السبت , أبريل 20 2024
إضراب فرنسي شامل اليوم: «شتاء السخط» يطرق أبواب أوروبا

إضراب فرنسي شامل اليوم: «شتاء السخط» يطرق أبواب أوروبا

إضراب فرنسي شامل اليوم: «شتاء السخط» يطرق أبواب أوروبا

شام تايمز

بدأت الأضرار الناجمة عن ارتدادات الحرب الأوكرانية تتّخذ مساراً تصاعدياً، مستهدِفةً خصوصاً الدول الأوروبية التي تعيش مستويات تضخّم هي الأعلى منذ عقود. وفي ظلّ الأجواء المشحونة التي بدأت تخيّم في غير عاصمة من القارّة، تبدو باريس، والحال هذه، أكبر المتأثّرين، بفعل الإضرابات العمّالية المستمرّة، والتي تدخُل اليوم طوراً جديداً عنوانه الإضراب الشامل. تحرُّكات يرى مراقبون أنها لن تكون مجرّد انعكاس لأزمة اجتماعية أخرى كما سابقاتها في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، وإنّما فاتحة شتاء طويل من سخط سيمتدّ حتماً إلى مختلف أرجاء البرّ الأوروبي، وقد يهدّد استقرار بعض أنظمته الحاكمة ووحدة صفّ تحالف «أصدقاء أوكرانيا»

شام تايمز

تراقب عواصم أوروبية عديدة الاختبار القاسي الذي تخوضه حكومة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مواجهة أحدث موجة من الاضطرابات الاجتماعية في فرنسا، ولا سيّما بعدما تطوّرت إضرابات عمّال مصافي النفط المستمرّة منذ أسابيع، إلى دعوة إلى الإضراب العام الشامل (اليوم الثلاثاء)، ما من شأنه أن يشلّ الجمهورية بأكملها. وتُواجه الدول الأوروبية بمجملها، نقصاً متزايداً في إمدادات الطاقة وضغوطاً اقتصادية غير مسبوقة دفعت بالتضخّم وما نتج منه من ارتفاع للأسعار، إلى مستويات لم تَعهدها منذ الحرب العالمية الثانية.

وتمخّضت عن هذه الأجواء المشحونة حالة تململ شعبي في غير ما دولة، على رغم اتّخاذ العديد من الحكومات تدابير استثنائيّة للتخفيف من انعكاسات الأزمة، فشهدت براغ (عاصمة التشيك)، مثلاً، تظاهرات ضخمة، ونفّذ عمّال القطارات في بريطانيا أكبر إضراب لهم في ثلاثة عقود، ليلحق بهم آخرون من سائقي الحافلات ومهن أخرى، كما تداعت نقابات عمّال شركات الطيران في كلّ من إسبانيا وألمانيا إلى الإضراب للمطالبة بتصحيح الأجور لتتناسب مع الارتفاعات المتلاحقة في تكاليف المعيشة. على أن حجم الإضرابات واستمراريّتها ومدى تأثيرها على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي، اتّخذ في فرنسا بُعداً آخر تماماً.
ad

ففي جميع أنحاء الجمهورية بات ما لا يقلّ عن ثلث محطّات الوقود خارج الخدمة كلّياً أو جزئياً؛ بسبب إضراب سريع الاتّساع لعمّال محطّات تكرير النفط امتدّ إلى معظم المصافي الثماني الرئيسة في البلاد، فضلاً عن إضرابات متزامنة لعمّال بعض المحطّات النووية – التي تعتمد عليها فرنسا بشكل كبير لتوليد الكهرباء -، وعمّال سكك الحديد. ومع أن البلاد تعاملت ببرود بادئ الأمر، إلّا أنها تلقّت، الأسبوع الماضي، صفعة، عندما نفد الوقود من أغلب المحطّات، وأُجبر سائقو السيارات على قضاء ساعات طويلة في البحث عن آخر المحطّات المستمرّة في صرف المحروقات والاصطفاف في انتظار غير مضمون النتائج لملء خزانات سياراتهم. وانتشرت تقارير على وسائل التواصل الاجتماعي عن مشاجرات بالأيدي بين السائقين الغاضبين، ما حدا بالحكومة إلى شراء المنتجات النفطيّة من السوق الدوليّة بأسعار باهظة سعياً منها إلى تخفيف الضغوط.

