السبت , أبريل 20 2024
"كأننا في البلد".. سوريون يستنسخون حاراتهم في قلب إسطنبول النابض

“كأننا في البلد”.. سوريون يستنسخون حاراتهم في قلب إسطنبول النابض

“كأننا في البلد”.. سوريون يستنسخون حاراتهم في قلب إسطنبول النابض

شام تايمز

بزيه الشامي القديم المؤلف من “شروال وقطعة قماش مزركشة تلف في الوسط وطربوش” يجوب الشاب السوري محمد ديب أبو قوره الملقب بـ”أبو الخير” شوارع وحارات حي الفاتح وسط إسطنبول التركية في كل يوم. يحمل “دولة القهوة المرة” وينطلق مما باتت تعرف بحارات “طلعة الأمنيات” وصولا إلى “سوق مالطة”.

شام تايمز

“أبو الخير” الذي يبلغ من العمر 24 عاما كان قد وصل إلى إسطنبول منذ ستة أعوام، واختار حي الفاتح للعيش وللعمل في آن واحد، حيث يرى فيه “دمشق المصغرة” بشوارعها وحاراتها وحتى بالناس الذين يعيشون فيها.

“لا غربة هنا وكأننا في البلد تحت” يقول أبو الخير الذي يحب أن ينادى بهذا اللقب، ويقول إن قصته الأولى في الحي التركي القديم بدأت بعربة صغيرة لبيع “المشبك” (إحدى أصناف الحلويات)، ومن ثم انتقل لبيع عصير “التمر هندي”، لكن ذلك لم يدم طويلا، بعد منعه من البيع من قبل “بلدية الفاتح”.

من “التمر هندي” إلى بيع “القهوة المرّة” تجوالا استقر هذا الحال على الشاب السوري وما يزال يلازمه منذ عامين وحتى الآن.

ويضيف لموقع “الحرة”: “هذه المصلحة تسد لي مصروف الإيجارات والعيش. حي الفاتح بالنسبة لي رزقة قد لا ألقاها في باقي الأحياء بإسطنبول. هنا السوريون بكثافة وهناك عرب من عراقيين ولبنانيين وسياح خليجيين. الجميع يتحدث بالعربية ولا داعي للغة التركية”.
قبل 2015 وما بعده

قبل عام 2015 كان حي الفاتح الأثري والقديم الذي يتوسط مدينة إسطنبول بقسمها الأوروبي “تركي بامتياز” بتفاصيل محاله التجارية وأسواقه التي تعتبر وجهة يرتادها السياح الأجانب والعرب.

في تلك الفترة الزمنية قلما كان هناك مطعم عربي أو سوري بالخصوص، ومن النادر أن تلقى خمسة سوريين برفقة بعضهم البعض يتجولون ذهابا وإيابا، سواء في الشوارع أو الحارات الضيقة المتفرعة حتى شارعي “أكدنيز” و”يوسف باشا” المحاذيين له.

اختلف حال هذا الحي بعد العام المذكور، بالتزامن مع توافد آلاف ومئات آلاف السوريين إلى الولايات التركية.

وبينما استقر البعض منهم في المدن الحدودية، اختار القسم الأكبر منهم العيش في إسطنبول الأوروبية، رغم صعوبة الحياة فيها، وكانت منطقة الفاتح الوجهة الأولى والأبرز.

تشكّل بلدية الفاتح العمق التاريخي لمدينة إسطنبول وقلبها التاريخي، حيث تقع داخل أسوار المدينة التاريخية، ويحيط بها من الشمال منطقة “الخليج” ومن الشرق والجنوب بحر مرمرة.

ومنذ عام 2015 باتت أقرب إلى “عاصمة رئيسية” للاجئين السوريين، والذين اتجهوا وبعد اختيارها كمقصد أول إلى افتتاح عشرات المهن، من مطاعم ومحال لبيع المواد الغذائية والحلويات، فضلا عن محال للحلاقة وأخرى لبيع المواد التي لا توفرها الأسواق التركية.
“ينطق بالعربية”

على بعد خطوات قليلة من جامع الفاتح الذي سمي الحي باسمه يقع مطعم “فاتح الخير” الذي يقدم الوجبات السورية بأصنافها، وإلى جانبه تجري ترتيبات أولية ومتسارعة لفتح مطعم “سلسلة طربوش” التي تعود إلى مالكٍ سوري أيضا.

في الطرف المقابل وعلى حائط سور جامع الفاتح يقع محل تجاري لبيع “النابلسية السورية”، وبجواره افتتح تاجر سوري ومنذ أكثر من خمسة أعوام مركز لبيع الذهب والمجوهرات ذات الصياغة والصناعة السورية، ويحمل اسم “طيبة”.

