الجمعة , نوفمبر 22 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

ماري هاسكل … "أمّ" جبران ومعشوقته التي لا تتكرر

ماري هاسكل … “أمّ” جبران ومعشوقته التي لا تتكرر
أمين سعدي
كان للمرأة دور كبير في حياة جبران خليل جبران وفي تكوين شخصيته. هذا ظهر في جميع مؤلّفاته. ماري هاسكل كانت المرأة التي حملت خصائص الأمّ والحبيبة والبطلة في مساندته الدائمة، والمعشوقة التي لن تتكرّر.
“أنا مديون بكل ما هو أنا إلى المرأة منذ كنت طفلاً حتى الساعة. المرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي. لولا المرأة الأمّ، والشقيقة، والصديقة لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين ينشدون سكينة العالم بغطيطهم”.
كان للمرأة دور كبير في حياة الرسّام والشاعر والفيلسوف اللبناني – الأميركي جبران خليل جبران (1883- 1931)، بل وتكوين شخصيته الفكرية والفنية، أمراً ظهر في جميع مؤلّفاته. كانت ماري هاسكل المرأة التي حملت خصائص الأمّ والحبيبة في نظر جبران، والبطلة في مساندته الدائمة، والمعشوقة التي لن تتكرّر.
كانت تتناقش حول أفكاره المتعلّقة بكتاباته ورسومه وتهتم لأسلوب عيشه، وتسهر على شقيقته مريانا في بوسطن حين يكون متغيّباً في نيويورك. إنها رفيقة جبران في حياته وحتى مماته.
جبران وذاته الحقيقية
في بوسطن عام 1904 الغارقة في أعماق الخريف، زمع طقطقة أوراق الشجر والتاريخ، وفي استوديو المصوِّر والناشر فريد هولاند دايكان التقى جبران وهاسكل خلال حفل افتتاح معرضه الأول لرسومات الفحم في غاليري “هولاند داي”، وكان يبلغ من العمر آنذاك 21 عاماً بينما كانت هاسكل ابنة 31 عاماً.
فتحت هاسكل – رئيسة معهد للإناث في بوسطن – الطريق أمامه لعرض رسوماته في مدرستها، وعرضت إرساله إلى باريس لتعلّم الرسم في أكاديمية جوليان. وسرعان ما وجد نفسه مُعجباً بمواقفها وآرائها وطروحاتها في الفن والأدب والنقد.
وفي رسالة إلى صديق قبل رحيله إلى باريس في 1908، وصف جبران هاسكل بأنها “ملاك يهديني إلى مستقبل مشرق ويشقُ لي طريق النجاح الفكري والماديّ على حد سواء”. بعد وصوله بأيام، خطّ جبران قائلاً: “إن اليوم الذي سأقول فيه لقد أصبحت فناناً بفضل ماري هاسكل قادم لا محالة”.
من فرنسا بدأ جبران بالكتابة إلى هاسكل، وتوطّدت علاقة الصداقة بينهما بقلب مفتوح، ليجد نفسه فناناً وطفلاً ورجلاً بين يد حنون يعبر من خلالها إلى أعمق ما في النفس والروح.
فقد كتب إليها عام 1908: “أقبّل يدك بأجفاني يا أمّ قلبي العزيزة”، ويقول لها في 1920: “نعم يا ماري، إنك أمّ، أم حبيبة جداً”، ويصارحها في العام التالي بأنها الوحيدة في العالم التي يشعر معها أنه طفل مع أمّه.
وهكذا .. اتّسمت علاقة جبران وهاسكل بالشفافية والحقيقة، وفي تورّط عاطفي معقّد امتد لعقود، لكنه يتّصف بالبُعد عن تصنيفات الابتذال. إن هذه العلاقة تفتّحت للحياة في كتاب النبي المعشوق: رسائل خليل جبران وماري هاسكل، ويومياتها الشخصية.
في إحدى رسائله الأولى إلى هاسكل من باريس، ينغمس جبران في ملاذه الوحيد، أعظم هبة للحب، قائلاً: “حينما يعتريني الغمّ، يا عزيزتي ماري، أقرأ مكاتيبك. حينما يغمر السديم “الأنا” في داخلي، آخذ اثنتين أو ثلاثاً من رسائلك من الصندوق الصغير وأعيد قراءتها. إنها تذكّرني بذاتي الحقيقية. إنها تجعلني أبصر كل هين وجميل في هذه الحياة. ينبغي لكل واحدٍ منا، يا عزيزتي ماري، أن يجد ملاذاً في مكان ما. وملاذ روحي جنّة غنّاء حيث تحيا معرفتي بك”.
وفي يوم عيد الميلاد في ذلك العام، كتب ما يلي: “أفكّر فيك اليوم يا صديقتي الحبيبة، كما لا أفكّر في شخصٍ حيٍ آخر. وبينما أفكّر فيك تصبح الحياة أفضل وأكثر جمالاً. أقبّلُ يديك عزيزتي ماري، وبتقبيل يديك أبارك روحي”.
هاسكل .. صديقةٌ حتى الموت!
سجّلت ماري هاسكل الكثير من الأحداث المُتسلسلة في يوميّاتها ومنها ذلك القرار “الراديكالي”بعدم الزواج، والبقاء في علاقة دائمة ومعطاءة كاستثناء وحيد في أعظم مقياس للحب.
