الجمعة , مارس 29 2024

نارام سرجون , روسيا العظمى تتمطى, وأميريكا في الفخ ,من بطرس الأكبر الى بوتين الأكبر

نارام سرجون , روسيا العظمى تتمطى, وأميريكا في الفخ ,من بطرس الأكبر الى بوتين الأكبر
نارام سرجون
استغرب الكثيرون كيف خرج الرئيس الروسي عن المألوف في خطابه الأخير .. فقد كان الخطاب في منتهى الجرأة والتحدي للغرب .. بل ان أي خطاب لروسيا الشيوعية لم يصل الى هذا الحد من الاستعراض للقوة لأنه كان يعتمد على التكتم والسرية .. وخطاب اليوم يعكس بلا شك ثقة كبيرة بالنفس واعلانا صريحا عن خروج روسيا من آخر مرحلة من مراحل ربيع البريسترويكا المشؤوم الذي قاده حالم ساذج اسمه ميخائيل غورباتشوف صدق أن الديمقراطية الغربية هي النموذج الأخلاقي المثالي رغم حكم الاعلام وديكتاتورية الاملاء على الجمهور .. ويمكننا بكل راحة أن نقول أن خطاب روسيا اليوم هو أقوى خطاب يتحدى أميريكا ..
وبالطبع فان الشيء المثير للفضول دوما هو لماذا هذا اللجوء الى استعراض القوة وماهي الحاجة اليه؟؟ ربما كان اقتراب الانتخابات الرئاسية الروسية سيجعله خطابا انتخابيا بامتياز .. وربما يفسره البعض بأنه غضب روسي خرج عن السيطرة بسبب الاستفزاز الاميريكي عبر تحرشات بمصالح روسيا في محيطها المباشر .. ويراه البعض أنه أول سقوط لروسيا في فخ سباق التسلح الأميريكي الذي تم نصبه من جديد وهو ذات الفخ الذي سقط فيه الاتحاد السوفييتي “الراحل” .. وربما سيقال الكثير عن هذا الخطاب وأسبابه .. وستتبارى مراكز الابحاث في التبرع بتقديم استشارتها وقراءتها ونصائحها ..
وهنا لاأستطيع الزعم أنني سأقدم تحليلا لما أقدم عليه الروس من خطوة غير متوقعة .. ولن أدخل في هذا السباق لأنني لست خبيرا في شؤون روسيا ولأنه من المبكر جدا أن يتنطح أحد بمعلومات محدودة لذلك قبل الاطلاع الكامل على حيثيات كثيرة بين الغرب وروسيا الطموحة وامكانات كل منهما .. ولكنني أستطيع أن أعود بذاكرتي الى جلسة مع أحد المطلعين الروس الذي كان يقول بأن على قيادة روسيا أن تطعن أميريكا بنفس السلاح الذي طعن فيه الاتحاد السوفييتي .. وكنت أظن أنه يعني (الطعنة الافغانية) .. ولكن صديقي الروسي صحح لي بأن السوفييت طعنوا ليس في أفغانستان بل طعنوا بفكرة سباق التسلح وحرب النجوم الذي خرجوا لمسابقته بمصادرهم ومواردهم المالية المحدودة .. فوقعوا في الافلاس والأزمات الاقتصادية فلما بدؤوا في مغامرة افغانستان كانت تلك المغامرة بمثابة طلقة الرحمة على جسد منهك مريض أساسا .. سيموت ان عاجلا أو آجلا بدليل أن الكثيرين تنبؤوا بموت الاتحاد السوفييتي في مقالات نشرت في أواخر الستينات مستندين على قوانين الاقتصاد التي كانت تقول بأن النموذج الشيوعي يعاني من عيب اقتصادي لأنه انزاح عن سياقات الطبيعة علاوة على أن النسخة اللينينية انزاحت حتى عن السياقات الأولى للماركسية واختارت طريقا صعبة غير مثمرة اقتصاديا ستنتهي بذبول ها النموذج .. ومافعلته حرب أفغانستان هي أنها أفلسته أكثر .. وكسرت هيبته .. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير المكسور ..
