الجمعة , مارس 29 2024
المعضلةُ السُّورية

المعضلةُ السُّورية

المعضلةُ السُّورية

شام تايمز

نبيل صالح
في العام 1860 كتب الباحث الفرنسي سان مارك جيراردان: “المعضلةُ السُّورية هي جوهرُ المسألة الشرقية برُمَّتها “… وما زالت سورية هي المعضلة إلى اليوم، وستستمر، ولن نتوازن إذا لم نتمكن من قلب المسألة لنغدو مدينةً عالمية يتفقُ فيها الجميع بدلاً من التناطح عليها وفيها… فمنذ هزيمة العثمانيين أمام الروس عام 1774 بدأ الحديث عن المسألة الشرقية وتفكُّك السَّلطنة ووراثة ولاياتها في مصر وسورية والعراق، ثم أخذت المسألة أبعاداً جديدة بعد الحملة الفرنسية على مصر والشام سنة 1798 فعززت التنافسَ الأوروبي على التركة العثمانية، حيث تدخلت بريطانيا وطردت نابليون من مصر، فاتفق القيصرُ الرُّوسيُّ “ألكسندر الأول” مع “نابليون بونابرت” على تقسيم أراضي الدولة العثمانية بمقتضى معاهدة تيلزيت عام 1807، ثم نشأ الخلاف بينهما إذ كان الأوربيون يريدون الإبقاء على الدولة العثمانية بضعفها، بينما يرغب الروس بالإطاحة بها، وبسبب ذلك دعم الأوربيون السلطانَ العثماني ضد دولة محمد علي الناشئة، الذي كان قد استغل الصراعات بين ولاة الشام ليتدخل في شؤونها، فتقدم جيشُهُ بقيادة ابنه “إبراهيم باشا” ليضم دمشق وحمص وبيروت وصيدا وطرابلس وحلب حتى وصل إلى قونيه على مسافة قريبة من العاصمة القسطنطينية، وأسر الصَّدرَ الأعظم بعد أن تاه في الضباب وهو يحاول حشد جناح الجيش الأيسر المنهار… فقد كان “محمد علي يريد أن يجعل من سورية خط دفاع، أما ابنُهُ إبراهيم فرآها فرصة لإسقاط الدولة العثمانية، وهنا كان خطؤه إذ استنجدت السلطنة بعدوِّها الروسي، فتخوفت الدول الأوروبية من طموحات الدب الروسي وتدخلت لإنقاذ فريستها من أنيابه ومن براثن ابراهيم باشا وأنجدت السلطان العثماني بقوة أوروبية، ثم حطموا أسطول إبراهيم باشا في معركة (نافارينو) البحرية عام 1827 خوفاً من أن ترث السلطنة دولة مشرقية فتية، وهكذا انكفأت أول دولة عربية حديثة داخل حدود مصر، وأكملت الدول الأوروبية وروسيا القيصرية مشروعها لوراثة السلطنة ضمن اتفاق “سايكس بيكو”.

شام تايمز

3

بعد ثورة البلاشفة واستيلائهم على وثائق وزارة خارجية روسيا القيصرية 1917، قاموا بنشر هذه الوثائق ومن بينها اتفاقية سايكس بيكو الموقعة من قبل أربع دول: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا القيصرية، وتشمل مراسلات وتفاهمات بين وزراء خارجية هذه الدول لبحث تقسيم تركة الدولة العثمانية بعد نهاية الحرب، وجرت هذه المباحثات خلال عامي 1915م و1916م وسط معمعان الحرب العالمية الأولى.
اتفقت الأطراف أن تأخذ روسيا القيصرية أقساماً من شرق تركيا، فيما يأخذ البريطانيون العراق، بينما تقام في المناطق الداخلية دولة عربية تتبع للتاج البريطاني، أما الفرنسيون فكانت حصتهم بلاد الشام والموصل ومرسين وأضنة والإسكندرون، وترك للإيطاليين السيطرة على جنوب غرب تركيا، فيما أعطي لليونان الشواطئ الغربية لتركية.
أما فلسطين فقد تقرر أن تكون تحت إدارة دولية، نظراً لأهميتها الدينية ورغبة جميع الأطراف أن تكون تابعة لهم، مع إعطاء البريطانيين مدينة حيفا لتكون ميناءً لهم، إلا أن الثورة البلشفية في روسيا أواخر عام 1917م أخرجت روسيا من الحرب العالمية ومن الاتفاقية… وأما الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو على الورق فقد تغيرت على الأرض، فجاءت اتفاقية سان ريمو عام 1920م لترسم الحدود كما هي اليوم..

