قمّة سوتشي بين التسوية السياسية ومواجهة الخارج
عبد الله سليمان علي
من البديهي أنه بعد استكمال تطهير الداخل الذي لم يبق منه إلا بعض معاقل “داعش” في الحجر الأسود ومخيّم اليرموك، فإن بؤر التوتّر ستكون مُقتصِرة على ثلاث نقاط أساسية هي شمال شرق سوريا حيث قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أميركياً. ومنطقة شمال غرب سوريا ذات النفوذ التركي الذي يكاد يصبح شبه صافٍ خاصة بعد وقف الدعم الأميركي. وجنوب غرب سوريا الخاضعة للتأثيرات الأميركية والإسرائيلية والأردنية.
طغى على القمّة السورية – الروسية الحديث عن بعض تفاصيل التسوية السياسية لا سيما “اللجنة الدستورية” وموافقة دمشق على التعاون في تشكيلها مع الأمم المتحدة، بما يُمهّد السبيل أمام “عملية سياسية كاملة” حسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. غير أن القمّة التي انعقدت الأسبوع الماضي بين الرئيسين الروسي والسوري، لا تكتسب أهميتها من الاتفاق على هذا التفصيل الصغير ضمن مشروع التسوية، بل تكتسبها من الرسائل والدلالات التي أُريد لهذا التفصيل أن يحملها ويوصلها لمن يعنيه الأمر.
في التوقيت جاءت القمّة بين الرئيسين في أعقاب تطوّرات كبيرة طرأت على الظروف الاقليمية والدولية المُحيطة بالأزمة السورية. على رأس هذه التطوّرات تصاعد التوتّر مع العدو الصهيوني ودخوله في نطاق الضربات المُتبادَلة لترسيخ قواعد اشتباك جديدة. واتجاه السياسة الأميركية نحو مزيد من التصعيد ضد الدور الإيراني خاصة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. ومن المُقرّر أن يتم الإعلان خلال الساعات المقبلة عن الاستراتيجية الأميركية للتعامُل مع إيران في المنطقة ، حيث من المتوقّع أن يكون لسوريا حصّة كبيرة ضمن هذه الاستراتيجية. وفي هذا السياق كان من اللافت إعلان روسيا عن تأهّبٍ مستمرٍ لسفنها العسكرية المزوّدة بصواريخ “كاليبر” في البحر المتوسّط بسبب “التهديد الارهابي الذي لا يزال قائماً في سوريا” ، مع مخاوف عبّرعنها مسؤولون روس حول عودة “داعش” إلى المناطق التي يمكن أن تنسحب منها الولايات المتحدة من دون تنسيق. يُضاف إلى ذلك الاختراق الذي حقّقته الدبلوماسية الروسية عبْر تحويل اجتماعات أستانا إلى سوتشي وإضفاء طابع سياسي عليها.
وجاءت القمّة أيضاً تتويجاً لنجاحات الجيش السوري وحلفائه على الصعيد الميداني المتعلّق بمُحاربة الإرهاب، ومع ذلك فقد كان انعقادها بعيداً كل البُعد عن الطابع البروتوكولي المَحْض. بل على العكس كانت الغاية منها التأسيس على الواقع المُستجِد، بجميع متغيّراته وتطوّراته، من أجل تدشين محور عمل جديد ينطلق من المركز السوري المُطهّر باتجاه الأطراف ، بُغية تفكيك بؤَر النفوذ الاقليمية والدولية ومحاولة التعامل مع كل منها على حدة.
وقد يكون هذا هو مقصد الرئيس الروسي عندما صرّح بخصوص خروج القوات الأجنبية من سوريا والذي أثار جدلاً كبيراً. وفي إيضاح لهذه التصريحات قال المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف إن “انسحاب الوحدات الأجنبية هي خطوة أخيرة”، وأنه “يجري الحديث عن جميع الوحدات العسكرية الأجنبية المتواجدة في سوريا” ، ولم يذكر لافرنتييف الإيرانيين إلا بعد الأميركان والأتراك في ترتيب له دلالته التي لا تُخفى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الروسي اعتبر في شهر نوفمبر الماضي أن التواجد الإيراني في سوريا هو تواجد شرعي ردّاً على وزارة الخارجية الأميركية.
وثمة ثلاثة ملامح رئيسة طغت على المشهد السوري خلال الفترة السابقة يمكن من خلالها استقراء أبعاد ومدلولات قمّة سوتشي وطبيعة مخرجاتها.
