نارام سرجون:أسئلة مابعد الحرب .. كيف سينظر الينا المؤرخون في مكاييل الزمن؟؟
الأسئلة التي تطرح في الحرب لاتشبه الاسئلة التي تطرح قبل الحرب ولكن اخطر الأسئلة هي التي تطرح في نهاية الحرب ومابعد الحرب .. وأقساها هي التي تصدر عن محاكم التاريخ الغيابية عندما نغيب مئة سنة ..
قبل الحرب تكون الأسئلة التي يتداولها الناس مشتقة من الخمول والكسل والرفاهية أو نزعة المغامرة والتغيير .. وفي الحرب يكون السؤال الأهم هو كيف تنتهي الحرب وكيف ننتصر؟؟ .. ومتى سننتصر؟؟ .. وفي نهاية الحرب يلتفت الناس الى جراحاتهم ومقابرهم .. ويسألون أخطر سؤال وهو: هل تستحق الحرب هذا الثمن؟؟ وهل يستحق النصر هذه الرحلة في بحار الموت ..
واليوم وفيما ألحان الحرب تعزف لحن النهاية يتداول الناس السؤال المؤجل الذي كانت تخمده المعارك الطاحنة وتؤجله الانتصارات والهزائم .. ويردده جميع من تبارزوا بالرصاص من كل الاتجاهات .. هل تستحق هذه الحرب كل هذا الثمن وهذه التضحيات العظيمة؟؟
الأمم التي لاتراجع نفسها ودفاتر مذكراتها هي أمم تموت ولاتحيا .. وكل من أبحر بحثا عن أرض مفقودة عليه أن يدرك انه قد يواجه العاصفة .. والتي قد يدفع حياته ثمنا فيها .. ماان تنتهي العاصفة وينجو ليجد نفسه على شاطئ مجهول حتى يسأل نفسه ان كانت هذه الأرض المفقودة تستحق خطر الغرق في البحر ..
ماالذي جنيناه في الحرب؟؟ مدن مدمرة؟؟ بنية تحتية متهالكة؟؟ قبور وشهداء ؟؟ وجثث منازل وزلازل؟؟ مشردون ولاجئون؟؟ اختلال التوازن الطبقي وتهدم البنى القديمة للثروة الوطنية؟؟ وهناك قائمة لاتنتهي من الخسائر التي يقف النصر في نهايتها ليحاكم ان كان ثمنه باهظا ..؟؟
في الحروب العظمى الوطنية لاينظر الى الخسارات والمكاسب التي تراها العين أمامها بل تقيّم الحروب بميزان العصور وميزان العقود وميزان القرون .. وبعضها لاتوزن الا بميزان التاريخ كله .. ومعيار الزمن والوجود ..
في الحروب العظمى عندما يبدأ الناس باحصاء خسائرهم وأرباحهم نقول لهم .. اتركوا هذا لأبنائكم لأن الزرع لايجنى في نفس اليوم .. ولأن الشجر لايأكله الا الأحفاد أحيانا ..
سأضع اليوم كل ماخسرناه .. بيوت ومدن وشهداء وضحايا ومال وثروة .. وسنعرضها على ميزان العقود والعصور والقرون ونجد أننا في هذه الحرب ربما غيرنا دورة التاريخ .. والزمن .. فقد وضعنا العالم العربي والاسلامي أمام أول امتحان لشعار عاش معنا وجلس معنا وأكل معنا ونام معنا واستيقظ معنا .. وهو (شعار الاسلام هو الحل) .. اي أن شرع الله هو الحل وهذا يعني بكلمة أخرى أن (الدين هو الحل) .. وبذلك فانه سيعني أن لكل مجموعة بشرية دينها الذي سيحل لها مشاكلها .. اليهود والمسيحيون والمحافظون الجدد والمسلمون والبوذيون والهندوس الخ .. وسيكون من حق كل أمة ان تضع دينها كمشروع وتعلن شعار (ديني هو الحل) فيقول البوذيون (البوذية هي الحل) .. ويقول السيخ (السيخية هي الحل) ..
