الجمعة , مارس 29 2024

صفقة القرن..مشروع للمشرق العربي

صفقة القرن..مشروع للمشرق العربي
د. وفيق إبراهيم
القراءة الموضوعية لصفقة القرن تفترِض أولاً: الانتباه إلى توقيت طرحها في التداول السياسي عند الفلسطينيين المعنيين مباشرة، وجوارهم العربي المنخرط بنيوياً، وصولاً إلى المتورّطين في الإقليم والمحاور الدولية، مع متابعة ردود فعل «الإسرائيلي» نحوها.
للإضاءة فإن صفقة القرن تعطي الفلسطينيين «حكماً ذاتياً» على 70 في المئة من الضفة الغربية ترتبط بـ «أوتوستراد» مقفل مع قطاع غزة، قبلت مصر أن تُلحق به نحو ألفي كيلومتر مربع من المجاور من أراضي صحراء سيناء.. وليس لهذا الكانتون أي حق ببناء جيش أو سيطرة على حدود أو إقامة أي علاقات إلا من خلال «إسرائيل».. وبذلك تصبح القدس بشطريها عاصمة لـ«إسرائيل» اليهودية حصراً مقابل قرية «أبو ديس» التي تتحول عاصمة للكانتون الفلسطيني.
ويتبيّن بعجالة، أن هذه الصفقة تنهي القضية الفلسطينية إلى الأبد وتؤدي إلى توطين فلسطينيي الشتات في مهاجرهم. كما تتيح طرد فلسطينيي 1948 من قلب فلسطين المحتلة إلى بلدان يتردد أنّها السودان وكندا واوستراليا والولايات المتحدة.
وبالعودة إلى مناقشة توقيت هذا العرض.. يتبيّن فوراً أنه قيد الإعداد منذ مدة طويلة، فلماذا تأخّر إطلاقه حتى الآن؟ وما الذي استجدّ؟
إنّها بدون أدنى شك المستجدّات في الإقليم.. ويبدو أن السياسة الأميركية كانت تترقب انهيار سورية والعراق وتفتتهما كيانات مذهبية وعرقية. الأمر الذي يؤدي تلقائياً إلى مزيد من الانهيار في موازنات القوى العربية ـ الإسرائيلية الأمر الذي يسمح بإعلان الحلف الخليجي ـ العربي ـ الإسرائيلي.. على قاعدة تمرير صفقة القرن وكأنها انتصار للدبلوماسية السعودية ـ الأميركية.
لكن الآمال لم تتطابق مع التخطيط. فانتصر العراق على الإرهاب والفِتن العرقية والمذهبية، ونجح السوريون مع حلفائهم الروس والإيرانيين في تحرير ثلثي سورية، واضعين حداً لداعش والنصرة ومثيلاتهما بشكل كبير.
باللغة السياسية، فإن لا تفسير لانكماش الإرهاب إلا بتقلص دور داعميه ورعاته. وهم باعتراف رئيس وزراء قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني في تصريح صحافي علني له، جزم فيه بأن الأميركيين هم الذين كلفوا قطر والسعودية وتركيا بدعم المعارضة المسلّحة في سورية والعراق، ومقرّاً بأن هذه المعارضة تحوّلت إرهاباً استمروا بدعمه لأن لا بديل له.. كاشفاً عن أن السعودية وقطر دفعتا على هذا المشروع نحو 160 مليار دولار مقابل تولي تركيا أمور التدريب والرعاية ونقل المؤن الغذائية والسلاح.
ما يمكن استنتاجه هنا وبموضوعية عالية المستوى، أن طرح مشروع صفقة القرن على المعنيين به تزامن مع الانهيار شبه الكامل للإرهاب في سورية والعراق. وهما بلدان مجاوران لفلسطين ومعنيان بها بنيوياً: على مستويي الانتماء القومي والأيديولوجيا الفكرية منذ النكبة الكبرى في 1948.
فبدا وكأن «صفقة القرن» هي «النقطة بـ« من المشروع الأميركي الذي وجد نفسه مضطراً للكشف المسبق عن تفاصيلها وقبل الأوان المتفق عليه. أما الأطراف المتورطة فتبدأ ببعض الجهات الفلسطينية التي تصنّعت «المفاجأة» والتبرّم اللفظي إنما من دون أي ردود فعل عملية، والأردن والسعودية ومصر والإمارات… و«إسرائيل» بالطبع هذا من دون نسيان قائد الاوركسترا: السياسة الأميركية.
لقد وجد الأميركيون أنفسهم خاسرين لمشروع مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1990 . كانوا يريدون إعادة تشكيل العالم الإسلامي والحلقة الأضعف في العالم، حيث توجد موارد أولية وطاقة واستهلاك وأنظمة سياسية ضعيفة تعمل في خدمة «الغربي» وبحمايته، ومعادية في آن معاً لأي تطور حقيقي لشعوبها. لكن الحملات الأميركية العسكرية والاستثمارية من افغانستان إلى اليمن والعراق وسورية لم تؤدِ إلى النتائج المشتهاه أميركياً، على الرغم من انها أدت إلى تدمير واضطراب وحروب متواصلة.
هناك عامل لا يجوز إغفاله.. ويتعلّق بمقاومات الشعوب والدول لهذا الاجتياح الأميركي طيلة العشرين سنة الماضية.. بدأتها إيران التي ملأت الفراغ ـ المصري ـ العربي.. وواصلت التصدّي بشجاعة على الرغم من كل ما تعرّضت له من استهدافات وحصار وصعوبات، لكنّها وفرت الظروف الموضوعية لعودة روسيا إلى مسرح الأحداث في الشرق الأوسط. ونجح البلدان في دعم سورية والعراق وحزب الله بتدخل عسكري مباشر ودعم مفتوح ملحقين هزيمة شنيعة بالإرهاب ومشغّليه.
