الثلاثاء , نوفمبر 26 2024

هل أخطأت الحكومة أم أصابت في تشجيع صناعة السيارات ؟؟

هل أخطأت الحكومة أم أصابت في تشجيع صناعة السيارات ؟؟
يبدو أن الحكومة السورية تتجه نحو تشجيع عمليات التجميع في صناعة السيارات، بما يحقق نوعاً من القيمة المضافة في هذه الصناعة، إذ صدر المرسوم رقم 114 لعام 2018 الذي أخضع مستوردات مكونات السيارات للشركات المرخصة لصناعة السيارات -التي تعمل وفقاً لنظام الصالات الثلاث- لرسم جمركي مقداره 5 بالمئة، مقابل 30 بالمئة على مكونات السيارات والمستوردة من الصناعي المرخص للصالة الواحدة، بينما أخضع السيارات الكاملة المستوردة لرسم جمركي بنسبة 40 بالمئة.
ووفقا للتقرير الاقتصادي الذي نشره ” مركز دمشق للأبحاث مداد” يوم أمس بعنوان ” تمكين التجارة الرأسية في سورية: تجربة تجميع السيارات نموذجاً”
حيث أوضح وزير الماليّة في تصريحاتٍ صحافيّة، أنَّ تحديد رسوم جمركيّة بنسبة 5 بالمئة، يشمل فقط المنشآت المرخصة على نظام الصالات الثلاث لتجميع السيارات، بحيث يتم استيراد قطع السيارات مفككة بالكامل، ومن بلد المنشأ، وفق ضوابط عالية الدقة، بحيث يتم في الصالة الأولى جمع المكونات الأولية بواسطة عمليات لحام دقيقة، في حين تتم في الصالة الثانية عمليات الدهان، باستخدام فرن حراري متطور، ليتم تركيب الإكسسوارات في الصالة الثالثة، وهكذا يتم تجميع السيارات بالكامل، وفق عملية دقيقة، تبدأ بقطع مفككة، غير متصلة، أبداً، ما يدعم عملية التصنيع في سورية، كما يشجع على خلق المنافسة السعرية عبر تخفيض التكاليف، من خلال استبدال بعض مكونات السيارات مثل الزجاج والإطارات الأجنبية بمكونات محلية الصنع، مما يخلق مزيداً من القيمة المضافة، كما يسهم في تطوير العديد من الصناعات المرتبطة بتجميع السيارات. وفيما يخص المنشآت المرخصة على نظام الصالة الواحدة، بيّن الوزير أنها لا تقوم إلا بعملية تركيب الإكسسوارات فقط للسيارات، لذا فهي غير مشمولة بالرسوم الجمركية التشجيعية (5 بالمئة)، إذ خصصت برسوم قدرها 30 بالمئة
نظرياً، يأتي هذا التوجه الصناعي الحكومي في سياق محاولة لخلق مكان لسورية في سلسلة العرض العالمية، أو التجارة القائمة على سلسلة العرض (Supply Chain Trade)[2] مع طموح بتمكين التجارة الرأسية (Vertical Trade) أو ما يسمى أيضاً بالتخصص الرأسي (Vertical Specialization)، وهو خيار هامّ، كما هو الحال بالنسبة للدول النامية ذات الدخل المنخفض، ومعدلات البطالة المرتفعة، ذلك بحكم التجارب العملية، إذ أسهم هذا النوع من التجارة في تخفيض معدلات البطالة، وزيادة وتعزيز النمو الاقتصادي، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، في العديد من تلك الدول مثل فيتنام وكمبوديا، في حين تعمل بعض الدول النامية مثل الصين على تعزيز التجارة الرأسية عبر زيادة حصة القيمة المضافة التي تولّدها في سلسلة العرض بشكل مستمر، وهذا ما يمكن استشرافه من تصريحات وزير المالية.
عملياً، يضعنا هذا الخيار الحكومي أمام عدة تساؤلات حول الجدوى الفعلية له؛ فهل هناك فرص حقيقية لتمكين التجارة القائمة على سلسلة العرض في سورية؟ وهل هناك إمكانية لتوسيع مروحة القطاعات الداخلة في السلسلة مثل تجميع الهواتف الذكية والحواسيب وبعض الأجهزة الإلكترونية والأجهزة الطبية، وغيرها؟ وهل هناك إمكانية لتوسيع حصة القيمة المضافة وتعزيز التجارة الرأسية في منتجات محددة نملك فيها ميزات تنافسية؟ وهل اختيار مدخل تخفيض الرسوم الجمركية هو الخيار المناسب لتحفيز ودعم التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية من منظور الاقتصاد الكلي؟
بدايةً، تتوافر في بيئة الاقتصاد الكلي في سورية مجموعة من الظروف التي تجعل اعتماد نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض؛ فرصة هامّة، ذلك لجهة الانخفاض الحاد في الدخل، والناتج الاجمالي المحلي، بالترافق مع معدلات بطالة عالية، يضاف ذلك إلى عناصر القوة مثل الموقع الاستراتيجي لسورية الذي يزيد فرص نجاح تلك التجربة، بما يقلل من التكاليف، ويزيد القدرة التنافسية، من ناحية الأسعار.
