الجمعة , مارس 29 2024
لغز تراجع اليابان.. كيف تحولت من أغنى دول العالم بدخل يقارب ضعف أمريكا لتصبح أقل من كوريا؟

لغز تراجع اليابان.. كيف تحولت من أغنى دول العالم بدخل يقارب ضعف أمريكا لتصبح أقل من كوريا؟

لغز تراجع اليابان.. كيف تحولت من أغنى دول العالم بدخل يقارب ضعف أمريكا لتصبح أقل من كوريا؟

شام تايمز

“المعجزة اليابانية الضائعة”، قصة محزنة تقف وراء تراجع اليابان من أغنى دول العالم بدخل يقارب ضعف دخل الفرد بأمريكا، لبلد مماثل في مستواه أو أقل من كوريا الجنوبية ودول أوروبية كبريطانيا وفرنسا، أو حتى دولة متوسطة مثل سلوفينيا في بعض النواحي.

شام تايمز

فرغم استمرار الولع باليابان في العالم ولاسيما في العالم العربي البعيد، المعتاد على النظر لليابان ككوكب مختلف عن بقية الأرض، إلا أن الواقع أن المعجزة الاقتصادية اليابانية توصف بالمعجزة الضائعة في ظل تراجع اليابان مقارنة ببعض جيرانها الآسيويين وكثير من الدول الغربية التي كانت أقل منها في المستوى.

اليابان من مستقبل العالم المنتظر لكابوسه المحتمل
نعم، مازالت اليابان صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وهي دولة مسالمة ومزدهرة، ولديها أطول متوسط ​​عمر متوقع في العالم، وأقل معدل جرائم قتل، وصراع سياسي ضئيل، وجواز سفر قوي، وأفضل شبكة سكة حديد عالية السرعة في العالم، إضافة لامتلاك شركاتها واحدة من أكبر الأصول الخارجية في العالم.

ولكن كل ذلك لا يخفي حقيقة تراجع اليابان، أو بمعنى أدق تراجع مكانتها مقارنة بمنافسيها الذين كانوا يتطلعون يوماً لها بانبهار، أما الآن، فينظرون لها بخليط من الاحترام والحيرة.

ففي تسعينيات القرن العشرين كانت اليابان هي مستقبل العالم، لكنها اليوم عالقة في الماضي، حسبما ورد في تقرير لمراسل موقع “BBC” البريطاني في طوكيو روبرت وينجفيلد هايز، الذي قال إنه بينما يستعد لمغادرة اليابان بعد 10 سنوات من قدومه، كان الوضع في البلاد لا يزال كما هو”.

كل ذلك في ظل قلق حقيقي بشأن الأزمة الديموغرافية التي تعاني منها البلاد، وتبدو بلا حل، وكأنها تقدم درساً للدول المتقدمة الأخرى لما يجب أن يتجنبوه، جراء تراجع المواليد بشكل يجعلها من أشد دول العالم تعرضاً لخطر الانكماش السكاني إن لم يكن الانقراض.

كانت أمريكا وأوروبا تخشيان ذات مرة الطاغية الاقتصادية اليابانية بنفس الطريقة التي تخشى بها القوة الاقتصادية المتنامية للصين اليوم. لكن اليابان التي توقعها العالم والتي كاد دخل الفرد فيها يعادل ضعف الدخل الأمريكي، لم تصل أبداً، حسب تعبيره.

تراجع اليابان يظهر من خلال مقارنتها بكوريا الجنوبية مستعمرتها السابقة
حتى سنوات خلت لم يكن يمكن مقارنة طوكيو بنظافتها ونظامها بأي مدينة آسيوية أخرى. كانت هونغ كونغ صاخبة، كريهة الرائحة، مدينة متطرفة، من القصور المبهرجة إلى المصانع “الشيطانية” المستغلة للعمالة السوداء، ولكن اليوم متوسط الدخل في هونغ كونغ وسنغافورة أعلى من اليابان.