وهكذا .. ولكن أول ثمرة للحرب التي خضناها هي أننا أسقطنا شعارا عمره عقود طويلة وربما قرون طويلة .. وأخضعنا نظرية (الدين هو الحل) لأقسى اختبار .. وتعرض هذا الشعار الى أقسى هزيمة .. وسقط شعار (الدين هو الحل) في الشرق .. وربما يتردد صداها في أجزاء من العالم .. وهذه هي اللحظة التي ستؤسس لعصر من العلمانية في الشرق التي حاولنا بناءها وفشلنا منذ الاستقلال لأننا كنا منجذبين في الوقت الذي نبني فيه العلمانية الى شعار (الدين هو الحل) أو (الله هو الحل) .. كانت علمانيتنا تعاني هشاشة لانها قشرة تغطي الموروث السميك من العقل الديني اللاهوتي الذي يسيطر علينا .. وفيما كنا نبني احزابا علمانية فاننا كنا لاندري أو ندري أن لها اسسا دينية في العمق .. وقد انخرط المشرقيون جميعا في هذا الفخ وهو أن الدين هو الحل .. مسلمين ومسيحيين .. ونشأت حركات انعزالية مذهبية .. فصار السنة يرون أن السنية هي الحل وهؤلاء تبنوا فكرة (الخلافة هي الحل) وتفرعت عنها حركات الاخوان المسلمين والنصرة وأضافت داعش شعار (خلافة على منهاج النبوة هي الحل) .. .. وقبل ذلك تطورت في الحرب اللبنانية أحزاب مسيحية (داعشية المنهج والسلوك) مثل القوات اللبنانبة وقوات انطوان لحد .. وبدأت في مصر حركات قبطية كلها مصابة بعدوى (الدين هو الحل) .. وكان الشيعة قد طوروا مبدأ خاصا بهم هو ولاية الفقيه وترجمتها قد توصل الى شعار (الشيعية هي الحل) .. ولذلك تجد أن أكثر مناطق العالم تعرضا للاهتزازات الدينية هي الشرق .. لأن الله الذي كان هو الحل والذي أتى للشرق وقدم له أعظم ثلاث ديانات .. حوله العقل الشرقي الى مشكلة تعيقه عن النمو ..
ولكن الحرب في سورية كانت بين هذا الشعار اللاهوتي الذي حمله المسلمون (الله هو الحل) .. وبين شعار (الانسان هو الحل) والشعار الثاني شعار شامل لكل شيء وهو سلاح التدمير الشامل الذي انفجر في شعار (الدين هو الحل) .. فالمرحلة التي خرج فيها الدين من المساجد الى السلطة ومارس الحكم وجد أنه لايقدر على تقديم مشروع دنيوي متكامل .. وأن النظرية نفسها غير جاهزة للعيش الا في كتب المرشدين والوعاظ .. فنزلت النظريات الى الارض ومعها سيوف من القرن الثاني الهجري واسماء من ذلك القرن .. وعلاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية من ذلك القرن .. وكانت تخشى أن تتخلى عن أي من ممتلكات ذلك العصر الذي جاءت به كصندوق مغلق من تحت ركام الزمن .. وعندما فتحته وجدت ان فيه ثيابا وجلابيب وأحكاما بالجلد البتر والقطع والرجم والتكفير .. وكانت هذه أول منازلة مع الحقيقة وكان التخلي عنها يعني هدما لشعار الاسلام هو الحل وهدما للحلم .. ولكن كان طعم الحل الذي حلمنا به مرا وعلقما .. فأكثر المتحمسين للاسلام لم يتقبل ولم يتحمل تطبيق النموذج الصارم الوارد في النظريات الموروثة .. وكان تحديها أو المطالبة باسقاطها يعني انه يشكك بجدواها وقداستها ..
ان هدم شعار (الدين هو الحل) هو أعظم انجاز ويعادل في أهميته انتصار الدعوة المحمدية على شعار (الجاهلية هي الحل) .. ومن هذا النوع من الانتصارات تنطلق المشاريع العملاقة الكونية .. التي تبدا في مكان صغير ثم تجتاح العالم كله .. وهو بحد ذاته تحطيم لنظرية لمن رفع شعار (الدولة اليهودية هي الحل) .. لان الدين كله بما فيه اليهودية طبعا اثبت انه ليس حلا .. لأن النظريات المتكاملة لاتسقط أجزاء منها وتبقى أجزاء .. بل اما أن تسقط كلها أو أن تحيا كلها ..