لكن، في المقابل هناك العديد من التحديات والمعوقات التي تخفّض من فرص النجاح، في حال استمرت على حالها، وهي مرتبطة باللوجستيات والبنية التحتية بشكل رئيس، وما يرتبط بالسياسات الحكومية، إضافة إلى حالة الحصار والعقوبات الاقتصادية أحادية الجانب (الأمريكية والأوروبية) الجائرة.
خيار واقعي
واقعياً، تعدّ التجارة القائمة على سلسلة العرض في سورية مدخلاً منطقياً لتحسين ظروف التجارة الخارجية، ودورها في دعم النمو الاقتصادي، مقابل خيارات أخرى تطرحها الحكومة، تبدو أقل منطقية، مثل الاعتماد على التصدير في دعم النمو، والاتجاه لاعتماد سياسة وطنية للتصدير، بما يشبه إلى حدّ ما التجربة السنغافورية بعد استقلالها عام 1965، خاصةً وأن بيانات التجارة الخارجية لربع قرن تكشف عن نقاط ضعف كثيرة في قطاع الصادرات.
شكلت الصادرات وسطياً طوال السنوات الست الماضية (2012- 2017) نحو 3.6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، ذلك بسبب تداعيات الحرب، مقارنةً بنحو 7 بالمئة طوال المدة الواقعة بين عامي 1992 و1999، لترتفع النسبة إلى أكثر من 26.2 بالمئة وسطياً طوال المدة الواقعة بين عامي 2000 و2011[3]، إلا أن ذلك ترافق مع زيادة المستوردات بنسب أعلى من الصادرات، مما أدى إلى عجز ملموس في الميزان التجاري، ترافق مع زيادة في درجات الانكشاف التجاري إلى وسطي اقترب من 57 بالمئة طوال تلك المدّة، إثر خيار الانفتاح التجاري عام 2004.
تكمن المشكلة الرئيسة في قطاع الصادرات؛ بانقطاع سلسلة القيمة المضافة وضعف مستويات التصنيع، إذ تتسم الصادرات، تاريخياً، بانخفاض المواد المصنعة ونصف المصنعة، وغلبة المواد الأولية والمزروعات (تشكل أكثر من 50 بالمئة من الصادرات).
يلاحظ من بيانات رسمية[4] للعامين 2014- 2015، أن 53% من الصادرات هي خضر وفواكه وتوابل وحيوانات حية ومشروبات وجلود، بينما شكلت المواد المصنعة ونصف المصنعة أقل من 18 بالمئة، أغلبها ملابس وإكسسواراتها (تراوحت بين 3.2 و5.8 بالمئة من الصادرات)، إضافة إلى الأحذية واللدائن والصابون، مع احتساب السكر ومصنوعاته، أما بقية الصادرات فتتنوع بين النحاس والوقود المعدني والزيوت المعدنية ومواد من حديد وفولاذ وأملاح وأتربة وأحجار وكبريتات وجص وإسمنت.
كل ذلك يجعل خيار الاعتماد على الصناعة التصديرية أمراً غير منطقي حاليّاً، في حين يجب التخطيط له كاستراتيجية وطنية، تمتد على نطاق زمني طويل نسبياً، وقد يكون نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية خياراً مناسباً على المدى القصير والمتوسط، ومدخلاً لسياسة تصديرية طويلة الأمد، وهنا يرى برنارد هوكمان[5] في مقال له بعنوان “إضافة القيمة”[6] أن «التجارة القائمة على سلسلة العرض تتيح للبلدان فرصة استغلال مزاياها التنافسية دون الاضطرار إلى تطوير صناعاتها المتكاملة رأسياً التي توفر للمنتجين السلع النهائية من المدخلات الوسيطة التي يحتاجون إليها.. وتتيح فرصاً جديدة للبلدان منخفضة الدخل لكي تصبح جزءاً من “المصنع العالمي”، ويتطلب تيسير تلك التجارة تدابير تتجاوز خفض تكاليف التجارة العالمية».