في عام 2018، وقع حدث اقتصادي فارق، عندما تجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لكوريا الجنوبية (وفقاً للقيمة الشرائية للدولار في البلدين) مثيله في اليابان. وبحلول عام 2026، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تتقدم كوريا الجنوبية بنسبة 12% على اليابان، حسبما ورد في تقرير لموقع East Asia Forum.

المقياس المستخدم لحساب الناتج المحلي الإجمالي “الحقيقي” يسمى “تكافؤ القوة الشرائية”، والذي يزيل التشوهات التي تسببها فروق الأسعار المتغيرة والتقلبات في أسعار الصرف.

يعني هذا رغم أن متوسط نصيب الفرد الاسمي من الناتج المحلي والأجور في اليابان قد يكون مازال أعلى من كوريا الجنوبية، ولكن مع مراعاة أن الأسعار أعلى في اليابان سيكون نصيب الفرد في كوريا الجنوبية أعلى.

لفهم مغزى هذا الحدث، كانت كوريا الجنوبية مستعمرة يابانية تعرضت لمعاناة كبيرة من الاحتلال الياباني الذي بدأ منذ بداية القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

وحتى بعد انسحاب اليابانيين، وبدء ظهور المعجزة الكورية الجنوبية للعالم، ظل الكوريون يرون في اليابان مثلاً أعلى لبلادهم، ويعمدون لتقليدها، وتنسخ شركاتهم تصميمات وأساليب شركات اليابان، ويعتمدون أحياناً على استثماراتها.

المعجزة اليابانية كادت توصل البلاد لدخل فرد يعادل ضعف أمريكا
بعد الحرب العالمية الثانية، مرت اليابان بفترة نمو غير عادي، أطلق عليها اسم “المعجزة اليابانية”.

من عام 1955 إلى عام 1990، بلغ متوسط ​​النمو في اليابان 6.8٪ سنوياً، وتضاعف إجمالي الناتج المحلي ثماني مرات.

في عام 1979، توقع الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد الأمريكية عزرا فوغل أن اليابان ستتفوق على الولايات المتحدة باعتبارها الاقتصاد الأكبر في العالم، بينما حافظ آخرون على هذا التوقع حتى أواخر عام 1995، حسبما ورد في تقرير لمركز Carnegie الأمريكي.

وبالنظر إلى عدد سكان اليابان كان يماثل نحو نصف سكان أمريكا، يعني ذلك أن دخل الفرد في اليابان كاد يصل لضعف دخل الفرد بأمريكا، وأن الإنتاج الصناعي الياباني كان يضاهي أو يقارب الإنتاج الصناعي الأمريكي، في الحجم.

وكان لافتاً أن الغضب الأمريكي من اختلال ميزان التجارة بين البلدين يفوق الغضب الأمريكي الحالي من العجز التجاري مع الصين، رغم أن الأخيرة غريم أمريكا، بينما طوكيو حليف مخلص لها.

ولكن في نهاية عام 1990، انهار اقتصاد الفقاعة في اليابان، وتباطأ النمو الناتج إلى 0.8% في عام 1992 بعد أن عانت البلاد من أزمة مصرفية ومالية ضخمة بدأت في عام 1989، تلتها فترة طويلة من النمو البطيء والانكماش.

وبلغت الأزمة المالية أشد مراحلها في عام 1997 عندما تداخلت مع الأزمة المالية التي ضربت منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، حيث كان لابد من دمج البنوك الفاشلة.

من عام 1991 إلى عام 2002؛ نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط ​​0.8% سنوياً فقط.

والآن، نصيب الياباني من الناتج المحلي أقل من سلوفينيا والتشيك
الآن نصيب الفرد في اليابان من الناتج المحلي وفقاً للقيمة الاسمية عام 2022 بلغ نحو، 34,358 دولار، ليحتل المركز الثامن والعشرين عالمياً، متراجعاً بنحو 5 آلاف دولار عن عام 2020، ليصبح أقل من نصف نصيب الفرد من الناتج المحلي الأمريكي في عام 2022، البالغ، 75,180، وأقل من نصيب الفرد في فرنسا البالغ 42,330، وأقل من تايوان (35,513)، وقريباً من إيطاليا (33,740) وكوريا الجنوبية (33,592) وسلوفينيا (29,469) الدولة الأوروبية المتوسطة التي خرجت قبل ثلاثة عقود من كنف الشيوعية.