4

أفضل مؤرخ سوري اشتغل على وثائق سايكس بيكو ووثقها من مصدرها الأصلي هو الأب الدكتور جوزيف موسى حجار، (الذي اختاره الرئيس حافظ الأسد للمشاركة في وفد مفاوضات شيبردز تاون) فقد نقل خلال سنواتٍ، الكثيرَ من وثائق أرشيف الخارجية الفرنسية حول تقاسم التركة العثمانية، ليس كلها فهناك وثائق لم يفرج عنها بعد… وقد استخدم هذه الوثائق في مؤلفاته الصادرة بالفرنسية حيث تفاوضتُ معه مطولاً، بالتعاون مع رجال أعمال قوميين لترجمتها ونشرها، ولم يفعل، ثم فوجئتُ بنسخة مترجمة مختصرة عن المراسلات نشرتها دار طلاس أرسل لي نسخة منها وتحتوي على مقدمة من 70 صفحة أما التقارير الفرنسية فتشتمل على 32 وثيقة، ويرى في مقدمته أن هذه الاتفاقات مازالت تتحكم في مصير منطقتنا العربية حتى الآن، وأنها السبب في أزمتنا الحضارية، حيث نشأت دويلات في إطار الكيان السوري، وغرست الخنجر الإسرائيلي فيه، غير عابئة بحقوق سكان البلاد وبآمالهم في التحرر والسيادة في إطار دولة واحدة ذات مقومات كافية من موارد مادية وبشرية ترسخ دعائمها وتفرض مكانها بين الأمم المتحضرة. ومازالت إشكالية القضية السورية في مداها التاريخي تشكل المحور القطبي في صلب القضية المشرقية التي لم تفقد أهميتها رغم انهيار النظام العالمي الثنائي، وهذا ما يدفعنا لأن نستذكر مراحل تاريخنا المعاصر وأن نتعرف على أسباب تجزئة بلادنا السورية في جذورها ومضمونها وانعكاسها سلباً على حياتنا خلال مئة سنة…

5

في الوثيقة الأولى المؤرخة في 2 تشرين الثاني 1915 ينقل “دوفراس” إلى رئيس الحكومة الفرنسية “بريان” وجهةَ نظر المندوب السامي البريطاني السير “مكماهون”: “من أن المسألة العربية كانت قد وصلت إلى نقطة حرجة، وبات من الضروري إيجاد حل، حيث أن العرب موجودون عند تقاطع طرق: الأول هو طريق التعاون مع ألمانيا، والثاني طريق التعاون مع الحلفاء، وأن عليهم اختيار أحدهما خلال فترة قصيرة جداً، وأن الألمان كانوا قد غمروا العربَ بالذهب، حيث وزعوا 500 ألف ليرة ذهبية في العراق وبلاد الرافدين و300 ألف في البلدان العربية الأخرى مع وعد للعرب بتحقيق مطالبهم في الاستقلال دون الاهتمام بالطريقة التي يمكن أن يتوافق بها تنفيذ هذا الوعد مع حليفتهم تركيا”.
لم تكن فرنسا قبل احتلالها سورية تميل إلى تقسيمها، وكانت تعليمات رئيس الحكومة الفرنسية بريان إلى السفير كامبون ومعاونه المفاوض بيكو: “الحفاظ على وحدة البلاد السورية كاملة، لأن سورية ستقوم بدور البديل عن الخسارة الناجمة من انهيار الدولة العثمانية، وهذا يعني أن تحافظ على مجالها الإقليمي الطبيعي الواسع غير المنتقص بحيث تستطيع أن تعيش على مبدأ الاكتفاء الذاتي اعتماداً على مواردها الغنية دون أن تكون عبئاً على الدولة المستعمرة أو تابعة لها في مصادر تنميتها وتقدمها. فهي بذلك ستكون كما في الماضي مركز إشعاع حضاري في الجزء الشرقي من حوض المتوسط. هذه هي صورة سورية الجديدة التي سيفخر بها الفرنسيون لا بل السوريون أنفسهم على حد سواء، وإلا ستكون البلاد بؤرة تستعر فيها علل التشكيك وخيبة الآمال والحسرة بين المواطنين وصفوف الأنصار”.. غير أن المفاوضات مع بريطانيا ومجريات الحرب على الأرض أفضت إلى تقاسم سورية بين المحتلين، حيث قسم الإنكليز جنوب سورية (فلسطين والأردن) وكذا فعلت فرنسا بما تبقى منها ..