ويطالب عمّال معامل التكرير بأجورٍ أعلى تُمكّنهم من مواجهة الأعباء المعيشيّة المتضخّمة، لا سيما في ظلّ أرباح قياسية حقّقها عملاقا النفط في البلاد، «توتال إنرجيز» و«إكسون موبيل»، مستفيدَين من الارتفاعات المتلاحقة في أسعار النفط عالميّاً. وقد تظاهر عشرات آلاف الفرنسيين في العاصمة باريس، الأحد الماضي، لدعم مطالب العمّال، وحطّم بعضهم زجاج المصارف، واشتبكوا مع شرطة مكافحة الشغب. وتقود «الكونفدرالية العامة للشغل»، أو CGT، وهي ثاني أكبر نقابة عماليّة في فرنسا – يسيطر عليها يساريون متشدّدون – التصعيد في وجه الحكومة عبر الدعوة إلى إضراب وطني شامل اليوم، دعمته كتلة تحالف الأحزاب اليسارية «نوبس» الممثَّلة في البرلمان، وأيّدته لاحقاً ثلاث نقابات كبيرة أخرى، ومجموعات من الطلاب.

حجم الإضرابات واستمراريّتها ومدى تأثيرها على النشاط الاقتصادي، اتّخذ في فرنسا بُعداً آخر تماماً

وبفعل ضغوط الحكومة، حاولت «توتال إنرجيز» و«إكسون موبيل»، خلال الأسبوع الماضي، التوصّل إلى تسويات مع العمّال تُوقِف الإضرابات عبر التفاوض مع النقابات، ونجحت بالفعل مع بعض النقابات الصغرى، لكن ما وُضع على الطاولة بالنسبة إلى «الكونفدرالية العامة للشغل» كان أقلّ من المطالب المعلَنة، ما حدا بها إلى الانسحاب من المفاوضات تحت ضغط قواعدها التي صوّتت لمصلحة مواصلة الإضراب.

ويرى مراقبون أن تلك التحرّكات التي تشارك فيها فئات من الطبقة الوسطى الحضريّة، ليست مجرّد انعكاس لأزمة اجتماعية أخرى، كما سابقاتها في عهد ماكرون، بل قد تكون هذه المرّة فاتحة شتاء طويل من سخط ستتردّد أصداؤه في مختلف أرجاء البرّ الأوروبي، وقد يهدّد استقرار بعض الأنظمة الحاكمة في القارّة، ووحدة صفّ تحالف «أصدقاء أوكرانيا» الذي تديره الولايات المتحدة. ويبدو أن إضرابات عمّال معامل التكرير فتقت جروحاً لم تلتئم بعد منذ حراكات «السترات الصفر» قبل عدّة أعوام، والتي انتهت – لغياب القيادة الفاعلة – إلى التلاشي من دون تحقيق مكاسب تُذكر للفئات المهمّشة في المجتمع الفرنسي، بينما بقي الغضب متراكماً في الصدور.

وهناك كثير من عائلات الطبقة الوسطى التي تقيم في المدن الكبرى قد لا تُقلقها مباشرةً الفجوة المتزايدة في الدخول بين القلّة الغنية والأكثرية الفقيرة، لكنّها تشعر الآن بتوجّس شديد في شأن قدرتها على تغطية نفقاتها في الشتاء البارد المقبل. ومع ذلك، فإن المجتمع عموماً ما زال منقسماً حيال تأييد العمّال المضربين؛ ففيما يعرب البعض عن تضامنه وتفهّمه لمنطق الإضراب، فإن برجوازيين وبعض منسوبي الطبقة الوسطى يشتكون ممّا وصفوه باحتجاز مجموعة صغيرة البلد بأكمله رهينة.
ad