وعند استخدام قياس نصيب الفرد من الناتج المحلي وفقاً للقوة الشرائية للدولار، تتراجع مكانة اليابان للمرتبة السادسة والثلاثين، لأنها بلد باهظ في تكلفة المعيشة، حيث تتفوق عليها كل من كوريا الجنوبية وسلوفينيا والتشيك وقبرص، وتتقارب مع إسبانيا.

والأجور الحقيقية لم تنمُ منذ 30 عاماً، وقيمة الأجور الحقيقية في كوريا الجنوبية وتايوان تجاوزت اليابان.

على الرغم من أن وضع اليابان ليس كارثياً، فقد تم تفسير ما حدث على أنه “عقد ضائع” مقارنة بسنوات مجد اليابان. علاوة على ذلك، فإن التقدم بعد الانتعاش المستدام الذي بدأ بعد ذلك بكثير، في عام 2003، بدا بطيئاً أيضاً؛ حيث بلغ متوسط ​​النمو 2.1% “فقط” سنوياً (2% للفرد) من 2003 حتى 2007.

لفهم مقدار تراجع اليابان أو ركودها على الأقل، يقول مراسل “BBC” روبرت وينجفيلد هايز إن أحد أصدقائه كان يتفاوض مؤخراً لشراء عدة هكتارات من الغابات، أراد المالك 20 دولاراً للمتر المربع. قال المشتري المحتمل: “أخبرته أن أرض الغابات تساوي دولارين فقط للمتر المربع”. لكنه أصر على تقاضي 20 دولاراً للمتر، لأن هذا هو ما دفعه مقابل شراء الأرض في السبعينيات.

ما الذي كان مسؤولاً عن تراجع اليابان بهذا الشكل، إن لم يكن الأزمة المصرفية؟
نظراً لأن الأزمة المصرفية التي وقعت في أوائل التسعينيات، قد مر عليها عقود، كما أن كوريا الجنوبية خرجت من آثار الأزمة المالية الآسيوية التي تضررت منها أكثر من طوكيو، فإن تفسير تراجع اليابان لا يمكن إرجاعه للأزمة المصرفية المشار إليها.

يشير التحليل لنمو الناتج المحلي الإجمالي في اليابان إلى وجود ثلاثة عوامل فاعلة: انخفاض نمو القوى العاملة، وتراجع معدلات نمو الاستثمار وكذلك الإنتاجية إلى مستويات تتفق بشكل عام مع تلك الخاصة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى، وفقاً لما ورد في تقرير مركز Carnegie.

مقارنة بكوريا الجنوبية المشابهة في ثقافة العمل والمجتمع والتي بدأت نهضتها متأخرة عن اليابان، يطرح سؤال ملحّ: كيف تمكنت كوريا الجنوبية من الحفاظ على نمو عالٍ في حين أنها تشترك في الكثير من العيوب الاقتصادية لليابان؟

مثل اليابان، تعد كوريا الجنوبية “اقتصاداً مزدوجاً” يقوم على مزيج من قطاعات التصدير عالية الكفاءة، وقطاعات التصنيع والخدمات المحلية غير الفعالة بشكل مؤسف. فجوة الإنتاجية بين الشركات العملاقة في كوريا الجنوبية والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم (SMEs) هي ثالث أسوأ فجوة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (المنظمة التي تضم الدول المتقدمة).

على الرغم من هذه العيوب الهيكلية، تمكنت كوريا الجنوبية من تجنب مصير اليابان من خلال تصحيح المزيد من “الأساسيات”، دون هذه الإصلاحات.