6

تظهر المراسلات معرفة وخبرة كبيرة لفريق المفاوضين الإنكليز بتاريخ المنطقة العربية وطريقة تفكير شعوبها ومشاكلهم الدينية والمذهبية ومصالحهم الاقتصادية وتوجهاتهم الثقافية ونقاط ضعفهم وقوتهم، كما وأنهم يستنتجون المشاكل التي قد تقع معهم في حال الإقدام على خطأ في عمليات التقسيم، وبالمجمل يمكن أن تشكل هذه المراسلات دروساً سياسية تظهر حنكة الإنكليز التي جعلت منهم امبراطورية استمر نفوذها في البلدان التي استعمرتها حتى بعد تحررها، ويمكن التأكد من ذلك عبر حفاظ العرب على الحدود التي رسمها الفريق البريطاني بالمجمل خلال قرن ونستمر… تقول الوثيقة المؤرخة في 2 كانون الثاني 1916: ” أن الجانب البريطاني يرى أن فلسطين لم تكن يوما سوى مقاطعة من سورية الرومانية كما هي اليوم جزء من سورية العثمانية، ولم يكن لسورية استقلال وحياة سياسية مستقلة إلا في عهد السلوقيين، وكانت تشتمل في ذلك الحين على سوريا البيضاء أو كيليكيا، وسوريا السوداء (حوض العاصي مع دمشق وحلب) والدول القديمة اليهودية والفلسطينية والفينيقية” وتختم الوثيقة برأي البريطانيين أنه “سيكون من الخطأ من وجهة النظر التاريخية، وكذلك وجهة النظر الإجناسية، إقامة فلسطين منفصلة عن سورية، ومع ذلك، إذا كنا نريد إرضاء المنادين بذلك، فيمكننا، بالعودة إلى الأزمنة الأسطورية تقريبا التي تسردها أخبار التوراة وفتراتها الزمنية، منح إنشاء بلد لليهودية يبلغ في أقصى الشمال خطاً من أريحا إلى البحر جنوب يافا ويكون محدداً من الشرق بالبحر الميت ومن الجنوب بالصحراء. ولكن يجب أن تكون هذه الدولة حيادية ودولية في الوقت نفسه، وذلك بسبب القدس. فالأنجليكان لا يستطيعون في الواقع، وكذلك الأرثوذوكس والكاثوليك، المطالبة بممارسة السيادة على القدس. ويجب أن تكون للمسلمين والمسيحيين واليهود حقوق دينية يحفظها لهم قانون دولي”. فعلى الرغم من معرفة البريطانيين بخطأ استعادة الأساطير التوراتية وخطأ فصل فلسطين عن سورية، فقد وافقوا على زرع إسرائيل فيها ليتخلصوا من يهودهم بطريقة أذكى من طريقة هتلر…
أيضا كان الفريق الفرنسي يستنج الأخطار التي ستجابههم ضمن التركيبة التي يقترح البريطانيون حدودها، غير أن عقلهم لم يكن بارداً كالإنكليز وكانوا ينظرون من منظور ديني مسيحي على الرغم من نظامهم الجمهوري العلماني… يرد في مذكرة السفير بول كامبون إلى الرئيس بريان بتاريخ 22 كانون الأول 1915 حول نتيجة الاجتماع مع البريطانيين: “….. وقد تم اقتراح تشكيل لبنان الموسع ببيروت والبقاع، كمقاطعة خاصة من الدولة العربية يكون لها حاكم فرنسي وتحتفظ بنظامها المميز في التنظيم الجديد… إن هذا المشروع يحمل أضراراً ومواجع جدية. بالإضافة إلى الانطباع المغضب الذي سيسببه للشعب المسيحي في لبنان عندما يجد نفسه خاضعا للسلطة حتى الاسمية لشريف مكة سليل النبي.

