السبت , أبريل 20 2024
من هو لورانس العرب الذي دمَّر العالم العربي وتحتفي به السعودية؟

من هو لورانس العرب الذي دمَّر العالم العربي وتحتفي به السعودية؟

من هو لورانس العرب الذي دمَّر العالم العربي وتحتفي به السعودية؟

صنعت هوليوود عام 1962م، فيلمًا صنع أسطورتين، أسطورة الممثل بيتر أوتول صاحب الدور، وأسطورة الشخصية التي أدَّاها أوتول؛ لورانس العرب. كالعادة أضافت هوليوود رتوشها إلى الشخصية لتحوِّلها من خير وشر إلى أحد النقيضين فحسب، وحوَّلته من رجل قصير القامة لم يتجاوز طوله 160 سنتيمترًا، بسبب التهاب في الغدة النخامية أصابه في صغره، إلى رجل طويل شامخ طوله 195 سنتميترًا.

شام تايمز

وتجاوزت هوليوود جدلًا كبيرًا حول شخصية لورانس العرب، ولم تناقش السؤال الأكبر حوله، هل كان عالم آثار وعاشقًا للتراث العربي؟ أم كان مجرد فني متفجرات وجد في الأراضي العربية مصادفةً في فترة محورية من التاريخ العربي؟ أم كان جاسوسًا جاء ليُضلل العرب عن الفخ الكبير الذي ينصبه الثنائي سايكس وبيكو؟ أم أنه جاء بهدف السياحة فتحوَّل لجاسوس وخدع العرب أكبر خدعة في تاريخهم؟

شام تايمز

حسمت هوليوود الجدل بصرامة حين صوَّر المخرج، ديفيد لين، لورانس العرب، يقف خلف كثيب رملي رفقة جيش كامل من العرب متربصين بقطارٍ يحمل العثمانيين أعداء لورانس، الذي استطاع جعلهم أعداء العرب أيضًا، وحين وصل القطار أعطى لورانس الإشارة فنُسف القطار وهلَّل العرب فرحين باقتراب تحقيق وعد لورانس لهم بدولة مستقلة بعد انهيار الدولة العثمانية.

كان الوعد بالاستقلال هو الذي أغرى الخيال العربي بالوقوف جنبًا إلى جنب مع البريطانيين، لكن العرب لم يدركوا أنهم في لحظة فرحهم وتهليلهم كان لورانس على علمٍ بأن سايكس وبيكو قد قسَّما رمال الصحراء ومياه البحار بخطوط مستقيمة ومائلة، أطلقا عليها الحدود، وأن الفرنسيين أخذوا سوريا ولبنان، بينما أخذ البريطانيون فلسطين والأردن والخليج والعراق.

حسم لورانس أمره عند معرفة تلك الحقيقة المرة وقرر ألا يُخبر الجنود العرب – الذين يمكن وصفهم بأنهم كانوا جنوده في تلك اللحظة – بحقيقة الاتفاق وبأن بريطانيا قد أخلفت وعدها لهم. وفي نهاية المطاف؛ قال لورانس إنَّه قرر الانضمام إلى المؤامرة – كما أسماها – وطمأن الرجال العرب، فقد رأى أن الأفضل هو فوز بريطانيا وتجنب الخسارة، حتى لو كان الثمن هو نكث الوعد الذي أزهق الجنود العرب أرواحهم، وأسالوا دماءهم من أجله.
لورانس العرب.. ابن غير شرعي لم يعرف حقيقته إلا في الثلاثين من عمره

بعض الصحف الإنجليزية التي أرادت أن تلتمس العذر للورانس، مثل صحيفة «الجارديان»، قالت بأنه ربما لم يكن يعرف حجم الاتفاق الذي أعدَّه سايكس وبيكو، ثم لم تلبس أن عادت في موضع آخر لتقول بأنه حتى لو لم يكن يدرك هول ما يخططه الطرفان؛ فإنه على الأقل كان يعلم أنَّه «يُضلِّل العرب».

لكن العرب كانوا أشد ثقة في لورانس من أنفسهم ومن بصيرتهم، وربما كانت كلمة العرب التي أُلحقت باسمه هي السبب. فقد جعلتهم ينسون أنّه ابن غير شرعي لرجل إنجليزي وأم أسكتلندية، انفصل والده أولًا عن زوجته الأولى الليدي تشابمان، رغم ثرائها بسبب تسلطها؛ سببًا مُعلنًا، وبسبب عشقه لخادمتها سارة لورانس، والدة توماس لورانس، الذي سيصبح لورانس العرب.