الحفاظ على الجودة مقابل التضحية بالابتكار
إن اكتساب أحدث التقنيات له فوائد قليلة ما لم يكن لدى المديرين والعاملين المهارات اللازمة لاستخدامها بشكل خيالي. يقيس رأس المال البشري مقدار التعليم الذي يتلقاه كل شخص، وأيضاً مدى فعالية ذلك التعليم في المساهمة في النمو.

في عام 1960، كان رأس المال البشري في كوريا الجنوبية 70% فقط من نظرائهم اليابانيين. بحلول عام 2019، أصبح الوضع في صالح كوريا بنسبة 5%.

فأحد أبرز العوامل في تراجع اليابان هو انخفاض إنفاق الشركات اليابانية على التدريب خارج العمل، والذي انخفض بنسبة 40% منذ عام 1991.

يزدهر الابتكار فقط عندما يكون لدى الشركات الجديدة ذات الأفكار الجديدة فرص حقيقية لتحدي الشركات القائمة المسيطرة.

يتحدث السياسيون في كل من سيول وطوكيو عن تشجيع ريادة الأعمال، لكن كوريا الجنوبية تحول المزيد من كلامها إلى أفعال.

في اليابان، تذهب 12% فقط من المساعدات المالية الحكومية للبحث والتطوير إلى الشركات التي يقل عدد موظفيها عن 250 موظفاً، وهي النسبة الأقل بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في كوريا الجنوبية، يذهب نصف المساعدة المالية إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة.

سدنة النظام العواجيز
يمكن فهم أسباب ذلك لأن ما يسيطر على اقتصاد اليابان وسياساتها هي الشركات الكبرى التي يصل عمر بعضها لأكثر من 100 عام، والتي تقودها أو تتحالف معها النخبة اليابانية ذات الجذور الأرستقراطية العسكرية (الساموراي)، وهي النخبة التي حققت نهضة اليابان منذ عهد الإمبراطور ميغي بدءاً من ستينيات القرن التاسع عشر، التي قامت على مزيج من الحفاظ على العادات والتحديث التكنولوجي بالأساس.

هذه النخبة فاجأت العالم بكفاءتها، عندما كانت اليابان أول دولة آسيوية منذ قرون تهزم دولة أوروبية كبرى وهي روسيا في حرب عام 1905، ثم أسست واحدة من أسرع الإمبراطوريات في التاريخ التي وصلت لذروتها خلال الحرب العالمية الثانية، حيث سيطرت على معظم شرق آسيا بعد أن ضربت أمريكا في معركة بيرل هاربور الشهيرة عام 1941، ثم استأنفت هذه النخبة المعجزة اليابانية ولكن بالتركيز على الاقتصاد تحت المظلة الأمريكية، مع الحفاظ على معظم القيم اليابانية التقليدية باستثناء القيم الفجة في طابعها العسكري.

مازالت النخبة القديمة من كبار السن المنحدرة من سلالة مؤسسي نهضة اليابان هي المتحكمة في البلاد، حتى إن الحزب الليبرالي الحاكم، لا يوجد حزب منافس له، لدرجة أن اليابان توصف بأنها بلد ديمقراطي ذو حزب واحد، حيث يجدد شرعيته عبر استغلال التوجس الياباني من التغيير والرشاوي الانتخابية للمناطق الريفية التي يسكنها كبار السن.

أين سوني وتوشيبا؟ تراجع لافت لشركات التكنولوجيا اليابانية في ثورة الهواتف الذكية
يظهر تراجع اليابان واضحاً في المكانة الحالية لشركاتها في مجال التكنولوجيا.

منذ نهاية السبعينيات، كانت صناعة الأجهزة الكهربائية (التلفزيونات وأجهزة الراديو والساعات) مرتبطة باليابان، وشركاتها العملاقة مثل سوني وتوشيبا وشارب وهيتاشي وكاسيو وغيرها، رغم أن اليابانيين لم يخترعوا هذه التقنيات، ولكن طوروها وجعلوها اعتمادية رخيصة لتكون في متناول يد أغلب العالم.