فإن الرأي العام الفرنسي سيعاني بالتأكيد من إحباط ساخط إذا ما استنتج أن المنطقة التي مارسنا فيها نشاطنا لأطول فترة مستمرة، وحيث بلغت أعمالنا أوج ازدهارها قد أقصيت تحديداً عن حكمنا…… ولايمكنني تجاهل أن التنظيم الجديد سيضع الحاكم الفرنسي للبنان في صراع مع أشد المصاعب، إذ يكفي أن نعرف حدة المزاحمات في الشرق بين مختلف المذاهب والديانات من أجل أن نقدر ما سيكون عليه عنف الصراعات الأهلية في لبنان، وعندها فإن أي سلطة خارجية لن تستطيع كبحها، وسنرى فوراً القوميات المسيحية كافة تقيم حاجزاً ضد المسلمين الذين سيستنجدون حتماً بشريف مكة، وسيكون على الحاكم بشكل حتمي البقاء متفرجاً بلا حول ولا قوة أمام هذا الوضع والظهور كعدو لهؤلاء المتشيعين للنبي، إلى أن يأتي وقت يجبرنا فيه قرب اندلاع الاضطرابات على التدخل فيكون علينا، على العكس، الظهور كخصوم للمسيحيين الذين دعمونا دائماً، وسينجم بالتالي عن هذا الوضع ضرر مزدوج في أن نعرض أنفسنا للشبهة بالتتالي في نظر العرب الذين علينا أن نبذل جهدنا من أجل كسبهم في كامل منطقة نفوذنا، وموالينا التقليديين الذين سيحبطون بشكل عميق بسبب تصرفنا غير المتوقع”… هذا وقد تحقق تخوف كامبون في لبنان بعد نصف قرن من كتابة مذكرته حيث نشبت الحرب الأهلية فيه…

