراتيجية مهمة، ويعتقد العلماء أنها كانت منطقة تتوسط مدينتي “أونو” و”إنب حج”، كما لاحظ المصريون اقتران الحدث بظاهرة سماوية هي ظهور نجم الشعرى اليمانية.
ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال في دراسته “تاريخ مصر القديم”: “كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هي قياس ارتفاع منسوب مياه الفيضان، وما يُسجل عند مستوى مدينة منف، وهي الأرض التي شهدت توحيد البلاد على ما يفترض، ويتفق تماما مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وفقا للتقويم اليولياني، وتحدث هذه الظاهرة في 19 من شهر يوليو/تموز”.
أحصى الفلكيون المصريون عدد الأيام بين كل ظهور للنجم فوجدوها 365 يوما، وقسموها إلى 12 شهرا، كما قسموا السنة إلى ثلاثة فصول تحددت بناء على أحوال النيل: “آخت” وهو فصل الفيضان وبذر البذور، من منتصف يوليو/تموز إلى منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، و”برت” وهو فصل النمو، ويوازي فصل الشتاء، ويبدأ من منتصف نوفمبر/تشرين الثاني إلى منتصف مارس/آذار، و”شمو” فصل حصاد الزرع، من منتصف مارس/آذار إلى منتصف يوليو/تموز.
ساعد النيل المصريين في تكوين مجتمعات صغيرة، يتعاون أفرادها في زراعة ما بها من أراض، وأحيانا كانوا يلجأون إلى توسيع حدودها بالاستيلاء على أراض المجتمعات المجاورة، إلى أن اندمجت هذه المجتمعات وشكلت كيانا أكبر اتحد في عهد الملك “نعرمر (مينا) ” فظهر أول شكل مترابط سياسيا واجتماعيا للأراضي المصرية بفضل النيل.
عرف المصريون أيضا، إلى جانب الزراعة التي اعتمدت على مياه النيل، صيد الأسماك، فابتكروا القوارب كوسيلة للصيد والمواصلات، وسجّلوا العديد من المشاهد المائية على جدران المقابر، التي كانت توضع بداخلها أسماك النيل لتقديمها قرابين من المتوفى في العالم الآخر.
“النيل المقدس”
نظر المصريون إلى النيل بعين القداسة، واستخدموا مياه النهر للتطهر ولأداء الطقوس الدينية وغسل المتوفى.
كان الاغتسال بماء النيل ضرورة حياتية مصرية كنوع من النظافة والتطهر البدني والروحي، وهي عملية تحمل معنيين، فعلي ورمزي، في وجدان المصري، أما الفعلي فهو يشمل نظافة الجسد والملبس والمأكل والمسكن فضلا عن التطهر كضرورة لتأدية الطقوس الدينية، أما الرمزي فيشمل طهارة النفس روحيا من كل شائبة.
وبرز تقديس النيل من خلال حرص المصري على طهارة ماء النهر من كل دنس، كواجب مقدس، ومن يلوث هذا الماء يتعرض لعقوبة انتهاكه غضب الآلهة في يوم الحساب.
و يشير نص قديم إلى أن “من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة”، وأكد المصري في اعترافاته الإنكارية في العالم الآخر ما يفيد عدم منعه جريان الماء درءا للخير، كما ورد في الفصل 125 من نص “الخروج إلى النهار (كتاب الموتى)” نقلا عن الترجمة الفرنسية للعالم بول بارجيه: “لم أمنع الماء في موسمه، لم أقم عائقا (سدا) أمام الماء المتدفق”، وفي نص مشابه على جدران مقبرة “حرخوف” في أسوان عدّد صفاته أمام الإله من بينها “أنا لم ألوث ماء النهر…لم أمنع الفيضان في موسمه…لم أقم سدا للماء الجاري…أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى”.
ويقول الفرنسي فاندييه إن الماء في الفكر الديني المصري القديم “يمثل عنصرا أساسيا منه تخرج الحياة الجديدة، وإلى المحيط الأزلي تؤول الشمس وقت الشفق، لتبث فيه قوة نشطة جديدة”.
