الدفاعات الجوية السورية: تقادم السلاح وتطوير التكتيكات
حسين الأمين
في جزء كبير من الحرب، يساهم سلاح الجو بفعالية في حسم أيّ معركة. في مواجهة إسرائيل، صاحبة أقوى سلاح جو في المنطقة، والولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أقوى سلاح جو في العالم، لا بدّ من العمل الحثيث على تطوير الدفاعات الجوية السورية. لا تزال هذه الدفاعات متأخرة بأشواط عن المستويات الحديثة واللازمة لمواجهة طائرات وصواريخ العدو الإسرائيلي أو الأميركي، إلا أنها مع تقادمها، ثمّة ما يثبت أن اعتماد تكتيكات مبتكرة وذكية، بسلاح قديم، قد يؤدّي إلى نتائج «مبهرة»
تعرّضت سوريا قبل حوالى شهر لعدوان ثلاثي، شنته الولايات المتحدة والى جانبها بريطانيا وفرنسا. وقبلها بفترة، تعرّض مطار عسكري (تي فور) شرق حمص، لعدوان إسرائيلي، وتمكّنت الدفاعات الجوية حينها، من إسقاط طائرة إسرائيلية من طراز «F-16». ونظراً إلى تطورات الحرب، ولما يدور من حديث «صاخب»، حول الدفاعات الجوية هناك، وتطويرها وتزويد الجيش السوري بأحدث منها تفرض علينا المرحلة، المزيد من المحاولات، لفهم أهمية هذه المنظومات، وطريقة عملها، وتأثيرها على مسار الحرب.
المواجهة بين الأرض والسماء
تجربة «عاصفة الصحراء» نموذجاً
في كانون الثاني/ يناير من عام 1991، شنت قوات التحالف الدولي، عملية «عاصفة الصحراء»، ضد العراق، بعد ان اجتاح الأخير الكويت في حرب الخليج الثانية. بعد هجوم عنيف ناجح شنّه الأميركيون بطائرات الشبح (F-117)، التي تعتمد تقنية التخفّي، تولّت المهمّة الصواريخ الأميركية المعروفة بـ«توماهوك كروز» المرسلة من السفن في بحر الخليج والبحر الأحمر. و«بدأ كل صاروخ توماهوك رحلته عندما انفجر من أنبوبة مضغوطة، وتسلق سماء الليل بواسطة عمود صاروخي ناري. برزت من جسم الصاروخ أجنحة قصيرة وزعانف الذيل، ودفع محرك توربيني الصاروخ على طول مسار مبرمج مسبقاً على ارتفاع 100 إلى 300 قدم. وسرعان ما تسارعت أعداد كبيرة من صواريخ كروز طولها 20 قدماً عبر الامتدادات النائية من غرب إيران قبل دخولها إلى العراق. أطلقت سفن البحرية 122 صاروخ توماهوك خلال ساعات، ما أدى إلى ضرب أهداف مثل مقر حزب البعث، ومحطة صواريخ سكود، وقصر رئاسي آخر»، بهذه الكلمات وصف الكاتب الأميركي جيم كوريغان انطلاق الصواريخ في كتابه «عاصفة الصحراء: الحملة الجوية ضد عراق صدام في الخليج 1991». طوال فترة إطلاق صواريخ توماهوك، وتحليق طائرات «الشبح»، بقيت ستّون بطارية من طراز «سام 6» في بغداد صامتة. معظم مشغّلي المنظومات الدفاعية الجوية أظهروا انضباطاً كبيراً، إذ انتظروا بصبر الطائرات المختلفة (غير المتخفّية) التي يمكن استهدافها. حتى ذلك الحين، لم يشغّلوا رادارات التوجيه، لئلا تُكتشف. «كان الانتظار قصيراً. مع أصوات انفجار صواريخ توماهوك التي تتردّد في جميع أنحاء المدينة، وانقطاع التيار الكهربائي في الشوارع، تلقّى المدافعون عن بغداد تنبيهاً: رادارات الإنذار المبكّر في الجنوب والغرب، التقطت تشكيلات كبيرة من الطائرات (المعادية). وأطلق مشغلو الصواريخ رادارات تتبّعهم، وبدأت صواريخهم تجتاح السماء» يقول كوريغان.
منذ الأيام الأولى لعملية درع الصحراء التي سبقت عاصفة الصحراء، كان مخططو التحالف قلقين بشأن ترسانة الدفاع الجوي العراقي «سام». إذ امتلك الرئيس صدام حسين مجموعة متنوعة من الصواريخ السوفياتية، بما في ذلك منظومة SA-6 Gainful التي كان يمكن أن تصل إلى مديات بعيدة. ومن بين التهديدات الأخرى، الصاروخ الفرنسي الصنع من طراز رولاند، وعدد قليل من أنظمة هوك الأميركية (American Hawk)، التي تم الاستيلاء عليها أثناء غزو الكويت.