وكانت هذه إضافة اليابان الحقيقية للحضارة الحديثة، صنع منتجات ذات كفاءة وقليلة الأعطال، ورخيصة، لتتحول لمنتجات شعبية في كل العالم.
ولكن مع ثورة أجهزة الكومبيوتر، والهواتف المحمولة، تراجعت مكانة اليابان، فخرجت شركة توشيبا وسوني من صناعة الحواسيب المحمولة، وتحولت سوني من واحدة من أوائل وأكبر منتجي الهواتف المحمولة مع ظهور الهاتف الذكي لمجرد أشهر مورد للكاميرات، بينما اكتسحت أبل الأمريكية وسامسونغ الكورية والشركات الصينية سوق الهواتف الذكية بأرباحها الطائلة، ولم يبق لسوني سوى “البلاي ستيشن” بعد أن انتهت ثورة الكاميرات الرقمية التي تفوقها فيها سوني مع منافساتها اليابانيات الأخرى مثل فوجي وكانون.

وقبل سنوات باعت شركات توشيبا الشهيرة، كيانها المتخصص في الأجهزة الكهربائية لشركة صينية، بينما تكافح شركة شارب عبر أجهزة كهربائية ذات جودة عالية وتصميمات قديمة نسبياً، الشركات الكورية بتصميماتها وتقنيتها المبهرة، والصينية بأسعارها التنافسية المقرونة بالتصميمات الجريئة، وحتى شركات الأجهزة الكهربائية التركية بمعادلة ناجحة للجودة والأسعار.

شركات اليابان تتحول لمقاول من الباطن
ولكن ظلت اليابان منتجاً مهماً لبعض مكونات التكنولوجيا المتقدمة مثل الكاميرات والكيماويات التي تدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية، وهي الصناعة التي تحتكرها تايوان وكوريا الجنوبية، فيما يتسيد الأمريكيون عالم “السوفت وير”، ويقود الصينيون تجميع الهواتف المحمولة ويتقدمون في مجال شبكات المحمول.

أي أصبحت اليابان مجرد مصنع ومقاول من الباطن لا غنى عنه في صناعة الهواتف الذكية التي جلبت ثروات طائلة لكوريا وأمريكا والصين.

تويوتا ترفع شعار لا مزيد من السيارات المملة، ولكن أين ميتسوبيشي؟
وفي صناعة السيارات، كادت الشركات اليابانية تدمر الشركات الأمريكية المنافسة في الثمانينيات والتسعينيات، وتلحق أذى كبيراً بالشركات الأوروبية بما فيها الألمانية العريقة، حتى إن الأمريكيين والأوروبيين كانوا يغلقون أسواقهم أحياناً أمام السيارات اليابانية.

ويضطرون أحياناً أخرى للتعاون مع شركات يابانية لتطوير سياراتهم الخاصة، ولكن يظل الزبائن الأوروبيون والأمريكيون يفضلون الماركات اليابانية بسبب سمعتها على سيارات أوروبية وأمريكية كانت مجرد نسخ من أصولها اليابانية.

مازالت اليابان ثالث أكبر مصنع للسيارات في العالم بعد الصين (الأول) وأمريكا، وأكبر دولة مصدرة للسيارات في العالم، كما مازالت شركة تويوتا أكبر منتج للسيارات في العالم، ولكن دون المجد السابق.

كانت اليابان حتى التسعينيات وأوائل القرن العشرين رائدة بلا منازع لتكنولوجيا السيارات، عبر محركات عالية الكفاءة قليلة الاستهلاك، واعتمادية غير مسبوقة وتصميمات ذكية توفر أغلب المميزات بسعر تنافسي ونعومة لا تضاهى، وقوة محركات تحرج الأوروبيين والأمريكيين.

ولكن اليوم فولكس فاغن الألمانية تكاد تساوي تويوتا في حجم الإنتاج، مع تميز في الشكل والقدرات وتقاربها في الاعتمادية وقلة الأعطال (وإن كانت لم تصل إليها).