كما أشار هوكمان إلى أنَّ البلدانَ النامية في آسيا واقتصادياتِ التحول في أوربا وعدداً من البلدان الأخرى مثل المكسيك، أصبحت تشارك بصورة نشطة في التجارة القائمة على سلسلة العرض، وقد زادت حصة السلع المصنعة في مجموع صادرات الاقتصادات النامية من 30 بالمئة عام 1980 إلى ما يزيد عن 70 بالمئة عام 2013.
ونبّه هوكمان إلى أنّه «رغم أن حصة القيمة التي تضاف إلى المنتج من خلال أنشطة التجهيز في بلدان منخفضة الدخل تكون ضئيلة بوجه عام، فإن فرص العمل والدخل الذي يتولد عن ذلك يمكن أن تحقق منافع كبيرة، وبمرور الوقت، ومع تزايد مشاركة البلدان في تلك التجارة، يمكن أن تتوافر لها القدرة على زيادة حصة القيمة الكلية التي يتم توليدها محلياً».
ولكن؟
يواجه خيار التجارة القائمة على سلسلة العرض العديد من التحديات والمعوقات، التي لا يمكن معالجتها بتخفيض الرسوم الجمركية، إذ يرى هوكمان في مقاله أنَّ «خفضَ تكاليف التجارة وتحسينَ الصلات بالأسواق الاقليمية والعالمية شرطان أساسان لتوسيع الاستثمار في أنشطة سلسلة العرض ولا ينطويان فحسب على تيسير التجارة مثل خفض حالات التأخير في المعابر الحدودية، وإنما أيضاً تحسين خدمات البنية التحتية المتصلة بالنقل وتشغيل نظم عبور إقليمية».
في السياق نفسه، كشفت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع Bain & Company والبنك الدولي حول تمكين التجارة[7] أن العامل الرئيس الذي يحدد قدرة الدولة على المساهمة في سلسلة العرض هو كفاءة تسهيلات التجارة والخدمات اللوجستية، مبينةً أن تحسين مؤشرات الأداء اللوجستي بنسبة معينة بين بلدين؛ يخفّض التكاليف التجارية أكثر بعشر مرات من تخفيض الرسوم الجمركية بالنسبة نفسها.
كما أنه أثناء تحليل البيانات الكمية، وصلت الدراسة إلى أن تحسين مستوى الإدارة الحدودية وخدمات البنية التحتية للاتصالات والنقل؛ يؤدي إلى زيادة الناتج الإجمالي المحلي العالمي بمعدل ست مرات أكثر مما قد تحققه إزالة كافة الرسوم الجمركية على المستوردات.
حدّدت الدراسة تسعة عناصر تعوق سلسلة العرض، موزعة على أربع مجموعات، إذ تضم المجموعةُ الأولى (الوصول إلى السوق) العائقَ المرتبطَ بالوصول إلى السوق الداخلية والخارجية الذي يضم اعتماد نظام الحصص في التجارة الخارجية ورسوم الاستيراد والضرائب، غير الرسوم الجمركية، إضافة إلى المتطلبات المحلية وقواعد المنشأ وبعض المعايير وإجازات الاستيراد والتصدير.
تضم المجموعة الثانية (الإدارة الحدودية) ثلاثة عوائق، يرتبط الأول بكفاءة الإدارة الجمركية، لجهة سرعة وسهولة الإجراءات، ونوعية ونطاق الخدمات التي تقدمها السلطات الجمركية، ويرتبط الثاني بكفاءة إجراءات الاستيراد والتصدير، والثالث بشفافية الإدارة الحدودية، لجهة الفساد، إذ إن الرشوة المدفوعة لتسهيل الإجراءات تضيف تكاليف مباشرة على التجارة، إذ يتم تأخير الإجراءات في حال عدم دفع الرشوة.تضم المجموعة الثالثة (البنية التحتية للنقل والاتصالات) ثلاثة عوائق أيضاً، يرتبط الأول بمدى يسر ونوعية البنية التحتية للنقل، والثاني بمدى توافر ونوعية خدمات النقل، في حين يرتبط الثالث بتوافر واستخدام المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، مثل التعقب وتحصيل الرسوم إلكترونياً.. إلخ.
خصصت المجموعة الرابعة لبيئة الأعمال، إذ تضمنت عائقين، يرتبط الأول بالبيئة التشريعية، بما فيها سياسة الاستثمار وقوانين التوظيف تحديداً للعمال الأجانب، وقضايا تشريعية أخرى تؤثر في التجارة وتمويلها، بينما يرتبط العائق الأخير بالسلامة والأمن لجهة معدلات الجريمة والسرقات التي تضيف تكاليف على التجارة.. إلخ.