بالقراءة السياسية، يتبيّن أن الصعود الروسي ـ الإيراني ـ السوري الناتج من موازين القوى العسكرية، المستجدّة له ترجمته السياسية المتعلّقة بتراجع الدور الأميركي وحلفائه السعوديين والقطريين والأتراك.
أما ترجمة هذا التراجع على المستوى الدولي، فلا معنى له، إلا عودة موسكو إلى تسلّق مركز انتاج القرار الدولي الذي لم يعد أميركياً صرفاً ضمن هذه المعطيات. يجب فهم الدور المُعطى لـ«صفقة القرن». وما يُراد منها من تأمين بديل سريع للتراجع الأميركي ـ السعودي في سورية.. فإذا كان الهدف من الاستثمار في الإرهاب تفتيت المنطقة إلى كانتونات صغيرة وضعيفة، فإن المطلوب من صفقة القرن، إنتاج محور سعودي، إماراتي ـ مصري ـ أردني ـ إسرائيلي و.. فلسطيني برعاية أميركية، يُسِّددُ «رصاصة الغدر» إلى القضية الفلسطينية، مؤمّناً عودة الأميركيين إلى احتكار الشرق الأوسط والمشرق العربي وبالتالي العالم الإسلامي، واضعاً حدوداً حول الحركة الروسية الجديدة في جزء من سورية فقط.. فيمسك هذا المحور بالمنطقة اقتصادياً ودينياً وعسكرياً، معلناً نفسه الناظم الأساسي لأي تطور في المنطقة لحساب السياسة الأميركية. فهو المستفيد الأساسي من هذا المشروع، لأنه ينهي بذلك أسباب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ويعاود إنتاج قوة إقليمية كبيرة السعودية و«إسرائيل» ومصر بوسعها ان تكون الوكيلة العسكرية والاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة التي تتجه إلى الموافقة على أسلوب الوكلاء الإقليميين، لكي تتفرّغ لمجابهة الفريق الروسي ـ الصيني، مع إصرار على تقليص أحجام حلفائها في أوروبا واليابان اقتصادياً والتفرّغ لتفجير إيران من الداخل.
هذه بعض أهداف «صفقة القرن»، التي يتبيّن بوضوح أنها تجمع بين الأهداف الفلسطينية والعربية والإسلامية لمصلحة المزيد من الهيمنة الأميركية على القرار العالمي واحتكار كامل للأميركيين على الأدوار العسكرية واحتكار القوة والاقتصاد وبالتالي الجيوبولتيك.
إنما ما مصلحة الفلسطينيين فيها؟
إنهم أكبر المتضررين، لأنهم يخسرون وطنهم وقضيتهم نهائياً ويتشتتَّون أفراداً من دون هوية في أصقاع الأرض. لذلك تتجه السلطة الفلسطينية إلى مزيد من التصدّع بين تيار يلتزم الصمت والخطابات الفارغة، توهماً منه أن بإمكانه ان يحكم كانتون «الإدارة الذاتية»، مقابل تيارات فلسطينية كبيرة ترفض «الصفقة» وتتحضّر للعودة الكبيرة إلى المقاومة المسلحة بإسناد سوري ـ عراقي ـ إيراني. إلى جانب تيار ثالث في «حماس» و«الجهاد» وتنظيمات أخرى يعتبر أن صراع الفلسطينيين مع الكيان الإسرائيلي مستمر منذ 1948 ولن يتوقف.
إنّ هذه التيارات الفلسطينية تعرف أن «إسرائيل» لن تعطي شيئاً للفلسطينيين إلا بالقوة المسلحة، والتاريخ خير شاهد، ففي 1948، كان العرض 60 في المئة من فلسطين للفلسطينيين. أما بعد هزيمة الـ67، فعرض وزير حرب العدو موشيه دايان على الراحل عبد الناصر بوساطة روسية، إعادة كامل الضفة وغزة، وسقط العرض.
وعرض الإسرائيليون على الراحل حافظ الأسد بوساطة أميركية، إعادة الجولان المحتل من دون إطلالته على بحيرة طبريا و90 في المئة من الضفة الغربية غزة، وسقط العرض سورياً. ومنذ اندلاع الأزمات العربية، زادت «إسرائيل» من عدد مستوطناتها بالضفة إلى 30 في المئة، وأصبحت تعرض كانتوناً صغيراً ضمن السيادة الإسرائيلية مع تهويد كامل للقدس والسيطرة على كامل موارد المياه.. فماذا يبقى للفلسطينيين.
لذلك فإن صفقة القرن ليست إلا مشروعاً لإنهاء القضية الفلسطينية نهائياً على قاعدة بناء محور عربي ـ إسلامي ـ إسرائيلي، لمجابهة الصعود الروسي والدور الإيراني والخطر الصيني الداهم. بقي على الفلسطينيين أن يلتزموا بالحفاظ على قضيتهم وعدم مراعاة الأطراف المتورّطة، لأن فلسطين لا تعود إلا ببندقية، كما كان يقول شاعرها الكبير محمود درويش.
البناء

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز

اترك تعليقاً