ومع أن العلاقة التي جمعت والده ووالدته، بدأت واستمرت على هيئة علاقة شرعية مُقنَّعة تحت الادعاء بأنهما زوجين (السيد والسيدة لورانس)، فإنه نشأ في كنف والده الثري، دون أن يدرك أنه ابن زنا. وألحقه والده بمدارس أكسفورد الثانوية، ثم جامعة أكسفورد الشهيرة، وعاشت الأسرة في حالة من التدين والمحافظة محاولين تجاوز الكذبة القائمة في أرجاء البيت، والعلاقة غير الشرعية بين خادمة وسيِّدها.

أما لورانس فقد تجاوز كل شيء، ولم يكن يعرف – هو وباقي أخوته غير الشرعيين- حقيقة العلاقة بين والديه إلا بعد وفاة توماس تشابمان عام 1919م. وبعد انكشاف حقيقة هويته وكونه ابنًا غير شرعي، بدأت الأبواب تنغلق في وجهه، وبدأت العائلات الراقية ترفض استقباله للزواج من بناتها، أو تعيينه في وظائف راقية، الأمر الذي دفعه للانعزال والانطواء، ويقال إن الملك جورج الخامس عندما استدعاه في قصره لمنحه وسام الفروسية بعد جهوده في الحرب العالمية الأولى، قرر عدم الإشارة من قريب أو بعيد لعائلة لورانس أو ظروفه الأسرية.

إرضاءً لشغفه أرسله والده، إلى باريس لدراسة الحفريات والآثار، فعاد منها شغوفًا بشخصية نابليون بونابرت وشعر بأنهما يتشاركان العديد من الصفات، أبرزها قصر القامة وضخامة الطموح، فاهتم لورانس بدراسة الاستراتيجيات النابليونيَّة العسكرية. ثم عاوده شغفه بالتاريخ فقرر زيارة الشرق ذي الحضارة والآثار الهائلة، ومن أجل ذلك أتقن العديد من الجمل العربية كي يستقي المعلومات من أفواه العرب.

بدأ لورانس العرب رحلته الاستكشافية من شواطئ بيروت في يونيو (حزيران) عام 1909م، عام واحد فقط أتقن فيه لورانس العربية كما لو كان مولودًا لأبوين عربيين، وعاش طفولته وشبابه في الجزيرة العربية، وفي ذلك العام أيضًا أنهى دراسته في أوكسفورد، وذاع صيته في البلاد العربية، بوصفه عالم آثار وعاشقًا للتراث العربي القديم.
عالم الآثار يتحول لجاسوس وتاجر حرب

قامت الحرب العالمية الأولى بعد تخرج لورانس بأربعة أعوام. أعلنت الدولة العثمانية حربها على إنجلترا، وإنجلترا قررت أن تسحق العثمانيين باستخدام كل الأسلحة الممكنة، وقد كان لورانس سلاحًا ضالعًا في تلك الحرب، حتى يمكن القول بأنه استحال مع الوقت لـ«سلاحٍ نووي» في يد البريطانيين.

استدعى السير جيلبرت كلايتون، لورانس لمقر القيادة العليا للجيش البريطاني في مصر وعيَّنه في قسم الخرائط، كان الأخير يحفظ عدد رمال الصحراء العربية وخبايا كثبانها فأبهر ذلك البريطانيين، واكتشفوا أن بإمكانهم الاستفادة منه بصورة أخرى، صورة أشد ضراوة؛ فنقلوه للمخابرات السرية، فنسي لورانس مواقع الآثار وتراث العرب، وبدأ يسرد أماكن المواقع العثمانية التي كان يحفظها عن ظهر قلب.

أُعجب لورانس بدوره الجديد، وربما كانت وفاة شقيقيه بفارق زمني شهرين بين موت الأول والثاني في الحرب العالمية الأولى عام 1914م هو الدافع وراء تحوُّل شخصيته، وقراره بأن يُضيف بضع رصاصات جديدة لمسدسه، فأقنع العرب بأنه يخشى عليهم من «العنجهية التركية» ويريد تحريرهم من التبعية للعثمانية، انبهار العرب بالأجانب عامةً وبلغة لورانس العربية جعلهم يصدِّقونه في كل ما قال.

يومًا بعد الآخر زادت مصداقيته واتسعت شهرته حتى طالب بلقاء الأمير عبد الله، ثاني أبناء الشريف حسين، وقد كان الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين. كان هدف لورانس من اللقاء أن يُدرك حقيقة الدافع وراء تلك الحركة، أكان قوميًّا أم إسلاميًّا. طلب لورانس ذلك ضمنيًّا من الشريف حسين واستأذنه في التجول في البلاد للوقوف على حقيقة الوضع ليرفع به تقريرًا للقيادة العامة في القاهرة.