أما مجموعة “هيونداي – كيا” الكورية الجنوبية التي كانت تقلد السيارات اليابانية، فباتت منافساً لتويوتا في معادلة التوازن بين الاعتمادية والكفاءة، مع تصميمات أكثر شغفاً وجرأة، وتتفوق عليها في قوة المحركات، وتماثلها في قلة أعطالها، والتي كانت ميزة السيارات اليابانية الأساسية.

بل إن شركة يابانية أخرى عملاقة مثل نيسان، أصبحت أقل في التصميمات والاعتمادية والقدرات من السيارات الكورية.

أما ميتشوبيشي التي كانت رائدة في المحركات لدرجة أنها كانت تقرض تصميماتها للسيارات الأوروبية والأمريكية، ومحركاتها كانت الأساس في صعود صناعة السيارات الصينية، أصبحت تعاني من نقص المهندسين والتصميمات لدرجة أنها تلجأ لشركة رينو الفرنسية لإنتاج سياراتها التي أصبحت عتيقة التكنولوجيا والتصميم، وتحتل مرتبات دنيا في السوق مستندة لسمعتها القديمة.

بينما شركة مثل هوندا ذات النكهة الرياضية السابقة والتي كانت بمثابة “بي إم دبليو” اليابان بسيارتها المعبأة بالتكنولوجيا والتصميمات الثورية ومحركاتها الأسطورية، تحولت إلى شركة محافظة مثل تويوتا تراهن على الاعتمادية وقلة الأعطال أكثر من الشغف وقوة الأداء عبر تصميمات رتيبة، لدرجة أنها خرجت من السوق الأوروبية.

بل إن شركة فرنسية مثل بيجو كان يتوقع أن تبتلعها تويوتا يوماً بسبب عثراتها التقنية ومشكلات المحركات والتصميمات الغريبة، باتت اليوم تنتج سيارات ساخنة، سرقت مكانة هوندا في الأسواق الأوروبية.

وتكاد تكون مازدا هي الشركة اليابانية الوحيدة التي حققت قفزة للأمام بتحولها لسيارة شبه فاخرة، وعالية الثبات لتصبح بمثابة نسخة يابانية مقاربة للسيارات الألمانية، مع الحفاظ على أسعار واعتمادية اليابان التنافسية.

وبالطبع الأسوأ من كل ذلك مقارنة الشركات اليابانية بتيسلا الأمريكية الرائدة في السيارات الكهربائية (التي تعادل قيمتها السوقية تويوتا عدة مرات)، بل وحتى مقارنتها مع السيارات الصينية الكهربائية.

مرة ثانية كان افتقاد الجرأة والتركيز على الأمان، من خلال الحفاظ على أساليب الإنتاج القديمة المضمونة وليس الابتكار الجريء، مشكلة صناعة السيارات اليابانية، حتى إن رئيس شركة تويوتا اعترف قبل سنوات، بأن تصميمات شركته مملة، واضطر لرفع شعار “لا مزيد من السيارات المملة”، في وقت أصبحت الأذواق تتسم بالشغف والرغبة في التجديد والتصميمات المعبأة بتكنولوجيا المعلومات عبر الشاشات البراقة، التي تقدمها الصين وألمانيا وأمريكا في سياراتها، بينما تتأخر اليابان في هذا المضمار الذي كانت زعيمته.

وعلى غرار صناعة الهواتف الذكية، تحولت صناعة السيارات اليابانية إلى حد كبير، لمقاول ومصنع من الباطل يزود الشركات الأوروبية بصناديق تروس “إيسين” الشهيرة القليلة الابتكار ولكن عالية الاعتمادية، وكذلك أجهزة التكييف المشهورة بكفاءتها في الأجواء الحارة، تاركة للصينيين والأوروبيين والأمريكيين معظم الأرباح في صناعة السيارات.

أسباب جمود اليابان هي ذاتها كانت عوامل نهضتها
أزمة اليابان نابعة من التحفظ والحفاظ على القيم التي هي كانت سبب نهضتها الأولى والثانية.