الأول يتمثّل في اقتراب الجيش السوري وحلفائه من إكمال مسار “التطهير الاستراتيجي” لكافة مناطق الداخل السوري ، بحيث يصبح تواجد بؤر التوتّر مُقتصراًعلى المناطق الحدودية التي تخضع لمُعادلات اقليمية ودولية تختلف في محاولات إيجاد حل لها عما شهدته مناطق التسويات والمُصالحات في الداخل.
والثاني يتعلّق بواقع المعارضة ومدى الانقسام الذي أصابها حتى كاد كل جناح من أجنحتها العديدة ينقسم إلى تيّارات مُتباينة غير قادرة على التعايش في ما بينها.
والثالث وربما هو الأهم يتمثّل في ازدياد الشَرْخ بين الولايات المتحدة وتركيا. وقد يكون مما له دلالته أن بعض الاقتتال الذي شهدته مناطق درع الفرات كان في حقيقته محاولة لتصفية نفوذ بعض الفصائل المدعومة أميركياً مثل “لواء المُعتصم” و”فرقة الحمزة”، وربما كان هذا أحد الأسباب التي دعت واشنطن إلى وقف دعمها لمناطق شمال غرب سوريا حسب ما سرّبت الصحف الأميركية قبل أيام، خاصة بعد تأكيد تقايرير إعلامية أميركية أن جزءاً من الدعم الأميركي وصل إلى “جبهة النصرة” بما فيه صواريخ تاو المُضادّة للدروع.
ومن البديهي أنه بعد استكمال تطهير الداخل الذي لم يبق منه إلا بعض معاقل “داعش” في الحجر الأسود ومخيّم اليرموك، فإن بؤر التوتّر ستكون مُقتصِرة على ثلاث نقاط أساسية هي شمال شرق سوريا حيث قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أميركياً. ومنطقة شمال غرب سوريا ذات النفوذ التركي الذي يكاد يصبح شبه صافٍ خاصة بعد وقف الدعم الأميركي. وجنوب غرب سوريا الخاضعة للتأثيرات الأميركية والإسرائيلية والأردنية.
ويبدو أن منطقة شمال غرب سوريا هي المُستهدَفة حالياً من خلال الحراك السياسي الذي أبدت الرئاسة السورية حماسةً للخوض فيه جنباً إلى جنب مع الاستمرار في مكافحة الإرهاب. ويمثل هذان العنصران: السياسة ومحاربة الإرهاب، جوهر السياسة الروسية حول تحديد مصير محافظة إدلب، حيث أُعطيت تركيا مهلة “لإنهاء تنظيم جبهة النصرة” ، معتبرةً أن “انقضاء هذه المهلة سيكون الحد الفاصل بين حال الاستقرار القائمة حالياً والصراع الدموي المتوقّع حدوثه خلال فترة زمنية ليست ببعيدة” حسب القناة المركزية لقاعدة حميميم (وهي قناة غير رسمية لحد الآن) لكن لم يسبق لموسكو أن نفت صحّة أيّ من التصريحات الصادرة عنها.
أما بالنسبة لمنطقتي شمال شرق، وجنوب غرب سوريا الخاضعتين للتأثيرات الأميركية الإسرائيلية، فيبدو أن الظروف التي دفعت الرئيس الروسي للرِهان على إطلاق عملية سياسية كاملة غير متوافرة فيهما، وستبقيان بالتالي ضمن مناطق التوتّر المُرشّحة لتصعيد ميداني مُحتَمل بقوّة، ما لم يجر تعزيز التفاهُمات الثنائية والثلاثية الضابطة لهما.
وفي هذا السياق كان من اللافت أن المروحيات السورية حرصت خلال اليومين الماضيين على رمي منشورات تحضّ أهالي درعا على الجنوح نحو المُصالحة اقتداءً بمناطق أخرى ، بالتزامُن مع طلب روسيا من المجلس المحلي في محجة جنوب درعا بتشكيل وفد للتفاوض معها على مصير البلدة. في حين تتصاعد الاحتمالات منذ عدّة أسابيع حول قُرب عمل عسكري لحسم مصير تل الحارة الاستراتيجي. ويأتي ذلك مع استمرار الانتقادات الروسية للتواجد العسكري الأميركي غير الشرعي في سوريا ، ورفض موسكو دخول قوات عربية للحلول مكان القوات الأميركية التي يمكن أن تنسحب، وذلك في إشارة واضحة إلى أولويات العمل الروسي في المرحلة المقبلة والتي يحاول البعض الذهاب بها نحو إيران لأسباب معروفة.
الميادين