هذه الصورة الأشبه بما كانت عليه أسواق دمشق وحلب، لا تقتصر على مركز منطقة الفاتح المتمثلة بسوق مالطة، بل تنسحب إلى خطوات أبعد بقليل، وصولا إلى “طلعة الأمنيات ونزلتها”، والتي تكاد تنقطع فيها الكلمات والأحاديث التركية، على حساب اللغة العربية، وبشكل أدق اللغة التي يتحدث بها السوريون.

في المنطقة المذكورة تحولت “الدونر التركية” إلى “الشاورما السورية”، وأيضا “الكورو فاصولييي” إلى الفلافل والفول والحمص وتوابعها.

مطعم “بوز الجدي” الذي يعرفه أهالي دمشق جيدا بات ينادي على زبائنه من وسط إسطنبول.

ومن باب المفارقة والخصوصية الفريدة التي باتت تعرف بها منطقة “حي الفاتح” تعلو يافطات لأسماء أخرى كـ”فلافل على كيفك”، “مطعم بلودان”، “حلويات نور الدين”، “غذائيات شام والحجازي”، وأخرى لمحال تصريف العملة وبيع الأجهزة الالكترونية والملابس.
“تجمع شامي كبير”

معاذ شاب سوري يلقب بـ”أبو العز” يعيش في حي الفاتح منذ أكثر من خمسة أعوام، ويعمل حاليا في مطعم “بوز الجدي”، يقول: “الفاتح بنص المدينة. فيها تجمع شامي كبير، وهي أقرب للشام من إسطنبول”.

يضيف “أبو العز” في تصريحات لموقع “الحرة”: “طول ما الشغل ماشي هون بشارع الفاتح ما في رجعة. نحنا بمنطقة حلوة وراقية مع أنها غالية بالإيجارات والعيش. مع ذلك كل شيء متوفر”.

يوضح الشاب السوري أن حي الفاتح هو المنطقة الأولى التي أسس فيها السوريون أعمالهم ونشاطاتهم التجارية منذ الوصول الأول.

ويشير إلى أن الآلاف منهم، والذين يعيشون في مناطق أخرى بإسطنبول كباشاك شهير وزيتون بورنو وغيرها صاروا ملزمين بالتردد على الفاتح بين اليوم والآخر لشراء احتياجاتهم، والتي قلما يجدونها في مناطق بعيدة عنه.

ولمطعم “بوز الجدي” ديكورات خاصة مستنسخة عن شوارع وحارات دمشق، فعلى جدرانه تعلو لوحات سميت بأسماء شوارع العاصمة كـ”شارع عبد الرحمن الداخل”، “منطقة البرامكة”، “حي القنوات”، “موقف الفيجة”.

المرتاد للمطعم المذكور ستحرك مسامعه أغاني لمسلسل “باب الحارة”، وأخرى تعود لحقبة دمشقية قديمة.
“موقف عنصري”

في آخر الإحصائيات الصادرة عن “إدارة الهجرة التركية” وصل عدد السوريين المقيمين في مدينة إسطنبول بموجب “الحماية المؤقتة” أكثر من 479 ألفا، مع غياب أي إحصائية تحصر عددهم في حي الفاتح الشهير.

لكن وحسب ما قالت مصادر تركية مطلعة في تصريحات لموقع “الحرة” فإن العدد الأصلي للسوريين يتجاوز ما تعلن عنه “إدارة الهجرة”، خاصة أن قسم كبير منهم يحمل الإقامة السياحية، وآخرين مازالوا دون أي قيود.

وتضيف المصادر أن عدد السوريين في الحي يتجاوز 150 ألفا، ولا ينحصر فقط في منطقة الأسواق التجارية، بل ينسحب إلى المناطق المحيطة بشارع فوزي باشا وشارع “أكدنيز”، وصولا إلى منطقة أكسراي.

في مطلع عام 2019 لاقى السوريون في منطقة الفاتح تصريحات عنصرية من قبل مرشحة “حزب الجيد” المعارض لبلدية منطقة الفاتح، إيلاي أكسوي، والتي نشرت حينها تسجيلات مصورة لمحال السوريين وطبيعة أعمالهم التجارية الكبيرة.

وفي ذلك الوقت رفعت أكسوي لافتة انتخابية في شوارع منطقة الفاتح قالت خلالها: “لن أسلم منطقة الفاتح للسوريين”.