وبالنسبة إلى ماكرون الذي فقد في ولايته الثانية السيطرة على البرلمان، وأصبح بالمقاييس الفرنسية رئيساً ضعيفاً، فهو يبدو محدود الخيارات، أقلّه مقارنة بعامَي 2018 و2019 في مواجهته – عندئذ – مع ذوي «السترات الصفر». وكانت لافتة شكواه العلنية، الأسبوع الماضي، من اضطرار بلاده لشراء الغاز المسال من الولايات المتحدة بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تحصل عليه من روسيا، مشيراً إلى أن تلك ليست معاملة تليق بالأصدقاء. وتدعم باريس المجهود الحربي الأميركي ضدّ روسيا، إذ فرضت – مع الأوروبيين – ستّ حُزم عقوبات على موسكو تضمّنت برنامجاً زمنياً لوقف شراء النفط والغاز منها. لكن انعكاس تلك العقوبات على الداخل الأوروبي كان سلبيّاً للغاية، وأطلق ركوداً اقتصادياً، في وقت لم تكن فيه المجتمعات الأوروبية قد استعادت عافيتها بعدُ من مترتّبات جائحة «كوفيد-19».

ماكرون الذي كان وعد لدى انتخابه لفترة رئاسية ثانية بأن يتخلّى عن سُمعته كـ«نابليون صغير» يحكم بتسلّط، وأن يدير البلاد بصيغة أكثر تعاوناً، بدا إلى الآن صلفاً في وجه عمّال بلاده، إذ أَجبرت حكومته بالفعل بعض العمّال على العودة إلى مصفاة بالقرب من لوهافر ومستودع للمحروقات بالقرب من دنكيرك وفق أوامر قانونية قلّما استُعملت من قَبل، يمكن بموجبها للعمّال المضربين أن يعاقَبوا بالسجن والغرامات. وقد دفعت الخطوة النقابات إلى توسيع إضرابها ليشمل مصافي أخرى، كما توقّفت أعمال الصيانة في ثماني مفاعلات للطاقة النووية.

وواجه الرئيس الفرنسي أيضاً عاصفة في البرلمان، حيث طالب المشرّعون المعارضون من اليسار واليمين على السواء، بفرض ضرائب إضافية على شركات نفط عملاقة جنت مكاسب غير متوقّعة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما يُعدّ تحدّياً لنهجه النيوليبرالي وتموضعه كرئيس يمثّل مصلحة رأس المال ويقود أجندة تحرير الأسواق.

ومع هذا، اضطرّت الحكومة في النهاية إلى إدخال تعديل على مشروع قانون المالية تماشياً مع تعليمات جديدة للاتحاد الأوروبي تقتضي تطبيق ضريبة مؤقّتة على مُنتجي النفط والغاز والفحم الذين يحقّقون أرباحاً بنسبة 20% من عملياتهم التجارية داخل فرنسا، أكثر ممّا كانوا فعلوا خلال السنوات الأخيرة.

وتخشى النُخب النيوليبرالية الحاكمة في أوروبا الغربية من حدوث اختراق لمصلحة العمّال في فرنسا – ثاني أكبر اقتصاد أوروبي بعد ألمانيا – نتيجة موجة الإضرابات، وهو ما قد يثير شهيّة رفاقهم للتحرّك في دول أخرى. لكن عدم خضوع الحكومة الفرنسية للضغوط بشكل أو بآخر، قد يكون بوّابة لحركات تمرّد شعبيّة فوضويّة لا يَسهل التفاوض معها ولا يُعرف منتهاها. لهذا، تتابع عواصم كثيرة التطوّرات الفرنسية ويدها على قلبها من تصدّع «جدار مأرب» الأوروبي، الذي إن نُقِبَ فستكون الكارثة.

اقرأ ايضاً:قصة عميل إسرائيلي.. تجنّد في ساح العاج وتلقى مهامه في الأردن

 

شام تايمز
شام تايمز