الجمعة , مارس 29 2024

كي لا تضيع سوريا

كي لا تضيع سوريا

طارق الأحمد

شام تايمز

أشار الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب إلى جوهر نظرته إلى العملية السياسية الجارية منذ بدء الحرب، رافضاً تقديم التنازلات للخارج، تلك العملية السياسية التي كانت أولى بوادرها ورقة التفاهم في حزيران 2012 التي توصل إليها الحلفاء الروس مع ذلك العدد الضخم من الدول التي شهرت كل أسلحتها في وجه الأسد بغية الإطاحة به، فالتقت مع الولايات المتحدة الأمريكية و اوروبا والدول العربية كقطر و السعودية و تركيا في قمة وفاقهم و تنسيقهم لإرسال المال الكثير و السلاح و تنسيق السياسة و الاعلام لتحقيق ذلك الهدف.

شام تايمز

رغم ان ورقة التفاهم تلك فسرتها الدول المعادية لسورية بأنها نزع لشرعيته و دعوة إلى تشكيل جسم انتقالي ليستلم الحكم بموافقة كل الدول و روسيا ضمنها ، إلا أنها كانت بالنسبة إلى الروس، بداية مبكرة لحرف التوجه الكبير عن تشكيل تحالف عالمي لإسقاط النظام السوري بعد أن تمت شيطنته في الإعلام الغربي و العربي و أن توجيه العمل نحو السياسة و العمل الدبلوماسي كان أفضل ما يمكن تحقيقه آنذاك بما يترك لها الهامش الكبير لتحويل منحى الحرب لتصبح في مواجهة الإرهاب و تدخل في تحالف مع الدولة الشرعية بعد ذلك في عام 2015، ثم لتتدرج العملية السياسية في عشرات اللقاءات و المؤتمرات و عمل المبعوثين الأمميين من كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة مرورا بالاخضر الإبراهيمي و ستافان ديمستورا حتى غير بيدرسون النرويجي الحالي.

لكن أهم محطة وصلت إليها العملية السياسية هي صيغة مؤتمر سوتشي الذي عقد عام 2018 و ضم وفودا جاءت من قلب دمشق ممثلة عن الأحزاب السياسية القديمة فيها و المنضوية في تحالف الجبهة الوطنية التقدمية منذ عام 1972، إضافة إلى بعض الأحزاب التي تأسست بعد صدور قانون الأحزاب عام 2011 و ممثلين عن جميع النقابات و المجتمع المدني و التمثيل الشعبي من المناطق المختلفة، كما شارك عدد من قوى المعارضة في الداخل والخارج لتشكل أقل من ربع عدد المشاركين خاصة و لو ان بعض المدعوين قد قاطعوا تلك المشاركة.

الصيغة المشوّهة

اللجنة الدستورية التي تجتمع في جنيف برعاية الأمم المتحدة بشخص مبعوثها غير بيدرسون هي أحد مقررات مؤتمر سوتشي و لو أن تكوينها قد تم تحويره بنتيجة جهود المبعوث السابق ستافان ديمستورا الذي حضر المؤتمر في ساعته الأخيرة و كأنه كان يشارك باسم قوى حاضرة من خارج المؤتمر (اي اننا لاحظنا حضوره الشرطي بعد أن راقب كل ما يجري منذ الصباح دون إعلان حضوره ) ثم اوصل الحال إلى الصيغة الحالية لتركيب اللجنة الدستورية لتعود و تمثل حالة تفاوضية بين طرفي الحكومة السورية و المعارضة التي لم تكن مشاركة في المؤتمر مع استبعاد كل التكوينات السياسية الحاضرة و بما يناقض جوهر عقد المؤتمر، فأتت الصيغة بالغة التشوه في التكوين، و ذلك مقابل اعتراف الأمم المتحدة بمخرجات سوتشي و التعاطي معها ، فأدى هذا التوجه إلى نسف الاساس الذي قام عليه مؤتمر سوتشي كمؤتمر عام يضم كل ممثلي الحياة السياسية في سورية عبر تاريخها وليس لمرحلة محددة و بدل هذا الأمر بإعادة تأليف صيغة مختلقة لعملية تفاوضية بين الحكومة و المعارضة المحسوبة على تركيا و بعض دول الغرب و الخليج.