هذه الحادثة تركت أثرا سلبيا لدى شرائح السوريين المقيمين في المنطقة، لكن سرعان ما تبددت كون الظرف الذي جاءت فيه تزامن مع الانتخابات البلدية، الأمر الذي اعتبر كخطوة لدعاية سياسية وداخلية.

في مقابل ما سبق وكآخر الإجراءات التركية المتعلقة بوجود السوريين في المنطقة المذكورة، كانت مديرية الهجرة قد أعلنت، مطلع العام الحالي وقف منح الإقامة السياحية لأول مرة للمقيمين في منطقتي الفاتح وإسنيورت.

واستثنت المديرية، في بيان نشرته على موقعها الرسمي حينها من القرار طلبات الإقامة القصيرة الأمد في منطقة الفاتح للاستثمار، وطلبات الطلاب المسجلين في جامعات بمنطقة الفاتح.
“التأسيس يصعّب العودة”

على اعتبار أن الصورة العامة لمنطقة الفاتح التركية قد تغيرت بعد 2015، إلا أن هذا التغير تحسسه السوريون أيضا، لكن بمسار مختلف، فالإيجارات لم تعد كما في السابق، سواء للمحال التجارية أو للمنازل.

فمثلا وقبل خمسة أعوام كان المنزل المؤلف من غرفتين وصالة يعادل ثمن إيجاره 1200 ليرة تركية، أما الآن فيصعب تحصليه بأقل من 2500 ليرة تركية، وهو الأمر الذي ينطبق على المحال التجارية أيضا، والتي بات لتحصيلها والاستحواذ على إيجارها “عرف خاص” داخل المجتمع السوري.

علي شاب سوري من مدينة عربين في الغوطة الشرقية يعمل في محل لبيع العطورات وسط “طلعة الأمنيات”، يقول: “الحصول على محل للإيجار بات من الصعب في الوقت الحالي. لتحقيق ذلك يجب البحث عن أصحاب الفروع والكمسيون”.

لم يكن “عرف الفروغ” معروفا من قبل في تركيا، حيث تخضع عقود الإيجار إلى القانون التركي الذي يلزم المستأجر عند نهاية مدة العقد بإخلاء المأجور وتسليمه بريء الذمة إلى المؤجر.

ويضيف علي في تصريحات لموقع “الحرة”: “العرف يلزم السوري الراغب باستئجار مجل تجاري على دفع بدل نقدي كبير للشخص الذي ينوي التأجير، وذلك بعيدا عن أي متطلبات أخرى قد تفرض بعد هذه العملية”.

يشير الشاب السوري صاحب محل “المصري للعطورات” إلى أن أكثر من 100 ألف سائح يرتاد منطقة الفاتح بشكل يومي، ويتابع: “على الرغم من غلاء الإيجارات إلا أننا ملزمين في العمل داخل هذا الحي لكسب الرزق”.

ويوضح أن الكثير من زبائنه الذين كانوا يرتادون محله التجاري في العاصمة دمشق قبل سنوات كثيرة باتوا يترددون عليه الآن في إسطنبول التركية، وخاصة العراقيين.

زاد الشاب السوري: “من أسس لتجارته هنا قبل سبع سنوات من الصعب عليه العودة إلى البلد (سوريا). نشعر وكأننا في سوريا”.
“أموال إسطنبول لإسطنبول”

في مقابل الاستثمارات والنشاطات التجارية في منطقة الفاتح، والخاصة بشريحة كبيرة من السوريين، هناك شريحة أخرى تعاني من الواقع المعيشي الصعب، لكنها تتمسك بالبقاء فيه لإبعاد “شبح الغربة”.

محمد ديب أبو قوره الذي بدأت القصة بالحديث معه يقول: “لم أدخر أي ليرة تركية. عملي اليومي آكل وأشرب به فقط. مستورة”.

ويتابع قوره الذي يعيش مع أخيه في منزل رخيص ثمن إيجاره في أطراف الفاتح: “بعد ست سنوات مصاري إسطبنول لإسطنبول إذا ضلينا نشتغل 100 سنة”.

يحلم الشاب الذي وصل بعمر 16 عاما هاربا من دمشق أن يعود “في يوم ما” إلى حي باب سريجة وسط دمشق، فهناك “أهله وناسه”.

وفي المقابل يشير إلى أن شريحة واسعة من السوريين في إسطنبول لا يرغبون بالعودة بعد الآن، كونهم أسسوا لحياتهم فيها وبات لهم “أرزاق”.

الحرة-ضياء عودة

اقرأ ايضاً:كائن بحري قاتل يتسلل من المحيط الأطلنطي إلى البحر المتوسط

شام تايمز
شام تايمز