في المحصلة، تؤثر تلك العوائق بشكل مباشر في الأعمال التجارية من خلال زيادة تكاليف التشغيل والنفقات الرأسمالية، وتفاقم من التأخير الذي تواجهه الأعمال، كما تقلّص من حجم النشاط التجاري، وتزيد المخاطر.
بناءً على ذلك، فإنَّ تعظيم العوائد المتوقعة من اعتماد نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض وتمكين فرص تطور التجارة الرأسية في البلد؛ يقتضي تركيز الجهود على التعامل مع تلك العوائق لإزالتها، علماً بأن الدارسة خلصت إلى أن تقليص عوائق سلسلة العرض قد تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي نحو 5 بالمئة وزيادة التجارة بنحو 15 بالمئة.
المطلوب
يستنتج مما سبق وجود مقومات أولية، تجعل الاعتماد على سلسلة العرض العالمية وتمكين التجارة الرأسية في سورية خياراً منطقياً، يتوافق مع المرحلة الراهنة والقادمة، ويمكن التخطيط له في سياق استراتيجية تصديرية وطنية، أكثر واقعية، من السياقات المطروحة، لكن ذلك يتطلب تهيئة الظروف المناسبة، مع مراعاة إمكانية الانطلاق بالعملية وفق المتاح حالياً، في ظل التدمير الحاصل في البنى التحتية جراء الحرب، مع إمكانية التخطيط لتوسيع العملية، بالترافق مع إعادة الإعمار، وفق قائمة أولويات واضحة، وتدريجية، وهنا يمكن اقتراح الآتي:
دراسة جدوى دقيقة للصناعات المحتملة التي يمكن الدخول من خلالها إلى سلسلة العرض العالمية، مثل: الهواتف الذكية، والمكننة الصناعية، والأجهزة الطبية، وغيرها، ودراسة الميزات التنافسية بهدف رفع مستوى التصنيع في هيكل الصادرات.
وضع استراتيجية وطنية للتصدير، تنطلق من أولويات اعتماد التجارة القائمة على سلسلة العرض وتمكين التجارة الرأسية، عبر رفع حصة القيمة المضافة محلياً.
دراسة التشريعات والأنظمة والقرارات المتعلقة بالاستثمار والتجارة والصناعة والتمويل والضرائب والتأمين، بغية ضمان توافقيتها مع نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية.
إحداث مكتب في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية متخصّص في التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية، بحيث يتولى أمور الدراسات المتعلقة بها، وتحديد العوائق أمام سلسلة العرض، وتحديد متطلبات إزالتها، كما يتابع عمليات التنسيق مع الجهات المشتركة، بين القطاعين، العام والخاص، لضمان عدم التضارب في المصالح، وسير العملية في الاتجاه المخطط له.
تركيز جهود الدبلوماسية الاقتصادية، بالتعاون بين وزارتي الخارجية والاقتصاد، على تعزيز فرص التوسع في سلسلة العرض، مع الدول الصديقة والتكتلات مثل (BRICS).
التركيز على خيارات تحسين مؤشرات الأداء اللوجستي، بدلاً من خفض الرسوم الجمركية فقط، والعمل على تخفيض تكاليف التجارة المباشرة وغير المباشرة، وتقليل المخاطر، والتخطيط لشبكة النقل والبنية التحتية وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات والحكومة الإلكترونية والأتمتة، حالياً، وخلال مرحلة إعادة الإعمار، بما يعزز فرص نجاح وتطور سلسلة العرض والتجارة الرأسية.
التركيز على العوائق التي تؤثر سلباً في سلسلة العرض، للحدّ منها، وإزالتها، وفق مخطط جدي، حاسم، خاصة في ما يتعلق بكفاءة وشفافية الإدارة الحدودية والفساد في الجمارك، وتسهيل إجراءات الاستيراد والتصدير، وإلغاء ترشيد الاستيراد الذي فتح التهريب على مصراعيه، وإعادة النظر بإجازات الاستيراد، وسياسات القطع الأجنبي في ما يتعلق بالتصدير على المدى الطويل، وغيرها من الإجراءات التي تسهّل التجارة بالاتجاهين، مع ضمان منافسة عادلة بين الأطراف المشاركة في سلسلة العرض، وعدم حدوث احتكار، والعمل على إشراك المشاريع الصغيرة والمتوسطة في سلسلة العرض والتجارة الرأسية.