7

صحيح أن القوات العثمانية قد اندحرت من سورية كما اندحر الإغريق والرومان والصليبيون من قبلهم، غير أنهم تركوا سلالاتهم المدنية بيننا… فالذين ولدوا على أرض سورية وملَّكهم أجدادهم الغزاة أفضل الأراضي والعقارات وجمعوا الكثير من الثروات، لن يغادروا إلى بلاد لا يعرفونها ولا يملكون فيها شيئا، بالإضافة إلى أنهم تزاوجوا مع السوريين وأقاموا تجارتهم وعلاقاتهم الاجتماعية معهم حتى باتوا ينتمون للمكان، غير أنهم ظلوا متمسكين بحكاية أجدادهم الغزاة ويفخرون بها، وكذلك حافظوا على عصبياتهم وأحيائهم كما لو أنها “غيتو” يهودي، وقلة منهم تخلوا عن ما تقدم واندمجوا باعتبارهم سوريين، وهذا ما حصل بعد جلاء العثماني، إذ أن الأعيان من بقايا العثمانيين شكلوا جزءا من الطبقة الاقتصادية والسياسية في البلاد، وكان الرعيل الأول من حكام سورية قبل ثورة البعث من التركمان والأكراد، الذين ناهضوا فرنسا ليس لحميتهم الوطنية وإنما استمراراً لصراع الغزاة السابقين واللاحقين على البلاد، وهناك الكثير من الأمثلة ليس من المفيد ذكرها … وأما فرنسا فلم تترك خلفها أي عائلات مدنية، بعكس ما حصل في الجزائر، نظرا لقصر الفترة الاستعمارية لسورية، فغادرت ولكنها خلفت وراءها عملاء ومثقفين فرانكوفونيين، وقد تجلى ذلك في لبنان بشكل أوضح حيث بقي لبنان الماروني متعلقا بفرنسا (الأم)، وبقي الفرنسيون يتحركون فيه كما لو أنه مازال مستعمرة فرنسية، مثلما كان واضحاً خلال زيارة الرئيس الفرنسي لبيروت بعد انفجار المرفأ العام الماضي… وبالعودة إلى سورية نرى أن أغلب ثورجيي اليوم هم من بقايا العثمانيين، ولاؤهم لتركيا التي تعمل على إيقاظ بقاياها العثمانية في البلاد العربية… ما يعني أن المعضلة السورية قد جددت نسختها، حيث تتصارع فرنسا اليوم مع تركيا، وروسيا مع أمريكا (وريثة الاستعمار البريطاني)، وبقايا أحفاد الشريف حسين في الأردن والسعوديون في الجزيرة مع الإيرانيين، كلهم يتنافسون على سورية بحيث بتنا ساحة قتال الجميع فيها ضد الجميع، وبتنا نحتاج إلى ضعف الأموال التي هدرت على الحرب لكي نعيد البناء… بناء البشر قبل الحجر لكي يندغموا في المواطنة والحداثة والعلمانية، متخلصين من إرث الغزاة الذي يحملونه، فبوحدة البلدان السورية يمكن لشعبنا أن ينجز دولة مثالية لا تحتاج إلى شيء من خارجها…

8

يمتد الصراع الأمريكي الروسي على سورية إلى أيام الرئيس شكري القوتلي الذي رفض مرور أنابيب الغاز الخليجي عبر سورية فلبنان، كما استاءت واشنطن منه لتوقيع اتفاق صداقة مع الاتحاد السوفياتي، والحصول على قرض منه، وتعيين عفيف البزري قائداً أعلى للجيش السوري، الذي تتهمه الحكومات الغربية بتعاطفه مع السوفييت… حيث أدخل الأمريكان سورية ضمن خريطتهم لمناهضة الشيوعية، وألبوا تركيا التي حشدت جيشها على الحدود السورية سنة 1957 كما كانت على دراية بمؤامرة حسني الزعيم 1949 للإطاحة بالقوتلي، حتى أن بعض مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية زعموا هندسة انقلاب الزعيم وتمويله، وقد عاشت سورية سلسلة انقلابات عسكرية كانت أمريكا موجودة في أغلبها، إلى أن حسم البعثييون الأمر بالتحالف مع السوفييت وتسليح وتدريب الجيش على غرار أفغانستان والصومال التي كان السوفييت يدعمون حكوماتها اليسارية وجيوشها في ستينيات القرن الماضي. فقد شكلت القضية الفلسطينية محور السياسة السورية حتى قيام حربنا الحالية، حيث تنشغل سورية برد عدوان الأمريكان ومرتزقتهم عنها، وقد أظهرت وثائق “ويكيلكس” تمويل حكومة الولايات المتحدة للمعارضة السورية منذ 2006 كما مولت “حركة العدالة والبناء الإخونجية” في بريطانيا والتي يرأسها أنس العبدة، ومولت إذاعة “بردى” المعارضة، ومنذ عام 2013 قام عملاء السي آي إي بتدريب ونشر 10000 مقاتل ضد الدولة السورية بكلفة مليار دولار سنوياً، فما هي عائدات هذه التكاليف عليها؟ هذا هو السؤال…

