وردة شامية: عندما شربت نساء دمشق من طاسة الرعبة!
ثالوث يرتكز عليه مسلسل حمل عنوان (وردة شامية)، لمخرجه تامر إسحاق، وكاتبه مروان قاووق، ثالوث الدم والذهب والنساء هذا، لم يترك صورة بريئة عن دمشق إلا وتعمّد تشويهها وصبغها بدماء نساء الشام، مزوّراً تاريخ وعطر الوردة الشامية التي لطالما تحدث عنها الشعراء والرحالة والمؤرخون، فذكرها كل من شكسبير: (جميلة كوردة دمشق) في إحدى مسرحياته، وتكلم عنها هوميروس في (الإلياذة) و(الأوديسة)، وتغنت بها الشاعرة الإغريقية (سافو) بقصائدها في الألف السادس قبل الميلاد. الوردة الشامية التي تعمّد القائمون على إنتاج هذا المسلسل اللئيم، خنقها وجعلها مرتبطة بالجريمة والقتل والعنف في عمل أقل ما يقال عنه، بأنه فاق في خطورة طرحه كل الأعمال التي يطلق عليها أعمال (بيئة شامية)، لكن ما وجه الخطورة في الموضوع، ولماذا نتكلم عنه بهذه الحدة؟
العمل أولاً وكما بات معروفاً مأخوذ عن أعمال مصرية تناولت حادثة واقعية جرت مطلع القرن العشرين في مدينة الإسكندرية، وفيها يستعيد (وردة شامية) حكاية (رية وسكينة) الشقيقتان المدمنتان على اختطاف النساء، وقتلهن وسرقة مصاغهن. حتى هنا لا ننكر بأن من حق الدراما أن تكون حرة في خياراتها، ولا نصادر على أحد هذا الحق، سواء كان جهة إنتاجية أو كاتب أو مخرج، لكن هل من المعقول أن ينحصر الخيار في استحضار كل هذه الجرائم إلى حارة دمشقية، ثم لماذا تقصّد القائمون على إنتاج هذا العمل اختيار (وردة شامية) كعنوان له؟! هل أراد هؤلاء أن يدونوا في ذاكرة المشاهد العربي جريمة حدثت منذ قرن تقريباً باسم الشام وورودها؟ يقولون القصة خيالية! حسناً، سنتقول لهم الآتي: عندما يستخدم عمل تلفزيوني الأزياء واللهجة وشكل العمارة وأنماط العيش والعادات والتقاليد، ويحدد المكان الذي تجري فيه الأحداث، ويجعل له سياقاً تاريخياً مرتبطاً بفترة الاحتلال العثماني لسورية، سيصبح من الصعب أن نقول عن هذا العمل بأنه عملٌ خيالي، فلا المكان ولا الظروف ولا عنوان العرض التلفزيوني من نسج الخيال، فاستخدام كل العناصر الآنفة الذكر ضمن الكادر التلفزيوني، تصعّب علينا أن نقول عن كل هذا بأنه خيارٌ بريء. إن العمل فنياً لا يحتمل نقداً فنياً جدياً، فالحبكة الكرتونية وغباء الشخصيات وسذاجتها، وتكرار إدخال المشاهد في المتوقع والمنتظر، مع كل ضحية نسائية تساق إلى حتفها مع كل حلقة، يجعل الحديث عن الرداءة في الكتابة أمراً نافلاً، لكن المهم هنا هو هذا الكابوس الذي ينقله مخرج العمل عن مكان مثل مدينة دمشق، عن كمية الدماء التي سالت وعن صرخات الضحايا داخل دهليز الحارة الدمشقية. المكان الذي يعرف سكانه وزواره بأنه مخالف تماماً لما حاول (وردة شامية) تصويره على مدار ثلاثين ساعة تلفزيونية. الجميع يعرف أن الحارة الشامية هي مكان استثنائي للعيش المشترك، والذي يعكس مستويات من حياة تراثية وجمالية وثقافية، سواء على صعيد العمارة وعبقرية مهندسيها، أو حتى عبر تفوق البيت الدمشقي كصديق للبيئة، أجل البيت الدمشقي الذي حوّله كل من (قاووق) و(إسحاق) بتمويل من شركة (غولدن لاين) إلى مقبرة نساء، فـ (بيت المونة) صار جبّانة، و(غرفة الطيارة) صارت لعقد الدسائس وهندسة الجرائم، و(بحرة الماء) طافت بالدم، وياسمينة البيت ونارنجته سقيت من دماء النساء المقتولات في إيوان البيت. الزجاج المعشق الملون صار كله بلون الدماء التي طرشت جدرانه المبنية بالحجر الأبلق.
كل هذا ويقولون قصتنا خيالية، أجل هي خيالية، لكنها تحدث في مكان معلوم وموصوف، مكان ما فتئ منتجو ومخرجو وكتّاب دراما (البيئة الشامية) من تزويره وتشويهه مسلسلا وراء مسلسل، وكل هذا يجري على مزاج السوق التي تريد أن تستثمر في كل شيء. فالحارة الدمشقية التي تشبه الرحم، صارت في مسلسلات الدم هذه عبارة عن مكان لمهرجانات الخناجر والزعران وأولاد آدو. جرائم متشابهة في استدراج الضحايا وليّ عنق الأحداث لمطها على ثلاثين ساعة فرجة، ألف باء الكتابة غير متوفر هنا، وكل من (شكران مرتجى- شامية) و(سلافة معمار- وردة) و(سلوم حداد- عاصم) في أسوء أدوارهم على الإطلاق. فمن غير المعروف كيف ولماذا يقومون بهذا الحجم من الشر المطلق؟ وهذه السادية العجيبة في ضعضعة النسوة اللاتي يصطادوهن بكل سهولة؟ الضحايا هنا مضحكات ولا يجلبن أي تعاطف، فالتركيز دائماً جاء على تنفيذ أكبر قدر من القتل، وبطريقة كاريكاتورية دفعت المشاهد إلى انتظار الضحية التالية. مما يجعل المسلسل ينتهي من الحلقات الخمس الأولى. فما داعي الاستمرار في تكرار الجرائم الساذجة على هذا المنوال المثير للرثاء والشفقة؟
سؤال نتركه لصناع (وردة شامية) هؤلاء الذين تطاردهم أرواح ضحاياهم الجميلات، المبنجات بالكركديه والقهوة الثقيلة، وهل فعلاً ستصدق أيها الجمهور كل ما جرى من وحشية ورعب بحق نساء دمشق الهانئات الوادعات؟ بحق أمهات ترافق دعواتهن الطيبة أبنائهن حتى باب البيت؟ هل ستصدق أيها الجمهور الكريم كل هذا الافتئات والافتراء على امرأة شامية كانت وما زالت عنواناً للأنوثة والرقة والحب؟ عن نفسي أقول: لن أصدق أن نساء دمشق صرن سفاحات ودمويات وعصابيات كما قدمهن (وردة شامية)، كما أنني لم ولن أصدق أن (طباخات روحه) لن يحملن (طاسة الرعبة) ويسقين كباد بيوتهن وهنَّ يشاهدن كل هذا البغاء المقرف بحق (ورودهن الشامية)؟!
سامر محمد إسماعيل – جريدة الأيام
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73