وقد حاول بوتين الانصراف الى بناء روسيا ولكنه تيقن أن الاميريكيين يريدون رأس روسيا بعد راس الاتحاد السوفييتي .. وكان الطريق الى ذلك عبر الاستيلاء على ممر أوراسيا الى البحر الدافئ المتوسط .. ولابد بعد استيعاب الهجوم في سورية من اطلاق الهجوم المعاكس .. الروس كانوا ينتظرون أن ينصبوا فخا للأمريكان ولكنهم كانوا بانتظار اللحظة المناسبة .. واليوم هاهم أمام فرصة لاتفوت لاستدراج الامريكان الى نفس الفخ لأنه التوقيت المناسب جدا .. فالأميريكيون بالكاد خرجوا من أعمق أزمة اقتصادية اثر حماقة غزو العرق التي تسببت في انهاك الميزانية التي أنفقت تريليونات الدولارات على حرب خرجت منها مثخنة الجراح لتجد ان الصينيين وشركاءهم ربما صاروا يقودون العالم تجاريا .. ووجدوا أن اقتصادهم تراجع لصالح صناعة السلاح التي امتصت كل النشاط الاقتصادي والصناعي .. فصناعة السلاح الهجومي لاتنتج اقتصادا بل تحميه ..
الاعلان الروسي عن اطلاق مجموعات من منظومات أسلحة ردعية متفوقة قد يستجيب لجميع فرضيات التفسير ولكن لايمكن التغاضي عن فكرة أنه دعوة حارة للأميريكان للدخول في منافسة عسكرية .. واستدراجهم مرغمين الى العودة الى سباق تسلح سيجذب الاميريكيين بسرعة لأنهم واثقون أنهم الأثرى وأنهم الأقدر على الانفاق .. ومن ثم سيكثفون جهودهم في هذا السباق لتضطر روسيا بدورها للانفاق الذي سيقودها الى افلاس آخر وانهيار أخير ..
والأميريكيون يعرفون جيدا ان الحركة الروسية قد تكون فخا ولكن لاخيار لهم الا السير نحو الفخ بأرجلهم بعد كلام بوتين الصريح .. الفخ لن يمكن تجنبه على الاطلاق بسبب أن من يحكم أميريكا هو المجمع الصناعي العسكري الذي يملي على الرؤساء مايراه والا تعرضوا اما للاغتيال الجسدي (كندي) أو الاغتيال السياسي (نيكسون) أو التجميد (كلينتون) .. المجمع الصناعي الذي تشرف عليه شركات السلاح كان يمتص أموال الخزانة الاميريكية في أكبر حصة في الميزانية بذريعة التسلح لمواجهة الترسانة السوفييتية الرهيبة .. وكان الأميريكيون يتحدثون عن عملية تسلح لاتتوقف يقوم بها العالم الشيوعي لاجتياح العالم الحر وقهره عسكريا .. ونشأت عندها نظرية “كابوس الخوف” التي كانت تحكم الشعوب الغربية من شبح العدو الشيوعي الذي ينتظر لحظة ضعف تنتاب الغرب للانقضاض على الحضارة الغربية والتهامها ..
وهذا المجمع الذي واجهه ترامب ومجموعته الاقتصادية وقرر ان تنزاح كتلة الانفاق الى الاقتصاد الاميريكي الآخر الذي سيواجه الصين وروسيا اقتصاديا وتجاريا باطلاق العنان للصناعة الاميركية لاجتياح العالم بعد أن تآكلت لصالح صناعة السلاح وتجارة الحروب والنفط .. وسيجد ترامب ومجموعته أنفسهم أنهم أمام ضغط المجمع الصناعي العسكري واستجابة لتحدي بوتين مضطرون للابتعاد عن فكرة احياء الاقتصاد الاميريكي واحياء الصناعات المختلفة اللاعسكرية الذي يريد أن يستعد لمرحلة مابعد عصر الدولار اثر نهوض الصين والبريكس والعملات المنافسة .. علاوة على أن أقطاب هذا المجمع سيجدون بسبب جشعهم ورغبتهم في الاستحواذ على أكبر حصة من الخزينة الاميريكية لن يترددوا في استخدام خطب بوتين لارغام الاقتصاد الاميريكي على الاستجابة للتحدي وسيعيدون خطاب سباق التسلح الذي كان يحكم اميريكا في فترة العصر السوفييتي ..وهذا سيعيد الاقتصاد الاميريكي الى عصر الانفاق الهستيري على التسلح وتحول كتلة النقد نحو مصانع السلاح وليس الى مواجهة المشروع الروسي لاقامة الاقتصاد الاوراسي الكبير والتكامل مع البريكس ومحاصرة الدولار لانهاء عصر هيمنة الاقتصاد الاميريكي على العالم .. ليصبح الدولار نوويا ولكنه دون عمق انتاجي ..