9

في منتصف آب من عام 2002 زرت ثلاث مدن أمريكية (واشنطن ونيويورك وشيكاغو) بدعوة من وزارة الخارجية الأمريكية، وكنت محرراً في جريدة “تشرين” السورية. كان معي في الدعوة أربعة صحفيين عرب من اليمن وتونس والمغرب ولبنان. وقد التقينا في مبنى وزارة الخارجية مع كريستوفر روس السفير الأمريكي السابق في سورية، وجيمس لوروكو السفير الأمريكي في الكويت… قبل التعارف سأل روس بلهجة شامية: “مين بينكم السيد نبيل صالح!”؟ فعرَّفتُهُ بنفسي ليفاجئني بقوله: “استفدنا منك كتير…” فقلت له بسخرية: “ما كنت بعرف أني عميل عندكم… ممكن تشرح لي كيف أفدتكم؟” فضحك وقال” “أن فريق الحمائم طرح مشروع حملة ديبلوماسية على الدول العربية لتحسين صورة أمريكا في عيون العرب بعد سؤال بوش الشهير (لماذا يكرهوننا!) غير أن فريق الصقور عارض الحملة مفترضاً أن أحداً هناك لن يستمع لنا، وحاولوا تعطيل الجولة، فاستشهدنا على خطأ رأيهم بمقالة لك نشرتها جريدة “تشرين” تحت عنوان: “نحن لا نكره أمريكا وإنما نكرهُ الوجه الإسرائيلي في السياسة الأمريكية”، كنت قد طرحت فيها تسع نقاط للتعاون بين الولايات المتحدة وسورية (وقد استدللت على ذلك بالعلاقات المميزة بين النخب العربية والدول الأوروبية بعد الاستقلال عنها)… غير أن الأمريكان الذين ورثوا المشرق العربي عن البريطانيين كانوا أقل ذكاء منهم في البناء السياسي، فكل ما كسبوه من نفطنا وغازنا صرفوه على التدخل بشؤوننا والعبث بأمننا، منذ الخمسينات حتى اليوم..

فهم لم يفهموا المسألة السورية وتوازناتها المشرقية، ولم يفهموا إصرار السياسيين السوريين منذ الاستقلال على عدم الانحياز، ورغبتهم بفتح قنوات مع جميع الدول، ذلك أن سياسة دمشق وريثة تجارتها، وهي تتعامل معك كبائع أو كمشترٍ بتجرد ودونما عواطف… وبالتالي لم يفهم الأمريكان سورية ولم يتقنوا التعامل معها، وكانوا أقل مستوى من كل الغزاة الذين مروا عليها عبر التاريخ… وما أذكره أني دونت لقاءاتي وانطباعاتي مع النخب الأمريكية في 64 صفحة لم أنشر منها شيئاً! وعندما اتصل بي مدير مكتبهم الصحفي بدمشق، بعد أسبوع من عودتي، فيما إذا كنت سأنشر شيئا عن زيارتي قلت له: “لن أنشر”، قال: “لماذا ؟ فقلت: “حتى لا أساهم بتحسين صورة أمريكا…” فقد كانت إدارة بوش ماضية وقتها باتجاه احتلال بغداد كما كنا نرى، ومن يومها بات واضحاً كيف أن الأمريكان خربوا تقاليد العمل السياسي ولم يفهموا الجذور التاريخية للمشاكل الدولية في المشرق العربي، وكانوا مثل الثور الهائج الذي قد ينطح حتى صاحبه، وما فعلته إدارة ترامب تؤكد ذلك، لهذا فإن صداقة أمريكا مؤذية مثل عداوتها، والأفضل تحاشيها قدر الإمكان، وعدم استفزاز قرونها الطويلة، وأفضل ما نقوم به هو هندسة سياسة توفيقية وعدم الانحياز، مثلما فعل الرئيس حافظ الأسد خلال ثلاثة عقود، فالحليف سيشربك والعدو سيأكلك، والعلاقات بين الدول رهينة مصالحها.

إقرأ أيضاً: سوريا.. طابور على مد النظر من صهاريج النفط إلى شرق الفرات

عربي برس

شام تايمز
شام تايمز