فإذا كانت نهضة اليابان، قد تحققت بالأساس من المقدار الفريد من الإخلاص والطاعة والانضباط والتفاني في العمل، الذي يميز الفرد الياباني شديد الانتماء لبلده ومجتمعه الذي ينفر من الأجنبي؛ فإن هذه القيم صالحة لمرحلة التقليد والتطوير وأساليب الإنتاج المنضبطة التي أدت للاعتمادية الأسطورية لمنتجاتها.

ولكن الاستمرار في الانطلاق بما يتطلبه من ابتكار، يحتاج إلى جرأة وتمرد أحياناً، يصاحبه انفتاح على العالم والسماح باستيعاب الكفاءات البشرية الأجنبية حتى لو اخترقت المجتمع المتجانس الذي يتفاخر به اليابانيون، (اشتكى رجل صناعة السيارات الشهير ذو الأصول اللبنانية كارلوس غصن المدير التنفيذي السابق لنيسان، الذي هرب من محاكمته في اليابان، من أن المسؤولين بنيسان، حاربوه بسبب أنه غير ياباني، رغم أنه أنقذ الشركة من الإفلاس في التسعينيات).

ضرورة دمج الكفاءات المهاجرة، اكتشفه الألمان المشابهون في انغلاقهم وتوجسهم من الأجنبي مثل اليابانيين، حيث تبين لهم أنه لا نمو ولا رخاء دون تقبل الهجرة.

ولذا يواصل الألمان، بعد استيعابهم لموجة اللجوء السوري الكبيرة بين عامي 2014 و2017، الاستعداد لمزيد من الهجرة لتوفير الوقود البشري اللازم للنمو الاقتصادي الكبير لبلادهم، متقبلين الثمن البسيط وهو أن يصبحوا مجتمعاً متعدد الثقافات، فأصبحت بلادهم ملاذاً للمهاجرين العرب والأتراك ومن أوروبا الشرقية الفقيرة والجنوبية المأزومة، وحتى فرنسا المجاورة.

اليابانيون يقاومون التغيير ولكن يراهنون على الروبوتات، فهل ينجحون؟
ورغم كفاح اليابان على مدار العقود الماضية مع اقتصاد راكد، والآن مع سكان يشيخون ويتقلصون، فإنه مازالت هناك مقاومة عميقة للتغيير والتعلق العنيد بالماضي.

يبلغ عمر ثلث اليابانيين أكثر من 60 عاماً، ما يجعل اليابان موطناً لأكبر نسبة من كبار السن في العالم، بعد إمارة موناكو الصغيرة. فالبلاد تسجل ولادات أقل من أي وقت مضى، وبحلول عام 2050، قد تفقد خمس سكانها الحاليين.

ومع ذلك، فإن عداءها للهجرة لم يتراجع، فحوالي 3٪ فقط من سكان اليابان مولودون في الخارج، مقارنة بـ15٪ في المملكة المتحدة، ونسب أعلى في أمريكا.

لكن اليابان ليست نقية عرقياً كما قد يعتقد اليمين الغربي المتطرف المعجب بالعداء الياباني للهجرة، فهناك نصف مليون كوري، وما يقرب من مليون صيني. ثم هناك طفل ياباني واحد من والدين أحدهما أجنبي على الأقل، من بين كل ثلاثة أطفال يابانيين.

ويُعرف هؤلاء الأطفال ثنائيو الثقافة باسم “الهافو” أو النصف، وهو مصطلح ازدرائي شائع.

تراهن اليابان على الذكاء الاصطناعي لمعالجة نقص العمال، وأن يتم استبدال المزارعين المسنين بالروبوتات الذكية، ولكن هل يمكن للروبوتات أن تحل محل البشر حقاً؟

اقرأ ايضاً:بتهمة إثارة النعرات الطائفية..الحكم بسجن الإعلامي شادي حلوة

 

شام تايمز
شام تايمز