بعد خلوها من الإرهاب… حرستا تتحضر للخروج من تحت الركام
في عمر الحكمة لكن ذلك لم يمنع محمود اللبان أن يعيش لحظة تأثر شديدة ترك فيها العنان لجماح عاطفة جارفة وقد رأى خلاص مدينته حرستا شمال شرق دمشق تدخل في ظل جناح الجيش العربي السوري وعادت مؤسسات الدولة إلى جنبات أحيائها التي تشكل وثيقة للتاريخ عن حجم الاعتداءات التي طالتها بعد أن استباحتها ما تسمى (حركة أحرار الشام) الإرهابية لسنوات ماضية مارس المسلحون على أهلها كل أشكال الإرهاب من التهجير والتجويع وإخفاء الأدوية وتجنيد أبنائها وإن كان ذلك لم يفقد (الحرستانيين) كما يقولون أملهم بأنهم عائدون إلى حضن الوطن كطفل يلوذ بصدر أمه.
بزيه التقليدي وبصوت مخنوق وعينين اغرورقتا بدموع زادته هيبة يقسم اللبان متحدثاً من حي السبيل في حرستا “والله بكيت” عندما رأيت رجال الجيش وسيارات محملة بالمواد الغذائية كتب عليها “سورية” تدخل حرستا.. “وبجمل متقطعة يكمل” من زمان محرومين .. أحلى فرحة .. تحملنا الكثير من أجل مدينتنا”.
اللبان الموظف السابق بالشركة الخماسية بقي مع 11 ولداً وابنة و43 حفيداً في حرستا فقد منهم ابنة وحفيدة استشهدتا جراء الهجمات المتكررة للإرهابيين وسيطرتهم على معظم أحياء المدينة قبل استعادتها من قبل الجيش ويظهر تفاؤلاً بمستقبل مدينته رغم ما لحق بها من خراب وأضرار بالممتلكات العامة والخاصة “انشاء الله إذا صار معاونة بترجع تتعمر من جديد”.
وكمن ينتظر أحبة بعد غياب استقبلنا ماهر البيروتي في أحد شوارع حرستا محاطاً بأطفاله الخمسة “الحمد الله يالي شفناكن عنا.. كتير انبسطنا وارتحنا” البيروتي الذي كان أحد الخياطين المعروفين في حارته يؤكد “كنا ناطرين الفرج من الجيش حتى نخلص من المسلحين” ملقياً نظرة خاطفة على أطفاله وقد ارتفعت حدة صوته “منعوا عنا الأدوية والمستودعات مليانة” متسائلاً “يقولون دولة إسلامية ومخبيين عن أطفالنا الدواء.. هم دولة إرهابية”.
في شارع مجاور حيث سيطر الهدوء على المدينة جلس ياسر خباز أمام منزله مع طفلاته الثلاث يقول إن الإرهابيين احتجزوه وأسرته بعد أن اضطروا لترك منزلهم في حي برزة بدمشق قبل سنة.
خباز الذي كان يعمل حجاراً وبات اليوم ينتظر المساعدات الغذائية يقول “كنا على أبواب إنجاز مصالحة محلية وتحييد حرستا عن العمل العسكري لكن المسلحين نقضوا الهدنة وعرضونا للموت مع أطفالنا”.
طارق نجيب شاب معوق يجلس على كرسيه أمام بناء سكني يضم عائلته وأقارب له تحدث وابتسامة الفرج تعلو وجهه يقول “عشنا أيام صعبة ..نقضي أغلب الوقت في القبو واليوم الله فرجها علينا وانتهى الكابوس”.
أما عبد الكريم من حي كرم الطلعة معماري وفلاح فيصف ما عاشه مع والدته المريضة خلال تواجد الإرهابيين بالمأساة وبنظرة تقطر منها المودة يردف قائلاً “كلنا أحباب .. ما في تفرقة بينا بعد الآن”.