كتبت قبل يوم عيد ميلادها السابع والثلاثين في عام 1910: “أمضى خليل الأمسية معي. وأخبرني أنه أحبني ويريد الزواج بي إن أمكن، لكنني أجبت بأن سنّي قد جعل هذا الأمر مستبعداً. قال لي: كلمّا حاولت الاقتراب منك أكثر بالكلام، كلما حاولت أن أكون شخصياً معكِ تلوذين إلى مساحات بعيدة أعجز عن العبور إليها. “لكنني آخذُك معي” قلت. وقلت إنني أرغب أن تدوم صداقتنا، وخشيت إفساد صداقة رائعة من أجل علاقة حب محكومة بالفشل”.
في ربيع العام 1911 كتبت هاسكل في يوميّاتها بقلب مُحبة تكتفي بوجود جبران إلى جانبها:”لقد بزغ سنّي كحاجز بيننا ومانعاً لزواجنا. لا يقوم اعتراضي على سنّي – وإنما على حقيقة أن جبران ينتظر مني حباً يختلف عن ذلك الذي يكنّه لي، وذلك سيكون زواجه”. ووضعت قرارها العاطفي الصعب والحاسِم أمام جبران : “ولكي يعيش جبران هكذا حب، فأنا لست سوى مرحلة. ومع أنّ عيني المرهفتين تذرفان الدمع، إلا أنني أفكر فيها بسرور، ولا أريد أن أحظى بخليل، لأنني أعلم أنها تكبر من أجله في مكان ما من هذا العالم، وهو يكبر من أجلها أيضا”.
أخذت ماري هاسكل تسرد بنبل خالص، وبكل شغف وشاعريّة ما جرى من ترابط شعوري بينها وبين جبران، أدّى لأن يبقيا على مسافة أقرب أكثر من ذي قبل مثل شراكة بلا زواج، وكتبت:
“ذرف دمعه وأعطيته منديلاً. وبعد عدد من محاولات الكلام قال لي بانكسار: ماري، إنك تعلمين أنني لا أجيد الكلام حينما أكون في حالة كهذه. وبالكاد كلمة أخرى. ثمّ أردف قائلاً إنه سيحبني. حينما انتهى الأمر فتحت له ذراعيّ وسرعان ما أخذني إلى ذراعيه هو (….) بعدها بقليل أرسيت شفتيّ على كتفه الأيمن. لقد قبّلت تلك اليد الحانية كما كنت أتوق لأن أفعل دوماً، لكنني كنت أثني نفسي عن ذلك، لأن أدنى لمسة على يده تدفعه لتقبيل يدي (…) مجدّداً عند الباب بكيت قليلاً – بينما مسح دمعي، قائلاً : ماري – ماري – يا ماري، لقد منحتني قلباً جديداً هذه الليلة”.
دعيني أصرخ بكل الأصوات داخلي أحبك
“أتعلمين معنى أن نحترق ونحترق، وأن نعرف أننا أثناء احتراقنا هذا، إنمّا نحرّر أنفسنا من كل شيء حولنا؟ أن لا بهجة ترقى إلى بهجة النار! والآن دعيني أصرخ بكل الأصوات داخلي أحبك”، هكذا يعبّر جبران عن شوقه وولع الحنين في بوح شغوف هادئ نابع عن كينونته، فتأتي هاسكل تصوغ الجمال من حرارة القلب وبطريقة “صوفية”: “الرب يُقرضني قلبه لكي أحبك. وقد سألته قلبه حينما وجدت قلبي ضئيلاً جداً، وهو يحتويك بصدق، يترك لك حجرة ستكبُر”.
وفي تشرين الأول/أكتوبر عام 1912 شدّ جبران – خلال تعرّضه للمرض – ذلك الحب المتين على قلبه، وكتب: “أحب أن أكون صامتاً معكِ، ماري”. فتردّ عليه لتجعله يطمئن: “إن غدك عزيز عليّ كما هو يومك ـ لكن ليست لي رغبة في التنبؤ عن مستقبلك ـ كل ما أرغب فيه هو أن أكتشفك. لا، ليس بوسعك أن تخيّب أملي ـ مثلما ليس بوسع أيّ حقيقة أخرى أن تخيّب الأمل”.
وفي رسالة أخرى: “في هذه الأيام حينما تكون غير قادر على العمل فأنت تنجزه، وتكون جزءاً منه، كالأيام التي تكون فيها قادراً على العمل. لا فارق. (…) سيُقرأ صمتك مع كلماتك يوماً ما، ستكون ظلمتك جزءاً من النور”.
بالرغم من زواج ماري هاسكل عام 1926، استمرت صداقتها الأبدية مع جبران خليل جبران، بل بقيت الصلة بينهما قوية لا يطالها حاجز أو موت. فحتى بعد وفاته في ربيع عام 1931، تصرّفت ماري باسمه، وتمكّنت من إرسال أعماله الفنية إلى مسقط رأسه لبنان. وحقّقت بذلك المهمة التي حدّدتها في يوميات عام 1894:
“إن حياتي أصدق تعبير عني. لذا، انتبهي لأفعالك، يا امرأة، وصلِّي كي تكون حياتك جديرة بالعالم الإلهي؛ (…) فكما أن حياتك على وئام أو خصام مع تناغم الله وغايته، كذلك تسهمين في إعمار الكون أو في فنائه”.
الميادين