الضغوط العسكرية والاقتصادية

هنا نكون قد عدنا إلى معادلة الضغط العسكري على الدولة بنتيجة احتلال الأراضي في الشمال الغربي و الشرقي من إدلب غربا إلى التنف على حدود العراق و مناطق من دير الزور و الرقة و الحسكة بوجود متبادل بين القوات التركية و الأمريكية في توزيع أدوار بينها، بالإضافة إلى سلاح العقوبات التي تحولت إلى صيغة الخنق الاقتصادي وفق تعبير لدبلوماسي أمريكي، هذا من جهة، و من الجهة الأخرى توجد معارضة سياسية تتفاوض باسم القوى المسلحة السورية المتحالفة معها في اللجنة الدستورية بما يجعل التوصل إلى اتفاق بشأن الدستور وفق هذه المعادلة مكافئا موضوعياً لتقديم تنازلات للدول الإقليمية والدولية في تركيبة الحكم السوري مقابل القبول بفك السلاسل و القيود شمالاً غربا و شرقاً و جنوباً و اقتصادا و حدودا و معابر و اقتصاد شعب يعاني الخنق و حرب التجويع …..

الرئيس الأسد شرح في خطابه أن مثل هذه الجولات السياسية لا يمكن أن تفضي إلى تحقيق مصالح الشعب السوري، بل إن الأمر يتعلق بمصالح دول إقليمية مثل تركيا التي تريد الولوج إلى صيغة الحكم في سورية من خلال المعارضة المحسوبة عليها، و تغيير الدستور إلى الشكل التوافقي بين دول إقليمية سيفضي إلى توزيع كعكة الحكم بين مصالح دول تتعايش على دستور توافقي سيجعل من سورية دولة تنتظر توافق الدول المحيطة و العالمية لتختار اسم رئيس الوزراء و توزيع باقي المناصب على الطوائف كما يحدث الآن في دولتين متجاورتين هما لبنان و العراق.

هنا يمكن تفسير كلام الرئيس باستحالة تسليم سورية لصيغة كهذه، مع التعاطي الإيجابي الذي يبديه اتجاه العملية السياسية و القول أن سورية لن تتعاطى بسلبية معها، و لكن على الطرح أن يكون متوافقا مع مصلحة سورية ، و هنا يجب إعادة طرح السؤال كالآتي :

هل تشكل عملية سياسية تتوافق فيها الدول المعنية و أولها روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا و ايران و دول عربية أخرى، على صفقة تنهي الحرب و تسحب القوات الأجنبية جميعها و تبدا عملية التغيير بالمشاركة في السلطة و إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهل كل ذلك يشكل حلا مقبولا لسورية؟

خطر قيام دولة هشة تخدم مصالح الآخرين

هذا الطرح الذي يبدو مثالياً ليس فقط على لسان الأمم المتحدة حيث يشكل جوهر القرار 2254، بل و حتى في طروحات الدول الضامنة، أي روسيا و إيران و تركيا ، و إن أي متابع للشأن السياسي سيعتبر هذا الإنجاز حلا للأزمة وفق كل القراءات المطروحة في التداول.

وحدها سورية تبدي التخوف الذي يساوي كل مستقبلها الوجودي ككيان قائم يسعى إلى الوحدة و التطور و ليس للتحول إلى دولة فاشلة و التمزق من الداخل.

إن الخطر الأساسي الذي ينطوي عليه هذا الطرح هو صيغة الحكم الهشة التي ستنشأ في بنية النظام، فسورية التي كانت دولة وازنة في محيطها و تشكل ضمانة استطاعت كبح تمدد المشروع الصهيوني الذي هو وكيل المشروع الغربي بديل الاستعمار لتفتيت دولنا و يتمتع بكل قوة الغرب، ستصبح دولة هشة تنتظر توافق المرجعيات في تركيا و روسيا و إيران و امريكا على الأقل لكي تشكل حكوماتها التحاصصية، بين الطوائف و الملل و الاثنيات، في نموذج يكمل طوق صيغتي الحكم الفاشلتين في لبنان و العراق، و حتى الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان لبلاده الدور في تأسيس النظام الطائفي في لبنان، دعا إلى تغيير صيغة الحكم في لأنها غير صالحة لقيادة البلد.

