ماذا بين روسيا وإيران؟
د. وفيق إبراهيم
النقاط المشتركة بين البلدين أكبر من المختلف عليها.. ولو تطابقا في كامل القضايا، لكان بإمكانهما تأسيس علاقات فدرالية.. لكنها ليست على هذا النحو.. لأنهما بلدان يلتقيان ويفترقان كحالة معظم المتحالفين في أوروبا وأميركا و»إسرائيل» وأنحاء أخرى من العالم. أما تعظيم وجهات النظر المتباينة في ما بينهما، فسببه إصرار غربي ـ خليجي ـ إسرائيلي على «تقزيم» الدور الإيراني وإثارة الفتنة بينه وبين روسيا وسحبه من المنطقة العربية عموماً، وليس من سورية بمفردها، إنما من اليمن والعراق وصولاً إلى أفغانستان.
هناك ظاهرة إضافية لا يجوز إغفالها وتتعلّق بدول الخليج التي تفهمُ التحالف استتباعاً استلحامياً بالآخر الأقوى.. فأما أن تشابهَهُ في كلّ مواقفه السياسية منبطحاً كحالة السعودية مع أولي أمورهم الأميركيين أو تصبح العلاقة عدائية. وهذا مماثل للعلاقة بين الدول ومستعمراتها.
أما في الموضوع الروسي ـ الإيراني، فهناك تقارب بين نموذجين تعاديا طويلاً في التاريخ وحتى مرحلة الرئيس بوتين التي سجّلت انفتاحاً حتى وطأة الخطر الأميركي المشترك..
وشكلت سورية بداية التفاهم الثنائي الذي استند إلى أنّ إسقاط دمشق بداية لاقتحام طهران وموسكو. وأمّن الإيرانيون الطريق لدخول الروس الجوي ـ العسكري. ما استتبع إعادة تنشيط الدولة السورية مع القضاء شبه الكامل على الإرهاب. ولولا العناد الأميركي، لما كان هناك مشروع انفصالي كردي في شرق الفرات يستظلّ الحماية الأميركية، ولما كان الإرهاب يسرح ويمرح في قاعدة التنف..
ولولا التهديدات الأميركية للجيش السوري لالتحقت درعا بوطنها السوري..
هناك إذاً تقارب في موضوع دعم الدولة السورية لاستعادة سيادتها وضرب الإرهاب بما يؤدّي إلى نتائج عدة إضافية: تراجعُ النفوذ الأميركي ـ تقدم الدور الروسي، ونجاح المقاومات المدعومة من إيران في وجه الأميركيين والإسرائيليين.
لقد حققت هذه الخطة نجاحاً ملحوظاً.. لكن هناك من يريد معاملة روسيا وكأنها بلد عربي ومسلم، وهي ليست كذلك.. الخليج ومصر والمغرب والأردن وقطر ودول أخرى.. يمكن أن نطالبها بتحرير فلسطين.. لكنها وللأسف تقيم علاقات دبلوماسية وسياسية مع «إسرائيل» بل وتحالفت معها..
والعامل الإضافي أنّ موسكو تعتبر انتشار الجيش السوري على حدوده الجنوبية إقصاءً للاحتلال الأميركي والإسرائيلي والأردني والتنظيمات الإرهابية المرتبطة بها من الجنوب.. فلماذا التركيز على إيران فقط؟ علماً أنّ انسحاب هذه القوى يعزّز استقرار الدولة السورية.. أما وجود حزب الله في سورية فهو بنيوي يكاد يصل إلى مرتبة انصهار كامل يستحيل تدميره أو تصديعه، وللذكر فإنّ حزب الله وافق في 2006 على الانسحاب من حدود لبنان الجنوبية إلى ما بعد نهر الفرات.. وتبيّن للراصدين أنّ هذا الحزب هو «أبناء القرى» المتاخمة لفلسطين المحتلة، ومقاتلوه هم أبناؤها وجمهوره هم بنيتها الاجتماعية، وهكذا هو الحال في سورية. ولا يجب التغافل عن أنّ روسيا ضمانة كبرى تحول دون الاستفراد الأميركي ـ الإسرائيلي. من هنا لا تجوز الاستكانة لدول عربية متواطئة تتهم موسكو بممالأة «إسرائيل» فيما تقيم هي علاقات واسعة معها من دون حياء قومي أو ديني أو تاريخي. بالإضافة إلى الميدان السوري، هناك انسجام روسي ـ إيراني في العراق واختلاف في النظر إلى حرب التحالف الدولي في اليمن، ولاعتبارات تتعلّق بأسواق الطاقة التي تتكئ الموازنات الروسية عليها في بيع النفط والغاز، تجد موسكو نفسها مثالاً للدولة البراجماتية التي تنسق في هذا المجال مع الرياض.. وتسترضيها في مواقف ممالئة لها في حربها في اليمن ضدّ الحوثيين. فروسيا لم تعد دولة ماركسية أيديولوجية لنستنكر سياساتها المجسّدة لمصالحها الاقتصادية. ولماذا نسكتُ عن الدور المصري والسوداني والأردني المتواطئ مع السعودية في مجازر اليمن؟
لذلك تنأى روسيا بنفسها عن أيّ تورّط مباشر وتكتفي بالاعتراف بالدولة اليمنية «المزعومة» المرابطة في السعودية مع الرئيس «المفبرك» هادي اللاجئ إليها.
