الأربعاء , أبريل 24 2024

السبعينية أم نضال .. 50 عاماً من صناعة “التنور” ولا تزال عاشقة لمهنتها

السبعينية أم نضال .. 50 عاماً من صناعة “التنور” ولا تزال عاشقة لمهنتها

عثمان الخلف
لم يمنع تقدم السيدة “فوازة العباس” بالعمر من أن تمارس مهنتها في صنع “التنانير”، أم نضال المُسنة التي قاربت السبعين تعيش في قرية ” حطلة ” بدير الزور، وتساعد أسرتها فيما تدره مهنتها من مال لتوفير متطلبات معيشة 9 أفراد، ولا تزال عاشقة للمهنة وتعمل بها رغم المتغيرات التي طالت وسائل الإنتاج وما أفرزته من جعل هكذا مهن تراثية لا أكثر.
بدأت بعمر 13 عاماً
كعادتها منذ أن تعلمت كيفية صناعة التنور ، تستيقظ ” أم نضال ” مع ساعات الصباح الأولى إلى عملها، خصصت مكاناً حول منزلها تضع فيه التراب الذي
تجمعه وتصب عليه الماء لتجبله فيتحول طيناً تصنع منه أعداداً من التنانير حسب الطلب .
تحدثت أم نضال لـ “هاشتاغ” عن مهنتها قائلة “أغلب من يعمل بهذه المهنة هُنّ النساء ، كانت بداية تعلمي لها في مدينتي موحسن، بعمر الثالثة عشرة بدأت عندما كنت أتردد على جارتنا التي تمتهن هذه الصناعة ، وهكذا شيئاً فشيئاً تعلمتها، ووضع عائلتي الفقير لم يُتح لي التعلم المدرسة بالرغم من وجود المدارس آنذاك ولا أزال حتى الآن أعمل بها وتساعدني إحدى بناتي، أما زوجي يعمل (جصاصاً) ، وبذلك نتعاون على تأمين القوت اليومي لعائلتنا ، إضافة لطفلتين يتيمتين لابنتي “.

 