أما الانجاز العظيم الذي تحقق في هذه الحرب فانه منع عصر من التبعية والاحتلال .. والتأسيس لعصر الاستقلال الثاني .. لأن احدى غايات الحرب كانت اخضاع مابقي من سورية والعراق لقوى نقوذ أخطبوطية تتلاعب بها كما تتلاعب بليبيا المسكينة .. وتتناهشها وتتناهش أبناءها .. ولاشيء أثمن من الاستقلال في القرار الوطني .. ويجب ان لايبيعه أحد بأي ثمن بل أن يدفع له الجميع أي ثمن .. وأذكر هنا انني في جدال مع صديق مصري في نهاية التسعينات كان يجادلني حول فوائد معاهدة كامب ديفيد على الشعب المصري رغم انها قد تمس الاستقلال الوطني .. فقال انه في عهد عبد الناصر فان قرارات المواجهة مع الغرب جعلت المصريين فقراء لايقدرون على أكل اللحم الا يوم الخميس بسبب الفقر .. وبعدها صار الشعب قادرا على أن ياكل اللحم ثلاث مرات في الاسبوع .. والشعب الجائع لايقدر أن يبدع .. وهذا المنطق لم يجد ان ثمن اللحم الذي يأكله كان باهظا جدا دون أن يدري .. لكنه ظهر اليوم عندما أفاق المصريون بعد اربعبن عاما على المعاهدة ووجدوا أن التخلي عن المواجهة فتح شهية دول ضعيفة على مصر مثل اثيوبيا التي أمسكت عروق النيل وجذوره وصارت تقطر منها للشعب الذي أراد بعضه أن يأكل اللحم ثلاث مرات في الاسبوع فاذا به قد لايقدر على أن يشتري الماء ليشرب .. بل يقال بأن المحاصيل الزراعية التي تحتاج الى ماء وفير سيتم حظر زراعتها مثل الرز وغيره بسبب شح المياه المتوقع الناجم عن سد النهضة .. وهذا في الحقيقة ليس خطأ الحكم الحالي .. بل خطأ تلك اللحظة الساداتية والقرار الخائب منذ 40 سنة بالتخلي عن مشروع المواجهة التي كانت مكلفة مع الغرب في حينها ولكنها كانت ستعني أن مصر اليوم ستبقى لاعبا لاتستأسد عليه اثيوبيا وتمولها السعودية واسرائيل لاغلاق صنابير نهر النيل .. انه الاستقلال الوطني والأمن ماوراء الحدود الذي صارت تتقاذفه اما قطر واما السعودية واسرائيل .. وهي من كانت تهاب مصر وتخشى غضبها .. ولو تابعت القيادات المصرية مشروع عبد الناصر في المواجهة من سيناء الى باب المندب على كلفتها بدل اتخاذها كامب ديفيد لكانت اليمن اليوم مكانا للنفوذ المصري وكانت القواعد المصرية في اليمن هي التي ستتحرك ضد سد النهضة وكان الحوثيون أصدقاء المصريين قادرين على اطلاق صواريخهم على سد النهضة لهدمه وليس على الرياض ..
لذلك لايجب أن يسأل أحد عن كلفة الحروب العظمى .. لأن مقاييسها الزمنية ليست بالأيام والشهور والسنوات بل بالعقود والقرون .. والتاريخ كله .. وأبناؤنا هم من سيجني .. والتاريخ .. والجغرافيا .. وحتى الله سيجني ثمن هذا الدم العطر الزكي .. عندما لايباع دينه ولايحوله الساسة أي دين الى بضاعة .. ولايصبح الله هو المشكلة ..
اننا لانبالغ ان قلنا أننا عندما انتصرنا .. فاننا أنقذنا التاريخ .. والجغرافا .. وأنقذنا الأرض .. وأنقذنا السماء .. فطوبى للمنتصرين .. باركتكم الأرض والسماء ..
================================
ملاحظة: هذه مقالة ليس فيها اي تجديف ولا اساءة للدين .. لأنها تمجيد للانسان والوطن .. والانسان هو غاية الدين .. انها محاولة القلم ان يتحول الى جمرة تشعل كل بخور الحروف لتصبح بخورا لله بعد أن غسل الاسلاميون والوهابيون اسم الله بالدم والأنين والعذاب وصنعوا له عباءة من الرذيلة والخيانة ..