لجهة العلاقات الدولية، فهناك انسجام روسي ـ إيراني شبه كامل في مجابهة النفوذ الأميركي والدليل أنّ الروس يدفعون باتجاه قبول عضوية إيران في منظمة شانغهاي التي تضمّها إلى الصين والهند وبلدان آسيا الوسطى وفنزويلا. وهذه مؤسسة واعدة وضاغطة تتجه لتشكيل قوة ضغط اقتصادية سياسية تواكب الانهيار التدريجي للأحادية الأميركية. وتسعى إلى إعادة تشكيل النفوذ في الأسواق العالمية على أنساق متطورة.
لكن للدولتين في موسكو وإيران مصالح متضاربة في بعض الأحيان، كحال كلّ الدول حتى الصديقة منها.. ألا يوجد تناقض أميركي ـ أوروبي حول الملف النووي الإيراني بأبعاده الاقتصادية والاستثمارية؟ وهما المتحالفان عضوياً منذ مئة عام على الأقلّ، لذلك يمكن ملاحظة وجود تنافس على غاز البحر المتوسط بين روسيا وإيران.. كما يسعى الطرفان لتسويق إنتاجهما من الغاز في أوروبا وبعض أنحاء العالم العربي، مع ملاحظة أنهما يحتلان المرتبتين الأولى والثانية في إنتاج الغاز في العالم.. لكن طهران تملك حقل «فارس الجنوبي»، أكبر حقل في العالم وتحاول استثماره مع توتال الفرنسي وتسويق إنتاجها في أوروبا. ما يجعلها منافسة للغاز الروسي الذي يلبّي ثلث حاجات أوروبا، وخصوصاً ألمانيا. ويبرز هنا طرف ثالث من وراء الستار، منافساً قوياً في إنتاج الغاز الصخري ويريد بدوره اكتساح الأسواق. وهذا يتطلب منه تعميم مناخات معادية لكلّ من طهران وموسكو، ما يكشف أنّ هذا الطرف هم الأميركيون الذين يحملون وزر تسويق غازهم الصخري الذي صدروا منه في 2017، إلى موانئ أوروبية ما قيمته 75 مليار أورو. ويسعون إلى مسألتين: إقصاء الغاز الروسي من السوق الأوروبية أو تقاسمها على الأقلّ، مع إجهاض عمليات استثمار الغاز في حقول إيران الجديدة. وما انسحاب شركة توتال الفرنسية وواحدة من الشركات النرويجية إلا نتائج الضغوط الأميركية على أوروبا. هناك إذاً صراع ثلاثي أميركي ـ روسي ـ إيراني يبتدئ من جنوب سورية، مروراً بحقول الغاز الجديدة في إيران وما تسعى إليه من مدّ خطوط توريد إلى العراق وسورية وتركيا، وصولاً إلى الغاز الروسي الذي يريد الانتشار التسويقي عبر نجاحه في الميدان السوري والمحافظة على أسواقه الأوروبية. لكن لديه منافسات أميركية.. وإيرانية.. يحاول استخدام منظمة شنغهاي لتثبيت أسواقه في دولها.
ضمن هذا الإطار لا يتورّع الأميركيون عن اللجوء إلى نسف الاتفاق النووي مع إيران كوسيلة لفرض عقوبات عليها.. تمنع الاجتياح الاقتصادي الأوروبي والعالمي لها، بالتهديد بإصابة «المتمرّد» بالعقوبات نفسها، وإلا كيف يمكن تفسير العقوبات الأميركية على إيران.. وروسيا أيضاً، إلا بالرغبة في احتكار أسواق الغاز؟ وكيف نفهم إصرار ترامب على تحريض ألمانيا لعدم الاستيراد من خطوط نقل الغاز عبر البلطيق نوروستريم ؟ وتردّ المستشارة ميركل بتأييد مشروع أنبوب الغاز الروسي بالقول إنّ الغاز الأميركي المسيّل هو أغلى من الغاز الروسي.
لذلك، فالربط إذاً بين معركة جنوب روسيا والصراع على أسواق الغاز، والملف النووي الإيراني، واجب وضروري. فهذه حلقات من صراعات دولية دائمة ترتدي أشكال حروب ومقاطعات وحصار، لكنها لا تهدأ للتطوّرات الاقتصادية التي لا تتوقف بدورها. والعمل على تسعير الصراع الروسي الإيراني ليس إلا إسداء خدمة للأميركيين في حروبهم الاقتصادية التي تستخدم كلّ ما تجده بين أيديها من إرهاب ومقاطعات وحصار ومستعمرات تعمل في خدمتها كحال بلدان الخليج التي تعمل لمصلحة الطغيان الاقتصادي الأميركي وتسعى لتحويل التنافس الروسي ـ الإيراني حرباً من حدود الجولان المحتل وحتى بحر قزوين.. على حساب المصالح العربية والإسلامية.
البناء