ثلاثة صبية بعمر ورود آذار بثياب قديمة وأياد وشعر متسخ أخفت للنظرة الأولى نضارة الطفولة جلسوا أمام باب حديدي ضاع لون طلائه على قطع اسمنتية تساقطت مبعثرة من جدار منزل مجاور بلال القففي 12 عاماً توقف عن الذهاب إلى المدرسة منذ الصف الرابع لكنه يدرك أن التعليم أفضل من العطلة الطويلة “من زمان مارحت على المدرسة.. يلي بيعرف يقرأ أفضل” ثم يتذكر أمراً “كنا نخاف يقتلونا يمرقوا بالسيارات ومعهم سلاح” شقيقه خالد القففي 15 سنة ترك المدرسة منذ خمس سنوات” كل وقتنا بالقبو .. إنشا الله يفتحولنا المدارس” وماذا يريد أن يصبح في المستقبل يقول “طيان” أصحح له “طيار” يهز براسه وقد ازهرت ضحكة بريئة بعينيه الخضراوتين الناعستين الجميلتين.
ومن شق في الباب الحديدي خلف ظهور الاطفال كانت عينان تعبة وأنامل كف رقيقة تدعونا للدخول بالحاح شديد كانه نداء استغاثة وبعد فتح الباب بشكل موارب وقفنا بين شهقات امرأة شابة هرمة انهاكاً وتعباً وألماً بردائها الطويل وبانفعال شديد تقطعه شهقات من البكاء الموجع قالت “الأولاد أمام الباب أولادي مات زوجي اول الاحداث وبنتي” تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تعود للبكاء وتضيف “فرحنا.. خلصنا.. تحملنا” ثم ترمي براسها على كتفي متمسكة بي وتقول “الله لا يسامحهن جوعونا كل الأكل والمواد يلي تبعتوها ألنا يخبوها.. يركضونا خلف السيارة من أجل صحن رز .. حلفت يمين لما تجو لعنا أحكي كل شي” تلتفت بعد أن تماسكت قليلاً إلى عيون أطفالها الملتصقة بشقوق الباب تنظر إلينا بذهول “أبوهن قبل ما يموت وصاني ديري بالك عليهن لازم يدرسوا”.
تتابع الأم لولو دغيم أم خالد بعد أن خف بكاؤها “بصراحة خوفونا منكن ..ثم تلهج بالدعاء “الله يخليلنا الرئيس ويحييه ويرفع رأسه .. قلبي محروق والحق ظهر”.
عندما استردت أم خالد طمأنينتها بعد التأكيد لها أن حرستا أصبحت آمنة والحياة الطبيعية عائدة والحكومة ستدخل كل ما يحتاجه الأهالي وأطفالها سيذهبون إلى المدرسة لم تعترض على الوقوف أمام الكاميرا بالنقاب وأخذ صورة إلى جانب أطفالها.
على رأس الشارع وقف أبو أحمد طاقية 65 سنة إلى جانب عدد من الرجال وما أن القينا السلام يبادر بالكلام” الحمد الله خلصنا من العصابات الإرهابية” ويعلو صوته المبحوح ليصل حد الصراخ يقول أبو أحمد راعي غنم “الوطن غالي .. حرستا بلدنا وبلد أهلنا وجدودنا .. أكلنا التراب والشعير كنا ضدهم بس مو طالع بيدنا شي بيدبحونا”.
ويضيف أبو أحمد الذي يعيش في حرستا مع أسرته صبيان وثلاث بنات وحفيد قادم خلال أيام” كان لدينا قطيع من الغنم والآن لم نعد نملك شيئاً فقدناه على القليل من الطعام بأعلى الأسعار كيلو الرز بـ17 ألف ليرة وربطة الخبز بـ3000 ليرة وكان عنا بيت وراح”.
نسوة بخطى متعثرة يجتزن شارعاً اختفى رصيفه ومعالم قميصه الإسفلتي بما تكدس عليه من ركام تأخذهن المفاجأة بوجودنا وبين الدمعة والابتسامة يتدفق فيض حديث عما تسبب به الإرهابيون من ظلم ومعاناة وقعت على الأهالي دون رحمة .. يواصلن سيرهن بثقة حيث توقفت سيارات محملة بالمواد الغذائية لاستلام حصصهن.
بعد خلوها من الإرهاب بإخراج المسلحين وعائلاتهم الرافضين للمصالحة إلى إدلب إثر عملية عسكرية للجيش أرغمت المسلحين على الاستسلام تتحضر حرستا للنهوض بأهلها من تحت الركام راسمة صورة أخرى من الصمود تضيفه إلى مدن سورية في ملحمة إرادة الحياة وصناعة التاريخ المشرف.
المصدر: سانا – شهيدي عجيب