يحضرني هنا أن أذكر حادثة رواها لي نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف حيث تحدث عن لقاء جمعه مع السفيرة الفرنسية في موسكو بناءاً على طلبها، و فحوى الطلب كان رغبة فرنسية في إعادة لعب دور في سورية من الباب الروسي، فأجابها بسؤال إن كانت تعرف ماذا يسمي السوريون العيد الوطني لبلادهم، و لما لم تعلم، أخبرها انهم يدعونه عيد الجلاء بمناسبة خروج آخر جندي فرنسي مستعمر عن أرضهم…..

إذا وضعنا الإدراك مع خليط من التفاؤل المبني على الأمنيات، و قد يكون هذا حق في عالم النضال السياسي و ليس السياسة البحتة، بأن روسيا و ان كان دأبها الحديث عن صيغة الحل السياسي القائم على توافق دول الإقليم الا انها لا ترغب في حليف تتناهب حكومته عديد القوى الخارجية الإقليمية على الطريقة اللبنانية، على الأقل إذا كان لدينا قراءة جيوسياسية حصيفة لمصالح روسيا مع دولة سورية تشكل شريكاً موثوقا لمصالح عليا بين دول مستقرة و تريد انشاء المشاريع الضخمة التي تجلب الخير و الازدهار لاقتصادات سورية و روسيا أيضا ، بعد أن أثبتت أنظمة المحاصصة و مهما حققت على المعيار الديمقراطي الغربي، بأنها عاجزة عن تأمين الكهرباء لشعبها و لو عامت على بحر من النفط كما في العراق.

الأكيد أن كل ذلك لا يجب أن يفسر ابدأ على أنه هروب من العملية السياسية في سورية و بأننا دولة مكتملة الأوصاف، فلو كان الحال كذلك لربما تمتعت سورية بمناعة طبيعية أفضل و لما استطاع الحريق العربي أن يلج إليها، لأن الواقع هو العكس و ان خللا كبيرا كان يعتري صيغة الحكم و طريقة المشاركة في السلطة و تجفاف الحياة الحزبية و تكلس مفاصل الدولة و الفساد و حتى ارتباط شخصيات أساسية كانت مؤثرة لعقود و تمنع الإصلاح و سرعان ما قفزت من السفينة وفق تعبير لبرلماني ألماني زارنا في دمشق..

في لعبة عض الأصابع الدولية حيث تبقى اليد على الزناد وتتابع كل طروحات الخارج منعاً من الانزلاق نحو حرب شاملة، يمكن تفهم ان الصبر الاستراتيجي هو قدر سورية، و لكن و في نفس الوقت سيكون طرح البديل المحلي القوي، هو الترياق الوحيد الذي يمكن أن يمنع تقديم التنازل إلى الخارج.

الشراكة في الداخل

يبرز هنا سؤال اساسي، فهل يوجد في الداخل أطراف للحوار؟

اكيد ان كل الإعلام المعادي والحليف غير مهتم بهذا السؤال لأنه يعتمد المعالجات السطحية للأمور وهو لا يهتم إلا بما يظهر على الساحة ويكرر ويعلك الحديث عن الحل السياسي معهم حتى أصبح الحديث فيها أقرب إلى المسلسلات التركية التي تدوم لسنوات ويكرر فيها الابطال معظم مشاهدهم مع تغيير اللباس والديكور.

فإذا كان المقصود بأطراف الحوار هم من يتناقضون على مفاهيم الدولة السيادية، نعم كان في سورية مع بدء الأحداث أطراف تختلف على الثوابت وأدى ذلك إلى نشوب الحرب وتسلل الإرهاب، وأما في عام 2020 فلا يوجد سوى طرف واحد كله متفق على كل الأمور السيادية، لكن توجد رؤى سياسية متنوعة.