الروس يدركون أهمية الخطوة التي أقدموا عليها وقد حسبوها بشكل دقيق .. فالسلاح الذي اعلنوا عنه هو سلاح رادع .. والسلاح الرادع قليل الكلفة لأن غايته هي الردع والعقاب وليس الهجوم ويعني ان قوة أميريكا الهجومية صارت كرتونية مالم تكن ساحقة التفوق .. ولانشاء قوة هجوم ساحقة فان هذا يستدعي انشاء صناعة سلاح هائلة الامكانات والاموال في ظرف اقتصادي فائق الحساسية للغرب هذه الأيام .. فماذا ينفع اميريكا ان كان لديها سلاح غير قادر على اخافة روسيا التي صممت ترسانة دفاعية تجعل من كل السلاح الاميريكي الهجومي خردة لاقيمة لها؟؟ .. تماما كما وضع الكورنيت الرخيص نهاية لعصر الدبابات الاسرائيلية الباهظة الكلفة .. ووضعت أجيال اس 300-400 – 500 نهاية لعصر التفوق الجوي الأميركي حتى اشعار آخر ..
لاخيار أمام الاميريكيين حتى وان وضعوا في حسبانهم انه فخ روسي لاستدراجهم لاستنزاف اقتصادهم النازف منذ حرب العراق .. لأن من يعش في الغرب يعلم أن العقل الغربي لايحب اطلاقا أن يعيش في الشك .. فالسؤال الذي سيطرحه اي استراتيجي غربي يحذر من الوقوع في الفخ ولن يمكن لأحد أن تكون له الشجاعة المطلقة للاجابة القاطعة عليه بالنفي هو: وماذا لو لم يكن فخا وكان حقيقة؟؟ كيف سنواجه أنفسنا عندما يكون كل شيء لتدارك الخطأ قد فاته الزمن؟ ان مجرد ان يكون احتمال الحقيقة في التحدي الروسي هو 1% فانه كاف لكي يكون العقل الغربي أسير هاجس الاستيقاظ على كابوس تفوق الروس عسكريا وتحول قوى التهديد الاميريكية والسلاح الغربي الاستراتيجي الى كرتون ..
ومايلفت النظر في خطاب بوتين هو ليس فقط يعلن أنه يتسلح علنا بل انه يتوعد بالرد على من يتطاول على حلفائه .. وهو بذلك يدعم عملية الاستدراج الكامل عندما يبني حلفا دون أن يحدده عمدا .. فهاجس العدو الشيوعي المحاط بسوار من الحلفاء يتجدد .. وزاد بوتين من عيار الرعب القديم بقوله أنه يتمنى أن يوقف لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي .. ولن يحار الغرب كثيرا في تحديد ملامح حلفاء روسيا الجدد .. لأن مجرد وجود السلاح الروسي الأحدث في سورية ووضع ايران تحت المظلة الروسية فان ذلك يشير الى نوعية حلفاء بوتين الجدد .. فبوتين يقاتل في سورية بسلاحه الأحدث والذي ارسل فيه سوخوي 57 الأسطورة الجوية .. وكتفه يصطدم بالكتف الأميريكي في سورية دون أن يبالي في اعلان عن تحالف لالبس فيه مع الجيش السوري .. حلفاء بوتين الجدد هؤلاء من ايران الى بوابة فاطمة مرورا بالعراق وسورية قد يراهم الغرب من أعتى الأعداء على الاطلاق .. وهم أخطر بكثير من جميع حلفاء روسيا في حلف وارسو الراحل الذي كان حلفا بالاكراه وليس يالايديولوجية وثمرة اجبارية للحرب العالمية الثانية مما جعله تحالفا للتناقضات والتنافرات القومية والعرقية والايديولوجية .. أما حلفاء اليوم المقاومون فانهم حلفاء بالرغبة والاندفاع والحماس وحلفاء الوجع ذاته وحلفاء الثأر من أميريكا ذاته .. وهذه كلها لم تكن متاحة في حلف وارسو .. واذا تثبت هذا الحلف فان الجميع سيقاتل وفق قاعدة الكل للواحد والواحد للكل ..
ونحن نعلم ان الغرب كان يريد اسقاط بوتين في سورية عبر تحويل سورية الى مستنقع دموي للجيش الروسي لتأليب الرأي العام الروسي على بوتين وكان الغرب ينتظر كل خبر عن ضحية روسية لتحويلها فورا للاستثمار في الداخل الروسي .. فاذا ببوتين يتحول الى بطل في روسيا والعالم .. ويتحول الى حامل للحلم الروسي ولحلم كل من يكره عدوانية الغرب ..
لاشك أن هذا الرجل – فلاديمير بوتين – ليس رجلا عاديا .. ولاشك أنه أصعب لغز يواجه الغرب .. وأذكى مما تخيله الغرب .. وهو الرجل الداهية الذي يجب أن يخشاه هذا الغرب ..
منذ بطرس الأكبر كانت روسيا على موعد مع بطرس آخر أكبر .. وانتظرت حتى وصل .. انه بوتين الأكبر .. اسم لن ينساه العالم ..

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز

اترك تعليقاً