خصص المصريون القدماء عددا من الأرباب ارتبطوا بنهر النيل أشهرهم الإله “حعبي”، الذي يمثل فيضان النيل سنويا، ومصدر الحياة الأولى عموما (بداية الخلق) ومصدر الحياة الأولى للمصري القديم.
وُصف حعبي بـ “سيد القرابين” وكان أهم دور كمعبود هو تجسيد فيضان النيل، وورد ذكره كثيرا فيما يعرف بـ “أناشيد النيل” وضمن فقرات في “نصوص التوابيت”، كما أُطلق عليه أيضا “سيد الفيضان” و”رب أزلي” و”خالق” و”رب الأرباب” و”أقدم الأرباب”، كما وصف بـ “سيد الكل”، الذي يحدث التوازن في الكون.
يرجع أقدم ظهور للمعبود حعبي كرب للفيضان إلى عصر الدولة القديمة، وأقدم تصوير له يرجع إلى عهد الملك سنفرو، ومنذ بداية الأسرة الخامسة بدأ تصوير حعبي ضمن أرباب الخصوبة في معبد الملك “ساحورع”، كما صُور على هيئة رجل ممتليء الجسم له ثديان كبيران يتدفق منهما الماء، كرمز للخصوبة والنماء، وصُور حاملا الزهور والدواجن والأسماك والخضراوات والفاكهة، أو زهرة لوتس، شعار مصر العليا، ونبات البردي، شعار مصر السفلى.
ترانيم النيل
دأب الكهنة والمصريون على ترديد أناشيد وترانيم للنيل عرفانا بقدره ونعمه على الناس، من بين هذه المدائح الدينية نص يعود إلى عصر الدولة الوسطى يقول: “المديح لك يا حعبي، الذي يخرج من الأرض، ويأتي ليعيد الحياة لمصر”، وفي موضع آخر يمدح المصري القديم النيل ويدعوه إلى الفيضان قائلا:
“يا مسبب الخضرة، ليتك تأتي. يا حعبي ليتك تأتي إلى مصر يا خالق القرابين، يا مسبب خضرة الضفتين لتعطي الحياة للناس والحيوانات من منتجاتك من الحقول، يا مسبب الخضرة ليتك تأتي”.
كما يشير نص مديح في بردية تورينو، تعود إلى الأسرة 19، أورد ترجمته العالم المصري رمضان عبده في دراسته “حضارة مصر القديمة” يقول:
“إنه هو الذي يروي المراعي، هو المخلوق من رع (إله الشمس) ليغذي الماشية، وهو الذي يسقي الأرض الصحراوية البعيدة عن الماء. ماؤه هو الذي يسقط من السماء، إنه هو الذي يأتي بالقوت، وهو الذي يكثر الطعام، وهو الذي يخلق كل شيء طيب، ويمدحه الناس”.
ويضيف النص: “هو الذي يملأ المخازن ويزيد حجم شون الغلال، هو الذي يعطي الفقراء، هو الذي يجعل الثمار تنمو كما يشتهي الجميع. فلا ينقص الناس أي شيء، ومن كان حزينا يصبح مسرورا… الفيضان ينساب على الأرض الخضراء، لكي يعطي الحياة إلى جميع العطشى، وعندما يرتفع تشدو الأرض فرحة”.
تصوّر الفكر الديني المصري القديم أن روحا تكمن وراء هذا النهر العظيم، تدفع مياه الفيضان حاملة الخصب، وهي روح المعبود حعبي، كهذا المقتطف من نص ترنيمة للنيل، أورده العالم الفرنسي جان فيركوتير، في دراسته “مصر القديمة”:
“تحية لك يا حعبي، أخرج من هذه الأرض واحضر لتهب مصر الحياة، إنك تخفي مجيئك في الظلمات، وتغطي أمواهك البساتين، أنت واهب الحياة لكل ظمآن، عندئذ ارتفعت أصوات الأرض مهللة، البطون فرحة وسعيدة، والزهور تهتز من الضحك والأسنان تمضغ”.
