الجمعة , مارس 29 2024

خلفيات وأبعاد انسحاب ترامب الجزئي من ألمانيا

خلفيات وأبعاد انسحاب ترامب الجزئي من ألمانيا

شام تايمز

منذر سليمان

شام تايمز

أثار مناهضو الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين القوى السياسية المتعددة زوبعة إعلامية ضد قرار وزير دفاعه، مارك إسبر، سحب “جزء” من القوات العسكرية الأميركية من ألمانيا ونشرها في أماكن أخرى من أوروبا بالقرب من الحدود الروسية، وخصوصاً الأراضي البولندية، بزعمهم أنّ القرار “يفجّر حِلفاً عمره 75 عاماً من دون مبرر”.

في حقيقة الأمر، إنَّ الرئيس ترامب أعلن عن ذلك الإجراء في 30 حزيران/يونيو الماضي، نظراً إلى “فشل” ألمانيا في زيادة إنفاقها العسكري إلى مستوى 2% من مجمل ناتجها السنوي. ومن مجموع 36،000 عسكري أميركي في ألمانيا، سيبقى نحو 24،000 منهم مرابطين في أراضيها، وسيتم نشر الباقي، أي نحو 12،000، في مناطق أوروبية مختلفة، والبعض سيعود إلى قواعده في بلاده.

متطلّبات “استراتيجية الدفاع الوطنية” الأميركية السنوية تخضع للتعديل الدائم، وفق طبيعة التحديات العالمية، وتصرف لها الميزانيات المطلوبة، ومتطلبات أخرى تحت بند “الطوارئ الخارجية”، والتي أوجزها مؤخراً وزير الدفاع مارك إسبر في وثيقة اعتمدتها القيادة العسكرية الأميركية لأوروبا، محورها التصدي لروسيا في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط.

وأوضح وزير الدفاع توجّهات البنتاغون إلى “ردع روسيا” بأنها نتيجة “إدراكنا دخول عصر جديد من تنافس القوى العظمى، فنحن الآن على أعتاب نقطة انعطاف مفصلية في بلورة حلف الناتو، وتطوير المرونة الاستراتيجية الأميركية، وكذلك لدى قيادة العمليات الأوروبية “يورو كوم”.

العنصر الجوهري في تدهور العلاقات الأميركية الألمانية هو مقاومة برلين لضغوط واشنطن، لدفعها إلى التخلي عن أنبوب “السيل الشمالي-2″، الذي سيحمل الغاز الطبيعي من روسيا مباشرة إلى ألمانيا، بطول يبلغ نحو 1200 كلم، وتوقف العمل به العام الماضي، نتيجة تلك الضغوط وإجراءات العقوبات الأميركية ضد روسيا.

تسلَّحت ألمانيا بحقها في ممارسة سيادتها على أراضيها، متهمة الولايات المتحدة بالتعدّي على حقها السيادي في إقرار مصدر الطاقة التي تحتاجها، وضاعفت تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، لتأمين مصدر طاقة مستقل عن النفوذ الأميركي.

وفي سياق مماثل، شدد الرئيس ترامب في كلمة له في ولاية تكساس، في 29 تموز/يوليو الماضي، على أن بلاده “باتت المنتج الأول عالمياً للنفط والغاز الطبيعي، ولن نفقد موقعنا المهيمن في المستقبل البعيد”.

الخبير الاقتصادي للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ماكس أوتِ، شدد في لقاءاته مع الصحافيين حول الأمر على أن مسألة زيادة الإنفاق العسكري ما هي إلا قضية ثانوية في مجمل العلاقة الثنائية، بل إن تقليص عدد القوات الأميركية في الأراضي الألمانية مطلب يحظى بدعم شعبي، و”الرئيس ترامب أدرك ذلك جيداً.”

واستدرك أوتِ، المستشار وعضو حزب ميركل الحاكم، أن الأجزاء الشرقية من ألمانيا تتميز بمناهضتها الشديدة لتواجد حلف الناتو. وقد انتشر في صفوف المواطنين شعار “دعونا نسحب (قوات) الناتو. دعونا نفعلها بأنفسنا”، جسدته تصريحات المستشارة ميركل في شهر تموز/يوليو الماضي، مشيرةً إلى أن قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن الاتحاد الأوروبي “لم تعد مسألة مسلّماً بها”.

في البعد الأميركي الصرف، تبنّت إدارة الرئيس أوباما مشروع “مبادرة الجهوزية” منذ العام 2014، لنشر قوات عسكرية على الخطوط الأمامية مع روسيا، قوامها تلك المتواجدة في أوروبا. واستقبلت كل من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا عدة تشكيلات عسكرية في أراضيها في العام 2016، “لتعزيز قوة ردع حلف الناتو”، بل أجمع قادة دول الحلف آنذاك على “إنشاء مقر قيادة إقليمي للقوات في مدينة نابولي في إيطاليا، تحسباً لاضطرابات قد تنشأ في منطقة البحر المتوسط”.

