الحرب على الفساد في سورية
من الصعب على الدول مهما كانت متقدمة تشخيص أوجه الفساد العائم في أرجائها وردعه، غير أن الفساد السياسي و الإداري والإجتماعي و الأخلاقي و تشعباته ، كالتآمر على سياسات الدولة وإجهاض مؤسساتها ، وإساءة استعمال السلطة وبيع ممتلكات الدولة والعبث بالمال العام والإستمراء في قبول الرشى وتشجيع النفاق الإجتماعي و التغاضي عن تصرف المجموعات التي تروج بيع الجنس والدعارة والإتجار بالمخدرات و سواها ، تشكل الوجه العام للفساد.
بعضاً من مثل هذه الظواهر ، وعلى نحو متباين، تمثل أوجه “الفساد” المنتشر على نطاق واسع في سورية والتي لا يمكننا الوقوف عند أسبابها و الخوض في تفاصيلها وتحديد الجهات المتورطة فيها و رصد آثارها السلبية على المجتمع السوري في هذا المقال المتواضع، بقدر ما يمكن أن نعتبره تلميح عميق يسلط الضوء على هذه الآفة الخبيثة التي يتطلب الإعمال من أجل تقليصها إلى مستويات متدنية جهوداً مكثفة في المرحلة القادمة مع ترك الباب مفتوحاً أمام التائبين. وهي بلا شك من العقبات الكأداء التي تواجه الأداء الإجرائي بعد تخلص سورية من وطأة الحرب.
المرحلة الحرجة التي تمر بها سورية أعجزت الكثير من السوريين الذين بات يؤلمهم الحديث عن الفساد الذي أرهق البلاد أكثر ما بات يؤلمهم الحديث عن الحرب و الدمار و الهجرة و النزوح. فاستغلال الوظيفة والرتبة و النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية أمرغير مقبول مهما كانت الحالة التي تمر بها البلاد لأن الشرف الوظيفي أكان عسكرياً أم مدنياً هو مفخرة مرتبطة بالعقيدة والأخلاق والنظم و المعايير والضوابط ، وتجاوزها يعني إنحراف سلوكي هدام لبنية الدولة و المجتمع. إذ ينبغي معالجة هذه الظاهرة عبر تفعيل الوسائل القانونية و تشجيع القيم والمثل الوطنية ولو كانت ببداية متواضعة.. الحرب على الفساد يجب أن لا تقل ضراوة عن الحرب على الإرهاب فكلاهما ساهما في زعزعة إستقرار سورية! كيف لا ، والمتآمرين على سورية هم زمرة من الفاسدين قبلوا الأموال من أعدائها ، والأسماء كثر نترفع عن ذكرها ، تلك التي لا تقل وزناً عن أسماءٍ تنخر بالبنيان الإجتماعي و مازالت فاعلة بطريقة ما.
***
لايمكن إخفاء الفساد مهما بلغ حجمه صغيراً كان أم كبيراً، غامضاً أو معلناً ، فجميع مؤسسات الدولة و قطاعاتها و الشركات العامة و الخاصة تعاني من هذه الظاهرة المقيتة وأخطرها ما يبدأ من القاعدة الشعبية وهي إبتزاز المواطن من أجل إنجاز إجراءاته ومعاملاته ما يعني شمولية هذه الظاهرة على مستوى الوطن. هذه السلبية من جملة ممارسات أخرى تداخلت مع بعضها لتضع سوريا في الخانة 178 من أصل 180 دولة (أقولها أسفاً) في ذيل التصنيف العالمي – بأعلى مستويات الفساد – والذي أجرته منظمة الشفافية الدولية في العام 2017 لتترك سوريا بعدها فقط دولتي جنوب السودان و الصومال. هذا التصنيف بالطبع يؤدي إلى الإضرار بمصداقية الدولة ومؤسساتها و يؤثر على إمكانية ترويج الإستقرار السياسي الذي تنشده الدولة السورية في المستقبل القريب ، ما حدا ارتباطاً في العام ذاته 2017 إحالة مسؤولين فاسدين إلى المحاسبة و القضاء، وفي العام ذاته أيضاً وضّح الرئيس السوري أن هناك “سلسلة طويلة من الفاسدين” ملمحاً بحديثه عن فساد مسؤولين وأبنائهم ما يعني أن الصحوة السورية لاستعادة الشفافية باتت مطلباً مُلحاً، وتعقيباًعلى جدية مكافحة هذه الظاهرة، يدورالحديث عن تحقيقات تتعلق بثلاثة وزراء(موقع سوريا اليوم 5/6/2018) ما يضع الحصان أمام العربة في إتخاذ خطوات ملموسة وحقيقية. وتأتي زيادة رواتب العسكريين بنسبة 30% كخطوة أولى و قد تلحقها زيادة مرتبات العاملين في الدولة ثم سد احتياجات المواطن بشكل عام ليصار بعدها إلى محاسبة المفسدين وملاحقة كل من يضر بالأمن الاجتماعي والاقتصادي السوري، و “الفساد” يمثل أعلى درجات هذا الضرر.
***
وحتى لا نمتهن التشاؤمية ويكون الحديث سابقاً لأوانه.. علينا أن نتذكر الإيجابيات التي لا تعد و لا تحصى في سوريا رغم سنوات الحرب ’السبع العجاف’ واستمرار التهديدات الإسرائيلية و الغربية والعنجهية الأمريكية في احتلال أراض سورية ، حافظت سوريا على كينونتها وكنهها كدولة مؤسسات استمرت فيها الحياة العملية و الوظيفية والتعليمية بإيقاع لم يتأثر جوهرياً بوقع الحرب ، مقارنة مع دول في مثل وضعها بقيت مفاصل أساسية متاحة ، بقي التعليم مجانياً في المدارس و الجامعات ورغم الغلاء بقي رغيف الخبز والمواد الأولية مخفّضة، وحافظت الليرة السورية على إنهيار نسبي بمقياس معين .
المفارقات كثيرة بالنسبة للكيانات المغامرة وإن حازت على بعض الاستحسان الجماهيري في مناطق متفرقة إلا أنّ هذا المقدار يتنافر مع شرعية هذه الكيانات ، و الإرادة المجتمعية لا تمنح ثقتها للوكالات الأجنبية مهما وفرت لها من سبل الإصلاح، وتتطلع إلى تغيير واقعها على امتداد الرقعة السورية، واقعها المدنس بالفساد وفتح سجلات المفسدين و جرائم المال العام لكي تنتزع برغبتها الكاملة النوايا الصادقة من قبل الدولة بمكافحة هذه الظاهرة ، وحتى لا تتحول محاربة الفساد إلى استراتيجية مضللة للجماهير تقوم من خلالها بعض النخب بممارسة هذه الآلية على هواها الإطاري . فإن هناك رغبة عامة لدى الدولة و المجتمع تنطوي على محاربة الفساد بقدر يساعد على فتح منافذ الشفافية بين المواطن والمؤسسات من جهة، ويوفر برنامج عمل متوازن يمكّن السلطات من تفعيل المحاسبة من جهة أخرى.
و حتى لا ننسى أنّ للتاريخ أنياب وأظافر ، فإنه سيكتب يوماً ما أن سوريا انتصرت على الإرهاب وسيكتب أنها انتصرت على الفساد أيضاً.. فكل شيء بقضاه !
دمتم بخير ،،
د. علي الباشا
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73