وأضافت أم نضال : “لم تعد صناعة التنور كما السابق، الناس تلجأ للمخابز الآليّة حتى في الأرياف التي كان التنور أحد أبرز ما تمتلكه العائلة، الحرب غيبت الزراعة، لكن بقي التنور موجوداً وتلجأ له العوائل الريفيّة وعند توفر القمح ، كنت تشاهد النساء الريفيات يخبزن بشكل يومي، لكن الآن الأمر يتم في الأسبوع مرة
وأحياناً في الشهر مرة أو مرتين، اللهم إلا من استطاع زراعة أرضه وتخزين قوته من القمح فتجده خبزه بشكل يومي، الأمر مرتبط بالمستوى المعيشي.
ولاشك أن الإقبال على اقتناء التنور قليل كما تُشير “العباس” مضيفة : ” لكنه لا يزال مطلوباً ، سواء في الأرياف أو في المدن بالنسبة لمحال خبز التنور الأهليّة”
وعن كيفية صناعته قالت : “الأمر يحتاج نوعيّة معينة من التراب، في دير الزور نُسميه (الحري) أجلبه من منطقة في القرية قريبة من نهر الفرات، تصل كلفة
نقلة التراب هذه 50 ألف ليرة ، بعد جلب التراب لا يحتاج الأمر سوى للماء والملح ويمكن أن نأتي بالتراب من أرض سبخيّة تُعيضنا عن وضع الملح، وأضيف أيضاً لزيادة تماسك التنور عند صناعته بيدي خيوطاً من أكياس الخيش ، الملح وخيوط الخيش تُقويانه وتزيدان صلابته كما مادة التبن ، كذلك يحتاج يداً مُدربة وليس بالأمر السهل ، بناتي الثلاث تعلمن المهنة أيضاً ويساعدنني بالعمل ، أقوم ببنائه بشكل دائري بدءاً من قاعدة إسمنتية، وأدوره حسب التقدير، وأتركه لمدة أربعة أيام ليصبح قاسياً ، حيث أضع أكياساً كبيرة فوقه ثم أجهز الطين حتى يصبح قابلاً لوضعه عليه يوجد ثلاثة أنواع منه : الكبير والوسط والصغير وفق رغبة الزبون” .
لا تعمل السبعينية دون سيجارتها (نوع حمراء طويلة) فهي تلازمها منذ زواجها ، وهي لا تقوى على العمل دونها تقول ضاحكة : ” لا أجيد عملي دون تدخين هذا الصنف ، لم أغيره حتى وأنا بهذا العمر ، هو يناسبني مادياً وله مذاقه الذي اعتدته ، في سنوات ماقبل الأحداث كنت أصنع أسبوعياً 60 تنوراً ، حالياً يصل عددها خلال فترة الأسبوع 15 فقط وأبيع الواحد منها بسعر 5 آلاف ليرة سورية فقط ، أجمع ما أصنعه من التنانير صيفاً في مكان مُشمس بإحدى زوايا منزلي، وفي الشتاء أضعها بمكان آمن تحسباً من الأمطار تحت سقفٍ محمي ، لازلت بصحة جيدة تمنحني القدرة على متابعة عملي.
فيما تؤكد ابنتها ” فضيلة ” البالغة من العمر 25 عاماً أنه في سنوات ماقبل الأحداث كان الزبائن من عدة محافظات يقصدون والدتها لشراء حاجاتهم من التنانير ، من ريف حلب وحماة وإدلب، كما من الحسكة والرقة : “علمتني والدتي المهنة، أساعدها في إنجاز العمل الذي يستغرق معنا وقتاً طويلاً ، ووالدتي رغم كبر سنها لا تزال مُصرّة عليه، فما نصنعه يدر علينا مالاً يسد باباً من حاجات عائلتنا المعيشية ، نجد لذة في عملنا رغم تعبنا ، غالباً تستيقظ والدتي باكراً فهي تحتفظ بدورها في التنفيذ والإشراف لجعل قالب التنور مثل تُحفة فنيّة عالية الدقّة وإنجازها بمهارة ” .

تراثٌ باق

الباحث في التراث المادي واللامادي المهندس غسان الخفاجي يقول لـ هاشتاغ: أثرت الأحداث الداميّة التي مرت بها دير الزور وسورية عموماً بالكثير من مثل مهنة صناعة التنانير ، غياب الزراعة والأوضاع المعيشية الصعبة جعلت وجهة الأهالي إلى المخابز الآلية، غير أن لخبز التنور نكهته حتى الآن رغم غلاء سعر الرغيف منه والذي وصل إلى 150 ليرة، دير الزور المدينة تحتوي 8 مخابز، وعددها يتجاوز 10 في مدينة الميادين ، كما يوجد منها في البوكمال ، حتى
في المدن كانت العوائل تحرص على وجوده ويوضع على السطح، التنور في دير الزور عموماً مثل أي حاجة أساسية في المنزل لابد من وجوده ، الغلاء وقلة الطحين وغلائه لعدم توسع زراعة القمح بفعل الأحداث جعلت اللجوء إليه أمراً نادراً ، لكنه موجود وصناعته مستمرة على أمل تحسن الأوضاع وعودة الحياة الطبيعية بشكل أوسع، ولعل السيدة فوازة أبرز دليل على ذلك”.

لا يقتصر عمل التنور على الخبز كما يبين الباحث الخفاجي، إذ كانت النسوة بدير الزور يعددن حلويات الأعياد فيه مثل “الكليجة” ، كذلك “المحمرية” التي تتكون من البصل والفليفلة الحارة التي توضع على رغيف الخبز وغيرها من أكلات كشي الباذنجان ، كما يتم إعداد شاي الجمر كما يُسمى محلياً وله مذاق طيب لدى أهالي المحافظة وهو من الأكلات الدسمة التي تمتاز بها.
يُذكر أن السيدة ” أم نضال ” من مواليد مدينة موحسن في العام 1952 وهي معروفة على مستوى المحافظة بهذه المهنة ولها شهرة بها.

هاشتاغ