النيل وقصص الحب المصرية
ظهر النيل بقوة في مشاهد أدبية كثيرة سجلها الأدب المصري بأنواعه، لاسيما أشعار الغزل التي ظهرت بدءا من 1500 قبل الميلاد، وهي فترة تحررت فيها العادات، ويعد عصر الرعامسة على وجه التحديد العصر الذي انطلق فيه الشعر الشخصي متحررا من كل قيد.
وترجح العالمة الفرنسية كلير لالويت، في دراستها “نصوص مقدسة ونصوص دنيوية” ضمن سلسلة منظمة اليونسكو لنماذج الفكر العالمي، أن تلك القصائد “كانت تلقى أثناء الولائم، بمصاحبة الموسيقى على آلتي الفلوت والجنك”، وتورد أبيات شعرية سجلتها قطع عُثر عليها لسطح إناء، محفوظ في المتحف المصري، يحضر فيها النيل بقوة في مشهد غرامي جمع حبيبين كهذا المقتطف:
“حبيبي، كم يحلو لي أن أرحل، أن أنزل إلى النهر واستحم أمامك، إني اتركك تشاهد جمالي، وأنا في سروالي (المصنوع) من الكتان الملكي، من أرقّه، أنا معطرة بالطيب الزكي، أغوص في الماء بجوارك، من أجل حبك، أخرج ممسكة بسمكة حمراء بين أصابعي، يا صديقي، يا محبوبي، تعال وشاهدني”.
وتواصل الأبيات حركتها الأدبية لتنتقل إلى المحبوب في فقرات تصويرية جديدة:
“عشق حبيبتي على الشاطيء الآخر، النهر يفصل بيننا، المياه تندفع بشدة في زمن الفيضان، والتمساح واقف رابض فوق شط رملي، لكنني أنزل إلى الماء وأغوص وسط الأمواج، إن قلبي قوي فوق النهر، والتمساح يبدو لي كالفأر، الماء تحت قدمي أشبه باليابسة، إن حبي لها هو الذي يمنحني القوة، كأن (وجودها) قد سحر الماء، أنا لا أدري سوى رغبة قلبي وهي تقف أمامي”.
ساعد النيل خيال المصري على أن يخلق شراكة تجمع بين المرأة والطبيعة، وتشير لالويت في دراستها إلى أن هذه الشراكة “تمتزج امتزاجا تاما، وتشكل عنصري الخصوبة في الكون. فالمرأة والزهور والثمار لا تختلف من حيث الجوهر، إنها جميعها النموذج والشاهد على الحياة المتجددة، البشرية والنباتية، على حد سواء”
أسطورة “عروس النيل”
جاء ذكر أسطورة “عروس النيل” في كتاب “فتوح مصر والمغرب” لعبد الرحمن بن عبد الحكم، المتوفى عام 871 ميلاديا، ونقلها عنه كثيرون وتوارثوها، وتتلخص القصة في أن مصريين جاءوا إلى عمرو بن العاص، وطلبوا منه السماح بإلقاء فتاة بِكر في مياه نهر النيل كعادتهم كل عام وتقديمها قربانا للنهر ليفيض بالخير، وإن لم يفعلوا سيحل الجفاف، فرفض عمرو بن العاص، وقال لهم “هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله”.
وأرسل عمرو رسالة إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستشيره في الأمر، فأرسل عمر رسالة جاء فيها:”من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك”، فألقى عمرو بن العاص الرسالة في النيل وكان أهل مصر قد تهيأوا إلى “الجلاء والخروج منها، لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، وأصبحوا وقد أجراه الله تعالى 16 ذراعا في ليلة واحدة، وقُطع تلك السنة السوء عن أهل مصر”.