في الرياض (مركز قيادة عمليات التحالف)، كانت المهمة المعروفة باسم «قمع دفاعات العدو الجوية»، أو SEAD، تعود إلى البريغادير جنرال هنري، الذي أصبح غداة التحاقه بالكلية الحربية الوطنية الأميركية في عام 1982، مفتوناً بغارة «إسرائيلية» وقعت في وقت سابق من ذلك العام، على مواقع «سام» السورية في وادي البقاع اللبناني. «وقد أُعجب بشكل خاص باستخدام الإسرائيليين الماكر للطائرات من دون طيار لخداع السوريين لتشغيل رادارات التتبع الخاصة بهم، ولترسل إشاراتها، وبالتالي تحديد مواقعها والإغارة عليها». تخيّل هنري خدعة مماثلة للعراقيين، ولكن على نطاق أوسع بكثير… في الواقع، كانت الطائرات الحربية التي رصدتها الرادارات العراقية قادمة من الغرب، عبارة عن طائرات شراعية طويلة المدى، ظهرت على الرادار كطائرات كبيرة. «العراقيون أطلقوا وابلاً من الصواريخ. عندما وصلت الطائرة الشراعية إلى نهاية مسار انحدارها البالغ طوله ستون ميلاً، سقطت من زاوية رصد الرادارات العراقية، ممّا أقنع مشغّلي منظومة سام المبتهجين بأنهم قد سجّلوا العديد من القتلى. في الواقع، لقد عرضوا أنفسهم، فقط، للهجوم المضاد» يقول كوريغان.
تُظهر التجربة في العراق أن التقنية الأميركية المتطورة لم تكن كافية، لوحدها، لمواجهة الدفاعات الجوية، ما دفعهم للجوء الى الخداع والتضليل. بل يمكن القول إنه لو اعتمد العراقيون تكتيكات مختلفة ومبتكرة في استعمال منظومة الدفاع الجوية، ولو تنبّهوا لخدعة الطائرات الشراعية وغيرها، لاستطاعوا تحقيق نتيجة أفضل.
التجربة السورية الأخيرة
في العاشر من شباط/ فبراير الفائت، تمكّنت الدفاعات الجوية السورية من استهداف طائرة F-16 إسرائيلية فوق الجنوب السوري لتسقط في منطقة الجليل الفلسطينية المحتلة. ما الذي حدث هناك؟ وكيف تمكّنت الدفاعات الجوّية من إسقاط الطائرة؟ في البداية، يجب فهم طبيعة منظومات الدفاع الجوي الموجودة عند السوريين. أبرز ما يمتلكه الجيش السوري والذي يمكّنه من استهداف طائرة كالـ F-16 هو منظومتا سام 5 (S200) وسام 6 غاينفول. ويمتلك الجيش أيضاً منظومات أخرى أقل فاعلية في التصدي لهذا النوع من الطائرات. ولهذا، فإنه يُعتقد بنسبة كبيرة، أن الصواريخ التي أسقطت الطائرة الإسرائيلية هي من هاتين المنظومتين. بدأ التحرك عندما رصد الإسرائيليون طائرة من دون طيار، قالوا إنها إيرانية، اقتربت من الحدود مع الجولان المحتل، فتصدّت لها الدفاعات الجوية، هذا بحسب الرواية الإسرائيلية. بعدها، قرر الإسرائيليون استغلال «الحادثة» لاستهداف قواعد ومواقع مختلفة في سوريا، بحجة الرد على تحليق الطائرة الإيرانية. بالفعل، شنت الطائرات الإسرائيلية غارات عدة داخل الأراضي السورية، والتفّت لتعود الى قواعدها. هنا، كان «الكمين» قد أصبح جاهزاً. وبحسب مصادر عسكرية سورية مطّلعة، تحدّثت إلى الـ«الأخبار»، فقد «أعدَّ جنود وضباط الدفاع الجوي السوري كميناً للطائرات العائدة». وتضيف المصادر: «يُمكن التنبّؤ بمسار عودة الطائرات الإسرائيلية بعد تنفيذها الغارات، وبالتالي تم اختيار مجال جوّي ضيّق، وجُهّزت الصواريخ من منظومتي سام 5 اي S200 وسام 6 القديمة، وبمجرّد اقتراب الطائرة الإسرائيلية من المجال المحدّد بمسافة محدّدة، أُطلقت أكثر من 10 صواريخ باتجاه المجال الجوّي المُستهدف، بشكل تصبح فيه الطائرة الإسرائيلية معرّضة للإصابة بدرجة كبيرة طالما هي في المجال ذاته. وهكذا أصيبت الطائرة، ولكنها لم تنفجر، لأن الإصابة لم تكن مباشرة، واستطاع طياراها القفز منها، وسقطت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة». إذاً هنا، العامل الأساسي كان اعتماد تكتيك مختلف، وإعداد كمين جوي لطائرة متطورة، ورفع نسبة الإصابة الى أعلى قدر من خلال غزارة النيران.