وفود قوات أميركية إضافية إلى إيطاليا، وخصوصاً في الطائرات المقاتلة، من شأنه أن يوفّر للبنتاغون مجال مناورة أوسع لمواجهة الأسطول الروسي في مياه المتوسط، ودعم قيادة القوات الأفريقية “آفريكوم”، بعد إعادتها تموقع مواردها الحربية لمواجهة الصين في المحيط الهادئ.

وعليه، إن إعلان وزير الدفاع الأميركي يأتي متّسقاً مع التوجهات الأميركية لإدارة أسلافها، وخصوصاً الرئيس أوباما، والمبنية على تعزيز الحضور العسكري الغربي على الحدود المشتركة مع روسيا. وأجرت القوات الأميركية في العام 2018 مناورات عسكرية مشتركة مع دول الحلف عنوانها “الدفاع عن أوروبا 2020”.

من جانبهم، ينظر الخبراء العسكريون الأميركيون إلى الجدل الراهن حول ألمانيا على أنّ الأزمة “نشأت من رحم توتر العلاقة الأميركية الألمانية غير الفعّالة، والتي تمتد إلى بضعة عقود زمنية، ومحركها الأساسي هو نظرة البلدين غير المتكافئة إلى القضايا العالمية”. ويضيف بعضهم بأن الصدام بينهما كان حتمياً، ولا بد من حدوثه يوماً ما، لتشبث “الجانب الأميركي بسردية تميّزه، مقابل القيم الألمانية المستندة إلى حق أوروبا في سيادتها”.

العنصر الأشدّ حساسية في علاقة البلدين، وفق بعض القادة الأميركيين، هو خشية القيادات الألمانية المتعاقبة من “سرعة انفعال أميركية تؤدي إلى نشوب حرب مع روسيا، تستخدم فيها الأسلحة النووية المخزّنة في الأراضي الألمانية”، وتدور رحاها على أراضيها، وهي التي لم تتعافَ تماماً من آفات الحروب العالمية.

يُشار في هذا الصّدد إلى توجهات المستشار الألماني الأسبق، فيلي برانت، إبّان الحرب الباردة، باعتماده سياسة “الانفراج” مع الاتحاد السوفياتي السابق لتكريس “استقلالية ألمانيا”، بعيداً من إملاءات واشنطن وحلفائها الأوروبيين، التي كررها أيضاً المستشار غيرهارد شرودر، 1998-2005، بنسجه علاقات أوثق مع روسيا، مثيراً غضب إدارة الرئيس جورج بوش الابن إبّان الحرب على العراق واحتلاله في العام 2003.

الإعلان الأميركي في ظاهره خفض القوات الأميركية في أوروبا وعودتها إلى بلادها، ويعزز توقيته موقع الرئيس ترامب، مرحلياً على الأقل، بين مؤيديه قبل الانتخابات الرئاسية، وتكامل سرديته بأنه يفي بوعوده الانتخابية. وفي البعد العملياتي واللوجيستي، فإن إعادة تموضع القوات الأميركية أو تقليص عددها في ألمانيا، سيستغرق فترة زمنية قد تمتدّ إلى بضعة أشهر، وربما أطول.

عند هذا المنعطف، لن يستطيع الرئيس ترامب تنفيذ وعوده في حال خسارته الانتخابات الرئاسية المقبلة، كما تشير بيانات استطلاعات الرأي، على الرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً لحسم التكهنات بهذا الشأن.

ومن المرجّح أن يقدِم خلفه المقبل، جو بايدن، على عكس اتجاه السياسة الأميركية في مجالات شتى، منها إلغاء قرارات سلفه ترامب بتقليص القوات الأميركية في ألمانيا، وتعزيز دور حلف الناتو في تنسيق وترجمة الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، بيد أنَّ المعضلة التي سيواجهها الرئيس الجديد، في حال فوزه في الانتخابات، هي ترميم العلاقات مع ألمانيا التي ستواجه معارضة قوية داخل الكونغرس، نظراً إلى عدم الرضا الواسع عن أنبوب “السيل الشمالي-2″، وتباين وجهات نظر الدول “الاشتراكية السابقة”، بولندا ودول البلطيق ورومانيا وبلغاريا، التي تؤيد بقوّة خطة إدارة الرئيس ترامب لإعادة تموضع القوات الأميركية في أراضيها، نظراً إلى توظيفها كعامل “يعزز مصالحها الأمنية”، كما يسود الاعتقاد بين صفوف قادة البنتاغون.

وهناك بُعد لا يتم التركيز عليه بشكلٍ وافٍ في عملية سحب القوات من ألمانيا، له علاقة بتوفير قوات محمولة خفيفة المعدات، يمكن تحريكها إلى جنوب شرق آسيا عند الضرورة في مواجهة الصين، وخصوصاً القوات التي سيتم إعادتها إلى الولايات المتحدة.

الميادين

شام تايمز
شام تايمز