ترسخت الأسطورة في الأذهان وتناقلتها الأجيال كموروث شفهي عن ابن الحكم في مؤلفه، على الرغم من عدم ذكر النصوص المصرية القديمة من قريب أو بعيد لها، فالثابت في المعتقد الديني المصري عدم تقديم قرابين بشرية إلي معبود مهما علا شأنه، كما توجد لوحات وبرديات تصف أحوال النيل وفيضانه وأزماته، لم يرد فيها أي ذكر لـ “عروس النيل” العذراء التي تُقدم كقربان للنيل، وقد فندها كثيرون من علماء دراسات تاريخ مصر القديم ويمكن تلخيص الآراء كما يلي:
عُثر على ثلاث لوحات تصف جميعها المراسم، الدينية والشعبية، التي تحتفل بفيضان النيل، وتعود إلى عصر الملك رعمسيس الثاني ومرنبتاح ورعمسيس الثالث، وتشير إلى أن الملك كان يحضر الاحتفال الذي يبدأ بذبح عجل أبيض وأوز وبط ودجاج كقربان، ثم تُلقى في النيل “رسالة” مكتوبة على ورق بردي تتضمن أناشيد تمدح النيل اعترافا بفضله.
تحتفظ بردية “هاريس” التي تعود إلى عصر رعمسيس الثالث بقائمة تذكر القرابين والحيوانات والفواكه والنباتات التي خصصت للمعابد، وتماثيل لمعبود النيل “حعبي”، وكانت تُلقى كل القرابين مع التماثيل في النيل، بحسب البردية.
زار كثير من الرحالة اليونان والرومان مصر بين القرنين السادس قبل الميلاد والقرن الأول، مثل هيكاتية في القرن السادس قبل الميلاد، وهيرودوت 448 قبل الميلاد، وديويدور الصقلي 59 قبل الميلاد، وسترابون حوالي 25 قبل الميلاد، وجميعهم كتبوا عن عادات مصر ولم يشر أي منهم إلى “عروس النيل”.
كان دخول العرب مصر عام 640 ميلاديا، وكان المصريون يعتنقون الديانة المسيحية، التي تجرّم القتل ولا تسمح بممارسة طقس مثل إلقاء فتاة وقتلها غرقا عرفانا للنيل وفيضانه.
استطاع العالم الفرنسي جاك فاندييه، في دراسته “المجاعة في مصر القديمة”، أن يجمع عددا كبيرا من النصوص التي تحدثت عن المجاعة، وجميعها من نصوص يزيد عددها على 55 من مصادر أثرية مختلفة (منها مصدر واحد وهو معبد إدفو ذكر 35 نصا، وتسع نصوص في معبد دندرة)، لم يأت ذكر لأي “عروس للنيل” بشرية تلقى في مياهه.
ويقول العالم المصري رمضان عبده في دراسته “حضارة مصر القديمة”، من إصدارات وزارة الآثار المصرية، إن ابن عبد الحكم “كتب هذه القصة بعد دخول العرب مصر بنحو 230 عاما، فإما أن تكون هذه القصة قد رويت له بمعرفة أحد المخرّفين، وإما أن تكون الحكاية برمتها من تأليفه هو، بقصد تنفير المصريين من مظاهر حضارتهم وعقائدهم القديمة والدعوة إلى الإسلام”.
ويضيف المؤرخ عبد الحميد زايد في دراسته “مصر الخالدة” قائلا: “قصة إلقاء فتاة في النيل، التي رواها المؤرخ العربي ابن عبد الحكم لا تعدو أن تكون أكذوبة من الأكاذيب المدعاة على مصر القديمة أو سوء فهم لبعض ما قام به المصريون عند الاحتفال بوفاء النيل في قصة عروس النيل، فهي قصة غير معقولة”.
آمن المصريون القدماء بالنيل، الضامن لحياتهم من مهالك القحط والضيق، واعتبروه الفيض السماوي الذي يهطل على أرضهم بالخير، ترنموا بأناشيده على آلاتهم الموسيقية، ورسموا به صورة حياة شكلت معنى التاريخ في مصر، كما يمكن أن نفهمه في الوقت الراهن، تاريخ يُؤْثر التصورات الذهنية ذات الدلالة والأبعاد الأبدية.
وتقول الفرنسية لالويت: “هذا التاريخ المديد الذي ننهمك في دراسته، بكل ما أوتينا من ولع وشغف صادقين، لن يصل أبدا إلى نهايته، إن علماء دراسات تاريخ مصر القديم أشبه بعامل بالقطعة، على المستويين الذهني والعقلي، يجمعون يوما بعد يوم عناصر جديدة تنبثق دون توقف من وسط رمال مصر”.

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز