الأربعاء , أبريل 24 2024

إردوغان يتحدّى أوروبا وأميركا.. في قبرص!

إردوغان يتحدّى أوروبا وأميركا.. في قبرص!

حسني محلي

على الرغم من الرسائل الإيجابية التي بعثها الرئيس إردوغان مؤخراً إلى الاتحاد الأوروبي، معبراً عن أمله بفتح صفحة جديدة في العلاقة معه بعد الفتور والتوتر الذي خيَّم على هذه العلاقات خلال السنوات القليلة الماضية، فإنه لم يتأخر في تحدي المجموعة الأوروبية، ومعها واشنطن، وفي عقر دارها؛ قبرص.

وتحدث إردوغان (الأربعاء) في اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، وهدد اليونان وتوعدها، ثم قال: “لن تسمح أنقرة بأن يظل القبارصة الأتراك المقيمون في شمال الجزيرة ضحايا الأزمة المستمرة منذ نصف قرن. وقد آن الأوان للتفكير في دولة مستقلة في الشطر الشمالي من الجزيرة”.

تهديدات الرئيس إردوغان سبقتها زيارات متكررة لنائبه فؤاد آوكطاي ووزيري الدفاع والخارجية إلى قبرص، مع المعلومات التي تتحدث عن استعدادات جدية لإعلان مثل هذه الدولة المستقلة، بعد فشل المفاوضات بين القبارصة الأتراك واليونانيين منذ التدخل العسكري التركي في الجزيرة في العام 1974.

وقد مثّل الجانب القبرصي اليوناني في هذه المباحثات حتى الآن 7 من الرؤساء، وعن الجانب القبرصي التركي 3 رؤساء، يضاف إليهم الرئيس الحالي أرسين تتار، الذي استنفرت أنقرة كلّ إمكانياتها لضمان نجاحه في الانتخابات الأخيرة التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، باعتبار أنه موالٍ لتركيا تماماً، ويؤيد فكرة استقلال جمهورية شمال قبرص التركية (حوالى 350 ألف نسمة، جاء 200 ألف منهم من تركيا بعد العام 1974) التي لا يعترف بها أحد سوى أنقرة، ومساحتها حوالى 36% من مساحة الجزيرة (9251 كم مربع)، وتضم قاعدتين بريطانيتين مهمتين جداً، وهما أكروتيري (جنوب) وديكيليا في الشرق.

واكتسب الحديث عن قبرص من جديد أهمية إضافية مع اقتراب إعلان واشنطن عن سياساتها حيال تركيا والرئيس إردوغان، ومن المعروف عن الرئيس بايدن أنه لا يكن له أي مشاعر إيجابية. ولا نتجاهل اهتمام بايدن شخصياً بالملف القبرصي، ليس لتضامنه مع القبارصة اليونانيين واليونان فحسب، بل لاهتمامه بالموقع الاستراتيجي للجزيرة أيضاً، وبالتالي الأحاديث المستمرة عن الاكتشافات الجديدة للغاز في جوارها، مع استمرار التنسيق والتعاون العسكري والسياسي والاقتصادي بين قبرص وكل من اليونان ومصر و”إسرائيل” والإمارات.

وقد كان هذا الغاز، وما زال، سبباً للمزيد من التوتر بين أنقرة وأثينا والقبارصة اليونانيين، وهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر انسحاب تركيا من قبرص شرطاً أساسياً لانضمامها إليه، من دون أن يفكر في اتخاذ أي موقف عملي ضد تصرفاتها التي وصفها “بالاستفزازية”، وذلك عندما أرسلت سفن البحث والتنقيب إلى المياه الإقليمية لقبرص برفقة سفن حربية.

وتقول أنقرة إنّ من حقّها أن تفعل ذلك، باعتبارها، ومعها بريطانيا واليونان، دولة ضامنة لاستقلال الجزيرة وسيادتها في اتفاق العام 1960، وإن القبارصة اليونانيين لا يمثلون بمفردهم الجمهورية القبرصية. كما تحمل أنقرة القبارصة اليونانيين مسؤولية فشل المساعي الدولية لتوحيد الجزيرة، إذ أيّد القبارصة الأتراك في استفتاء نيسان/أبريل 2004 خطة الأمين العام كوفي عنان بنسبة 65%، ورفضها القبارصة اليونانيون بنسبة 75%.

وكانت هذه الخطّة تهدف إلى توحيد شطري الجزيرة في دولة فيدرالية مشتركة ذات كيانين مستقلين تماماً في الأمور الداخلية، مع تقاسم السّلطات الفيدراليّة بنسبة 30% للأتراك و70% لليونانيين. وقد فتح الاتحاد الأوروبي بعد شهر من هذا الاستفتاء أبوابه لهم، بصفتهم يمثلون جمهورية قبرص، في الوقت الذي تعاني جمهورية قبرص التركية عزلة دولية خانقة بسبب قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 442 و550 (1983)، والتي تمنع الاعتراف بهذه الجمهورية، وتطالب بانسحاب الجيش التركيّ (حوالى 15 ألفاً) من الجزيرة.

وترفض أنقرة هذا الطلب ومطالب أوروبية وأميركية مماثلة منذ العام 1974، وهي ترى في قبرص قضية قومية لا مساومة عليها، بعد أن تدخل الجيش التركي فيها بقرار من رئيس الوزراء اليساري بولنت أجويت، وكان الإسلامي نجم الدين أربكان شريكه في الحكومة.

ويبدو أن الرئيس إردوغان الذي تدخل في سوريا وليبيا والعراق والصومال، وفي كل مكان وطئته أقدام العثمانيين (والقول له)، يستعد الآن لضم هذه الجزيرة بموقعها الاستراتيجي إلى تركيا. وسيحظى ذلك بدعم واسع من الشعب التركي وأحزاب المعارضة، باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، فمن الصعب جداً على أي حزب أو منظمة أو مواطن أن يعترض على هذه السياسات، وإلا سيتهمه إردوغان بالخيانة الوطنية والعمالة.

لقد سيطر العثمانيون على الجزيرة في العام 1571، وحكموها طيلة 307 أعوام، إلى أن قام السلطان عبد الحميد بتأجير قبرص لبريطانيا في العام 1878، مقابل أن تدعمه في حربه مع روسيا آنذاك. وكانت الجزيرة قبل ذلك هدفاً للعديد من محاولات السيطرة عليها من قبل دول المنطقة وإمبراطورياتها. وقد قام العرب بفتحها والسيطرة عليها في العام 649 ميلادي في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، ثم تكررت الغزوات العربية الإسلامية على الجزيرة في الأعوام 748-775-800-806، إلى أن جاءت الحملات الصليبية، وقبلها حملات البنادقة والدولة المملوكية التي كانت ترى في قبرص نقطة انطلاق رئيسية تجاه فلسطين التي تقع مقابل الجزيرة.

ويفسر ذلك اهتمام الحركة الصهيونية والمنظمات اليهودية بالجزيرة منذ الفتح العثماني لها (1571)، والتي حصلوا فيها على بعض الامتيازات التي كانوا يريدون أن تساعدهم للانطلاق منها صوب فلسطين. ويرى يهود “إسرائيل” فيها بوابتهم للهرب في حال الخطر الأكبر الَّذي قد يستهدفهم مستقبلاً من “أعدائهم العرب والمسلمين الذين قد يزحفون إلى فلسطين من كل حد وصوب”.

كما يرى الرئيس إردوغان في الجزيرة موقعاً استراتيجياً لتحقيق أهدافه الاستراتيجية والتاريخية والعقائدية من منطلقات دينية للانتقام من بريطانيا والصليبيين واليونان؛ العدو التاريخي التقليدي للدولة العثمانية والجمهورية التركية. كما يخطط لانتصارات “أعظم من انتصارات أتاتورك وأجويت وأربكان”، وليست أقل عظمة من انتصارات أرطوغرول الذي دخل أرض الأناضول، وانتصر على البيزنطينيين في العام 1071، والذي يبني إردوغان الآن في الموقع نفسه قصراً له، من دون أن ينسى أيضاً محمد الفاتح الذي فتح إسطنبول في العام 1453، والسلطان سليم الذي دخل سوريا (آب/أغسطس 1516) وفلسطين، ومنها إلى مصر، ليعود منها في كانون الثاني/يناير 1517 خليفة للمسلمين.

ويرى إردوغان في كلّ هذه الانتصارات عاملاً معنوياً وقومياً ودينياً بالنسبة إليه، وهو يخطط للبقاء في السلطة إلى أن يحقق كل أهدافه، وأهمها أسلمة الدولة الأمة التركية، وهو ما يحتاج وسيحتاج للمزيد من التصعيد في القضايا القومية، إن كان في سوريا وليبيا والعراق أو ضد أرمينيا (الحرب في كاراباخ) واليونان في قبرص، ولاحقاً الجزر اليونانية القريبة من السواحل التركية.

وترشّح كل هذه المعطيات الجزيرة لسلسلة من التطورات والأحداث المثيرة، بعد أن أقامت أنقرة فيها قاعدة للطائرات المسيرة المسلحة وغير المسلحة، لمراقبة كل التحركات العسكرية في المنطقة الممتدة من ليبيا مروراً بمصر وفلسطين و”إسرائيل” ولبنان واليونان وإيطاليا وسوريا. وتبعد عن الجزيرة 95 كم قطعتها المقاتلة التركية صباح 12 حزيران/يونيو 2012 خلال عدة دقائق، فدخلت الأجواء السورية على ارتفاع منخفض جداً، فأسقطتها الدفاعات الجوية السورية.

ويبقى الرهان على الموقف المحتمل للإدارة الأميركية، وهي الوحيدة القادرة على أن تتصدى لمشروع الرئيس إردوغان في إعلان استقلال الشطر الشمالي التركي (وتدار جميع أموره أساساً من أنقرة). هذا بالطبع إن لم يفكر الرئيس بايدن في الاستفادة من العداء التركي اليوناني في مجالات أخرى، كما فعلت فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، في الوقت الذي يطالب القوميون الأتراك بضم الشمال القبرصي إلى تركيا، كما كانوا يطالبون بضم حلب وبعدها إدلب، باعتبار أن الشمال السوري، ومعه ولاية الموصل (الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك)، كان ضمن خارطة ما يسمى بالميثاق الميللي (الوطني)، والتي رسمت حدود تركيا في العام 1920.

وكما كان شعار الحزب السوري القومي الاجتماعي “الهلال الخصيب ونجمته قبرص”، فقد سعى القوميون من القبارصة اليونانيين بدورهم لضم الجزيرة إلى اليونان، والتي تبعد عنها حوالى 800 كم. ولم تمنع تصريحات إردوغان والسيناريوهات المطروحة للنقاش بعض الأوساط العسكرية من التشكيك في نياته، ما دامت تركيا واليونان عضوين في الحلف الأطلسي، والقواعد البريطانية التي تستخدمها فرنسا وأميركا أيضاً موجودة هناك.

يضاف إلى ذلك أنّ المعطيات الإقليمية في سوريا وليبيا والمنطقة عموماً ليست لصالح إردوغان ومشاريعه العقائدية، والتي قد يفكر في استخدامها لرفع سقف مساوماته المستقبلية مع الرئيس بايدن، وسنرى قريباً كم ورقة يملك ضده، وكم ورقة سيلوّح بها!.
الميادين