ضرورة تصحيح الأخطاء

إن طرح تطوير النظام السياسي و المشاركة الحقيقية في السلطة و القرار لكل تكوينات الشعب السوري المعبرة عنه وفق ميوله السياسية و ليس الطائفية، و بحث النظرية الاقتصادية التي خلقت شروخات في الجسم الإنتاجي و حتى الاجتماعي السوري و هجرت أهم الكفاءات منذ أيام حكم الوحدة بين سورية و مصر و مفاعيله حاضرة و تتزايد حتى الآن، و الحوار حول ثقافة سورية التعددية، واستكشاف اخطائنا بدون تجاهل اتجاه المكونات الثقافية من أكراد و تركمان و عرب و كل ما هو حقيقي ليناقش في بيتنا نحن و باقلامنا نحن و اعترافاتنا نحن ببعضنا بعضاً، قبل أن يلجأ احد من شعبنا إلى الروسي أو التركي قبل الأمريكي والإيراني ، فهذا كله واجبنا لفتح الحوار بشأنه و إيجاد حلول لا تعني تقسيم البلد إلى كانتونات طائفية يأخذ كل مكون قطعة و يلوذ بها طالبا الدعم الأجنبي بحجة منعه من تعلم لغته التي يحبها، و قد آن الأوان لنقلع عن عادة تعودناها في سورية عقوداً، و هي أننا نملك الأجوبة لكل الأسئلة المطروحة، فهذا غير صحيح و قد يكون جارك الذي تلقي عليه تحية الصباح كل يوم، يعيش في نمط حياتي يبتعد عنك بُعد مكة عن الفاتيكان.

لنظام انتخابي عصري

و قبل ان يأتي التركي عارضا على حليفنا الروسي الانسحاب من المناطق التي يحتلها بمقابل الاتفاق على انتخابات نيابية مبكرة و إشراف للدول الضامنة إيران و تركيا و روسيا و وفق تعديلات تنهي صيغ تعودنا على تركيب قوائمها و اعترفنا جميعآ بما هو أكثر من نهاية صلاحيتها العمرية و قال عنها الرئيس الأسد في خطابه ايضا بأنها مشوبة بالأخطاء و ضعف التمثيل و يقدر أن يعمل المال السياسي الفاسد فعله بها و ينتج ايضا برلمانا يدخل فيه الخارج التركي و الخليجي و ينهي دور الأحزاب لصالح شخصيات تابعة تشكل بدورها الحكومة و تصبح سمة عصية على التغيير في النظام السياسي كما في لبنان و العراق أيضا ، فإن الشراكة مع الداخل تحتم علينا التحاور حول نظام انتخابي عصري في سورية يقسم البرلمان إلى غرفتين بتقسيم للمهام و المسؤوليات، فيحيل تمثيل المناطق و الفعاليات الشعبية و المناطقية، إلى ما قد يسمى مجلس شيوخ أو شورى يرضي كل المناطق و يشركها بحق، و نذهب إلى برلمان حقيقي مهني تتنافس فيه الأحزاب السياسية و التشكيلات المجتمعية العابرة للطوائف و الممثلة بتكوينها المدني و الممثل لكل سورية بقانون يعتمد النسبية على أساس سورية دائرة واحدة و لو لنصف عدد الأعضاء كما هو في ألمانيا مثلاً، فتضطر الأحزاب للعمل على استقطاب أفضل الكفاءات بدل المحسوبيات و تصنع أفضل البرامج الانتخابية ليحاسبها الشعب في كل دورة برلمانية كما في كل دول العالم، و يشعر شعبنا الذي صمد و عانى مرارة تقتير حتى خبزه اليومي بأن ثمة من يمثله حقا في البرلمان و لا يسخر منه سالبا صوته.

نعم نحن من يحتاج الإصلاح ويطالب به قبل أن يمن علينا الآخرون، الأبعدون والأقربون بصيغ ملتبسة لا نجد لها حلا وندخل في دوامات متسلسلة.

5njoum

شام تايمز
شام تايمز