بما يتعلق بالعدوان الثلاثي على سوريا، فقد تأكّد، بلا شكّ، أن الدفاعات الجوية قد اعترضت عدداً كبيراً من صواريخ العدوان، سواء إسقاطاً أو حرفاً عن مساراتها. ليس مهماً إن كان عدد الصواريخ التي اعتُرضت، قد بلغ 71 صاروخاً، حسبما أفادت وزارة الدفاع الروسية، أم أقل من ذلك أو أكثر. نحن هنا نتحدث عن «الإمكانية»، وهي بالتأكيد أهم من العدد. النتيجة أن الدفاعات الجوية قد تصدت لعدد كبير من الصواريخ، وظهر ذلك من خلال معاينة الأهداف التي لم تصل إليها، ومن بقايا الصواريخ التي نُقلت الى موسكو وعرضت في مؤتمر صحافي هناك. فضلاً عن العدد الكبير للصواريخ الدفاعية والاعتراضية التي أطلقت من المنظومات السورية. للتدليل على ذلك، رأى خبراء عسكريون أن حجم الدمار الذي خلفته الصواريخ التي أُطلقت على مركز البحوث في برزة، في ريف دمشق، (وهي بحسب رواية رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي، كينيث ماكينزي 76 صاروخاً) يشير الى أن على أقصى تقدير قد وصل منها 20 صاروخاً، إذ إن أجزاءً من المباني المستهدفة لم تُدمّر بشكل كامل، وهذا لا يُعقل بحال سقط هناك 76 صاروخاً بقدرات تفجيرية عالية جداً، مثل توماهوك، وصاروخ «JASSM» (يعتمد تقنية التخفي المشابهة لتقنية طائرات الشبح).
ظروف أحاطت بتلك العملية خدمت الجيش السوري، وهي:
أولاً: العدوان كان متوقعاً، وبالتالي امتلك الجيش السوري وقتاً كافياً للتخطيط والتجهيز للتصدّي للصواريخ القادمة من البحر والجو، وتمكّن السوريون من نشر منصّات صواريخهم الدفاعية وتجهيزها ورفع حساسية راداراتهم. وكانت المنصات التي انطلقت منها الصواريخ المعادية معروفة المواقع والإحداثيات، إذ رصدتها الرادارات وطائرات الاستطلاع الروسية والسورية قبل العدوان بساعات وأيام، وبالتالي سمح هذا بتحديد مسار الصواريخ القادمة وسهّل من استهدافها.
ثانيا: بحسب نائب رئيس البرلمان الروسي لسياسة المعلومات، والحائز على دكتوراه في العلوم العسكرية، كونستانتين سيفكوف، فإن «تغطية الصواريخ المعادية، بشكل سيّئ من قبل وسائل الحرب الإلكترونية (EW) لمطلقيها، تسبب في إصابتها»، لعدم توفيره أهدافاً وهمية تزيد من نسب إخفاق الصواريخ الاعتراضية. وفي المقابل، أشارت تقارير عسكرية الى أن الجيش السوري، بالتعاون مع خبراء روس، قد استخدموا بالفعل أنظمة الحرب الإلكترونية للتشويش على الصواريخ المعادية، واستطاعوا حرف بعضها عن أهدافها، خاصة أنها كانت بلا «حماية الكترونية». وذكرت التقارير أنه قد يكون النظام المُستعمل للتشويش هو نظام Richag-AV الروسي الحديث، والذي زُوّد به الجيش السوري في فترة سابقة.
ثالثاً: تنوّع المنظومات والأسلحة التي شاركت في التصدي للصواريخ. إذ شارك في العملية، بحسب مصادر عسكرية مطلعة: صواريخ البوكا، البانتيسر، منظومة البتشورا 2M، منظومة الكفادراتا، منظومة الأوسي-أم إي، ومنظومة S200. وبالتالي سمح تعدّد المنظومات والأسلحة في توسيع الزخم الناري، وتكثيف فرص الإصابة، خاصة أن بعض المنظومات الدفاعية مصممة أساساً للتصدي للصواريخ من دون الطائرات، كالبانتسير مثلاً.
رابعاً: أظهر جنود وضباط الدفاع الجوّي مهارة عالية واحترافية في انتقاء الأهداف والتوجيه، فضلاً عن شجاعة ظهرت في ثباتهم على منصّاتهم وأسلحتهم، رغم إمكانية استهدافهم بشكل مباشر.
برز ما يمكن استخلاصه من التجربة السورية الأخيرة، بالمقارنة مع التجربة العراقية السابقة، أن الأسلحة ذاتها، مع القليل من التطوير، والكثير من التكتيك والتخطيط، بالإضافة الى ظروف مؤاتية ومناسبة، يمكن أن تحقق نتائج جيدة، وأن تُحدث تغييراً في توازن الردع. كذلك يجدر التأكيد أن التخلّص من هواجس الخوف من الطائرات المتطورة والصواريخ الذكية، وابتكار الأساليب والطرق للتعامل معها، ولو بأسلحة قديمة نسبياً، هو عامل أساسي في نجاح أي محاولة للدفاع والمواجهة.
الأخبار