وافق الشريف حسين هاتفيًّا، فأرسل الأمير عبد الله خطابًا لأخيه الأمير علي يحثه على مرافقة لورانس وضمان سلامته شخصيًّا. تجول لورانس بزيٍّ عربي وبلسان فصيح، زاعمًا أنه عربي آتٍ من حلب. في جولاته التقى لورانس بالأمير فيصل، الابن الأكبر للشريف حسين، وأُعجب به أكثر من اللذين التقاهم سابقًا، فجعله مصدر معلوماته ونقاشاته.

لورانس العرب.. أفضل جاسوس حظيت به بريطانيا على الإطلاق

عَلِم لورانس من خلال الحديث مع الأمير فيصل أمرين، أولهما أن الدافع وراء الثورة كان قوميًّا قبليًّا، يتسع أحيانًا ليصبح عربيًّا ضد الأتراك، لكنه بالتأكيد لم يكن دينيًّا ولا عقائديًّا، أما الأمر الثاني فهو أن الإخفاق الأول لهجوم العرب على المدينة المنورة قد فشل بسبب استخدام العثمانيين للأسلحة الحديثة، مثل المدافع التي يجهلها العرب ولا يعرفون كيفية استخدامها.

معلومات لورانس التي أمدَّ بها القيادة البريطانية جعلتهم يدركون ثقة العرب الكبيرة فيه إلى حد سرد كل هذه الأفكار والمعلومات أمامه، فبات لورانس أفضل جاسوس حظي به البريطانيون على الإطلاق. ولذا قرروا إرساله مرة أخرى إلى الأمير فيصل ليبقى بجانبه تحت مسمى مستشار له، وليكون في الحقيقة مسئولًا عن اتخاذ القرارات المتعلقة بحراك الشريف الحسين.

استطاع لورانس بواسطة لقب «مستشار الأمير فيصل»، أن يكسب مصداقيةً أكبر بين زعماء القبائل العربية المتفرقة، وذهب إلى العديد منهم وأقنعهم بالانضمام للثورة العربية الكبرى. فقد جعلهم لورانس يوقفون النزاعات فيما بينهم ويوجهون أسلحتهم نحو «العدو الأكبر» بحسبه، الذي كان للمصادفة الغريبة هو عدو البريطانيين أيضًا، ويشترك مع العرب في نقاط التقاء أكثر مما يشترك معهم البريطانيون، لكن لورانس أقنع العرب بالعكس.

تتابعت الحشود المؤيدة للثورة والتي انضمت تحت لواء الشريف حسين ظاهريًّا، ولواء لورانس حقيقةً، ثم باتت الفرصة سانحةً للورانس كي يقنع الأمير فيصل بأن يحتل ميناء العقبة لينتزع ذلك الميناء الحيوي من يد الأتراك.

لم يكن إقناعه أمرًا صعبًا؛ فقد بات لورانس موثوقًا وأقرب ما يكون للقائد الفعلي للعرب.
المُخادع العبقري الذي وقع في يد الأتراك وأفلت منهم

تبنى لورانس مبدأ حرب العصابات في مواجهة الأتراك، واستغل علمه بالألغام والمتفجرات في حصد العديد من الانتصارات والشهرة بين العرب على حساب العديد من أرواح العثمانيين التي أزهقها. الانتصارات المتتابعة للورانس والشهرة التي باتت تزداد ازديادًا مرعبًا جعلاه يميل إلى فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتمهيدًا لتلك الخطوة، قرر أن يبدأ في لعب دور أكبر في فلسطين.

كانت الأفكار في رأس لورانس أكبر من قدراته، لكنَّه صدَّق أفكاره فقرر أن يذهب إلى درعا كي يحتلها منفردًا، فكان من الطبيعي أن يقع في يد الأتراك الذين لم يكونوا على علم بشكل لورانس ولا بقيمة الرجل الذي أمسكوه. أقنعهم لورانس أنه شركسي، لكن الجنود أصروا في النهاية على أن يقف أمام الحاكم التركي، ناهي بك، وأفلت منه لورانس كذلك.

لم يحزن لورانس لشيء إلا لأن الجنرال اللنبي سيشمت فيه، لكن حين عاد لورانس كان اللنبي قد ظفر بالقدس واحتلَّها عام 1917م، وطلب اللنبي نفسه مقابلة لورانس في القدس بأسرع وقت، لذا لم يُهدر لورانس وقته وذهب إلى اللنبي في القدس ليتفقا سويًّا على زيادة الدعم البريطاني للأمير فيصل، كونه الواجهة العربية التي تجمع القبائل المتناحرة وتوّحدهم ضدَّ الأتراك أعداء البريطانيين.

أخذ لورانس من اللنبي مبلغًا ضخمًا من المال وعدة جمال مُحمَّلة بالمؤن، بوصفها دعمًا بريطانيًّا للأمير فيصل، وتعهد الاثنان بضرورة تنفيذ وعد وزير خارجية بريطانيا، آرثر جيمس بلفور، القائل بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين تحقيقًا لمشروع الدولة اليهودية الذي طمح إليه ثيودر هرتزل.

لورانس العرب.. حياة قصيرة وإرث دموي دائم للأبد

انتصرت ثورة الشريف حسين، وأصبح فيصل ملكًا على العراق، وبات عبد الله ملكًا على الأردن، وعاد لورانس إلى إنجلترا ليشرع في تأليف كتابه «أعمدة الحُكم السبعة»، الذي بدأه عام 1920م وأنهاه عام 1925م، ثم بعد انتهاء الكتاب التحق بسلاح الجو البريطاني.

هذا الالتحاق كان باسم مستعار؛ لأن لورانس بات مطلوبًا بشدة لكل المعارضين لثورة الشريف حسين، ولبعض المؤيدين الذين اكتشفوا حقيقة أنه كان عميلًا للمخابرات السرية البريطانية، وليس عاشقًا للتراب العربي ولا للتراث الشرقي.

كان لورانس يتجنب الشهرة قدر الإمكان، وأعيد تجنيده في مناصب عدة بأسماء مستعارة، مثل تجنيده عريفًا في فرقة الدبابات الملكية تحت اسم توماس إدوارد شو، نسبةً إلى جورج برنارد شو كاتبه المفضل، وقد نشر لورانس ترجمةً إنجليزيةً لملحمة الأوديسة تحت اسم توماس شو، وظل محتفظًا بذلك الاسم حتى وفاته.

بعد تسع سنوات في الخدمة العسكرية تلقى لورانس العرب إشعارًا بأن خدمته على وشك النهاية، لذا قرر أن يقضي باقي حياته في كوخ في شمال بوفينجتون، لكن لم يكن ما تبقى كثيرًا كما توقع لورانس، فقد تُوفي عام 1935م وعمره 46 عامًا، إثر سقوطه من فوق دراجته النارية التي كان يقودها عائدًا من مكتب البريد، بينما يدور همس في الصحف الأجنبية بأن الحادث كان متعمدًا، وقد حضر الجنازة شخصيات بارزة أهمهم، وينستون تشرشل، الذي عيَّن لورانس مستشارًا لشئون العرب حين وصل تشرشل لرئيس الوزراء، وقد كان الاثنان أصدقاءً مقربين قبل أي شيء.

مات لورانس دون أن يترك زوجةً أو أطفالًا، بل ترك خلفه شائعات كثيرة بأنه كان مثلي الهوية الجنسية، تلك الشائعات، يدعمها رثاؤه لصبيٍّ بدوي يُدعى سليم أحمد في قصيدة خاصة، ثم وجود حرفي السين والألف في كتاب أعمدة الحكم السبعة في صفحة الإهداء، لكنَّ لورانس عاد ليقول بأنه اختار الحرفين عشوائيًّا، وأنهما لا يدلَّان على شيء.

وكنوع من الإرث الذي تركه لورانس، كان اكتشافًا أثريًّا للمخيم الذي عاش فيه بين عامي 1917م و1918م؛ إذ كان ذلك المُخيم مُنطلق حملاته ضد الأتراك. كذلك ترك قصةً تتناقلها الصحف الأجنبية عن رفضه وسامًا من الملك جورج الخامس، حين استدعاه الملك ليُقلده وسام الفروسية؛ لأن لورانس كان يشعر بنار خيانته للعرب، وبأن بريطانيا قد خانتهم فرفض التكريم، وانصرف.

لكن الإرث الحقيقي الذي تركه لورانس العرب للعرب؛ هو إسرائيل، التي استُخدم لورانس العرب بصورة غير مباشرة كي يُمهِّد الطريق لوجودها، كذلك ترك للعرب إرثًا يُعمي عيونهم في كل لحظة، إرث الحدود المشتركة والنزاعات المتعلقة بها، وحالة الفردانية القاتلة التي يعيشها العرب حاليًا.

ساسة بوست

اقرأ أيضا: هل يؤمن الرئيس بوتين بالقدر؟

شام تايمز
شام تايمز