ماذا يعني تجاهل سورية عرض نتنياهو ؟
ناصر قنديل
– ما إن وضعت الحرب في الغوطة أوزارها ورسمت مشهد سورية الجديد حتى دخلت القيادات والإعلام في كيان الاحتلال في خطاب سياسي إعلامي جديد. واضح أنه مدروس ومنسّق، وواضح أنه يشكل خلاصة قراءة المسار الافتراضي المقبل لسورية. مسار لا مكان فيه لأوهام تغيير موازين القوى. مسار ستكون اليد العليا فيه للدولة السورية وجيشها ورئيسها. مسار لا تنفع معه المكابرة والإنكار لجهة مصير مشروع الحرب على سورية وإصابته بالفشل، والخطاب الجديد يقوم على ثلاثية، ركيزتها الأولى إشهار هذا الاعتراف بالحقيقة السورية، حقيقة تدحرج الانتصارات السورية واستحالة صدّها، وركيزتها الثانية إعلان الاستعداد للعودة إلى تفاهم فك الاشتباك الموقع عام 1974 والذي أسقطته «إسرائيل» علناً وعمداً لاستبداله بخطّتها الجاهزة لبناء حزام أمني، بالتعاون مع تنظيم القاعدة بفرعها السوري المسمّى جبهة النصرة، كقوة صلبة متماسكة عقائدية تراهن «إسرائيل» على صناعة استقرار حدودي لعقود بوجودها، وتشكل درعا قلبها بعد طول استثمار على التلاعب بأوراق الجنوب السوري بشراكة إسرائيلية سعودية قطرية أميركية بريطانية كتب عنها الكثير وسيكتب عنها أكثر. أما الركيزة الثالثة فكانت ربط مشروع تسوية تنتهي بانتشار الجيش السوري بالتراضي في الجنوب باشتراط يتراوح بين الانسحاب الكامل لإيران وحزب الله من سورية، والانسحاب من الجنوب بعمق يتراوح بين 25 و40 كلم. وحده الأدنى عدم مواكبة الجيش السوري في المناطق التي سيدخلها بموجب التسوية بوحدات من حزب الله أو من إيران.
– تزامن وتكثف الحراك الإسرائيلي مع محاولات عسكرية واضحة لتصعيد الغارات، والتهديدات المعلنة والمحددة باستهداف الحضور الإيراني وتسليح حزب الله، وبلغة سقفها أعلى بكثير مما كشفته المواجهات المتراكمة عبر سنوات الحرب السورية، من حدود القدرة الإسرائيلية، بصورة أراد قادة الكيان فيها استعارة الأسلوب السوري في الذهاب إلى حافة الهاوية تفاوضياً، تحت شعار إما قبول العرض المفتوح أو المواجهة المفتوحة. ومع تجاهل الدولة السورية كلياً للعرض الإسرائيلي، رغم تبنيه أميركياً ودمج الانسحاب من القاعدة الأميركية في التنف كجزء من العرض، إدراكاً بأن الوظيفة الجوهرية للوجود الأميركي تندرج تحت عنوان تخديم مشروع الأمن الإسرائيلي، وارتضاء ضمني لمعادلة ستشكل نموذجاً قابلاً للتكرار في الشمال السوري، وسعياً للحصول على شراكة روسية في تفعيل الخيار التفاوضي تحت هذا العنوان. وبقيت الدولة السورية تتحدّث بلغتها الخاصة عن مفهوم التسويات التقليدي وهي تتقدّم نحو الجنوب بحشودها، من دون ذكر ما يتصل بجواب ترصد «إسرائيل» بين السطور لقراءة أي إشارة، حول مستقبل الوضع على الحدود بعد انتشار الجيش السوري وزوال أيّ دور للجماعات المسلّحة. وعندما مرّ من الوقت ما يكفي لمنح فرص القبول بشروط التسوية من الجماعات المسلحة، بدأ الهجوم العسكري السوري، غير آبه بتهديدات علنية أميركية صادرة عن وزارة الدفاع تحذّر من هزّ الوضع في الجنوب السوري.
– جاءت الانتصارات المبهرة بسرعتها ونوعيتها، لصالح الجيش السوري، واصل الإسرائيليون خطتهم المثلثة، الاعتراف بالنصر السوري، وربط تسهيل انتشار الجيش السوري بعدم مشاركة حزب الله والإيرانيين. وخرج رئيس حكومة الاحتلال هذه المرة يجدد العرض بالعودة لاتفاق فك الاشتباك، لكن سورية لم تعلّق ولم تقل كيف ستتصرّف عندما تصل حدود الجولان، وتقف وجهاً لوجه مع قوات الاحتلال، لكن الإشارة الوحيدة التي قدّمتها سورية، هي مشاركة حزب الله والقوات الرديفة التي يقودها مستشارون إيرانيون في معارك الجنوب إلى جانب الجيش السوري. وفي ظل دعم روسي ناري توقع الأميركيون والإسرائيليون غيابه في جبهة الجنوب. وخابت آمالهم كما في كل مرة يقرّر الجيش السوري روزنامة معركة تحرير جديدة. وجاءت الغارة الإسرائيلية على مطار التيفور وردّت سورية، وربما تتكرر الغارات ويتكرّر الرد ويكون أشدّ وأقوى. وقد بات واضحاً أن سورية تتقصّد الغموض تجاه مستقبل جبهة الجولان.
– سيبقى الإسرائيليون والأميركيون على أعصابهم وقتاً طويلاً لمعرفة ماذا تريد سورية. فربما يكون للتجاهل سبب مباشر يتصل بالبعد السيادي لمفهوم الدولة السورية، حيث لا يمكن القبول بإخضاع انتشار الجيش السوري في الجغرافيا السورية بمساومات وشروط تجعل «إسرائيل» شريكاً في أمن جزء من سورية، وشريكاً في بسط السيادة السورية. وتصرّ سورية على المضي بالعمل العسكري وصولاً لحدود الجولان لاسترداد السيادة بقرار سوري وقدرة سورية، وعلى الآخرين، وخصوصاً «إسرائيل» إما المواجهة أو الانكفاء، ولكن ماذا لو لم تقل سورية شيئاً حتى بعد بلوغ حدود الجولان؟ عندها على «إسرائيل» أن تنتظر أيضاً. فربما يكون للاستمرار في التجاهل سبب سيادي آخر لا يقل أهمية، وهو أن بعض الجغرافيا السورية لا يزال محتلاً في الشمال، ولن تلتفت سورية لبحث مستقبل التفاهمات الحدودية إلا بزوال كل العبث الحدودي أميركياً كان أم تركياً، وخصوصاً إسرائيلياً. لكن ماذا لو أنهت سورية بسط سيطرتها شمالاً وواصلت التجاهل، هنا على الإسرائيليين أن يبدأوا بالقلق، لأنه ربما تكون سورية قد قرّرت أن تضع مصير الجولان المحتل على الطاولة قبل الذهاب لخطة إعادة الإعمار، توفيراً لخسائر الحروب على العمران واستثماراً للحال المادية والمعنوية والتسليحية والميدانية للجيش والحلفاء، وطالما أن «إسرائيل» هي مَن أسقط فك الاشتباك، فالبحث عن بديل يقوم على المعطيات الجديدة يرتبط بحسم وضع الاحتلال في الجولان.
– يذهب دونالد ترامب إلى هلسنكي حاملاً هذه الأسئلة والهموم الإسرائيلية. فهل يصير انسحاب إيران وحزب الله من سورية مرتبطاً بانسحاب «إسرائيل» من الجولان، في زمن السعي الإسرائيلي للحصول على اعتراف أميركي بضمّه أسوة بالقدس؟ فلا تبقى معادلة ربط وجود إيران وحزب الله بالانسحاب الأميركي من سورية وإنهاء العبث بالجغرافيا السورية عبر بوابات الحدود فقط. فهذه فواتير ستستحق تباعاً مع التقدم السوري جنوباً وانتقاله إلى الشمال. فهل تقرّر أميركا و»إسرائيل» المواجهة التي تمّ تفاديها في ظروف أفضل أم تفضلان الانكفاء لصالح عملية سياسية ترعاها روسيا، بهزيمة تحفظ بعضاً قليلاً من ماء الوجه، وارتضاء بعض القلق بدلاً من كثير من الذعر؟
البناء