كيف ستعيد الحكومة أموال السوريين من المصارف اللبنانية؟
تزيد ودائع السوريين في لبنان على ضعف قيم ودائعهم في المصارف العاملة في سورية (6 مصارف عامة و14 مصرفاً خاصاً)، وذلك في حدّها الأدنى، بناء على تقديرات لمنظمة الأمم المتحدة وخبراء محليين ومصادر اقتصادية لبنانية وإحصائيات سورية رسمية.
في التفصيل، تفيد بيانات المجموعة الإحصائية لعام 2017 التي أصدرها المكتب المركزي للإحصاء في سورية أن إجمالي ودائع المصارف العامة الستة حتى نهاية العام 2016 قد بلغت 1380 مليار ليرة، سورية، على حين بلغ إجمالي ودائع الزبائن في المصارف الخاصة العاملة في سورية نحو 795 مليار ليرة سورية حتى نهاية 2017، وذلك بحسب البيانات المالية السنوية للمصارف الخاصة المفصح عنها، أي إن الإجمالي نحو 2175 مليار ليرة، مع احتمال ارتفاع الرقم إلى 2.2 ترليون ليرة نظراً لزيادة الودائع في المصارف العامة خلال 2017، تقديرياً، وعلى وسطي سعر الصرف الرسمي عام 2017 (436 ليرة للدولار تقريباً) نكون أمام ودائع تعادل نحو 5 مليارات دولار أميركي (تقديرياً).
في المقابل أفاد تقرير سابق لمنظمة الأمم المتحدة، أن مجموع الأموال السورية المهاجرة إلى دول الجوار تبلغ نحو 22 مليار دولار في نهاية 2015، مع توقعات لخبراء محليين (في تصريحات سابقة نشرتها «الوطن») بزيادة الرقم إلى نحو 23 أو 24 مليار دولار لأن حركة خروج الأموال من سورية بدأت بشكل أساسي خلال عامي 2012 و2013 حتى نهاية عام 2014، على حين بدأت الحركة بالانخفاض حتى ضعفت بشكل كبير فيما بعد، وقدّرت الأموال السورية في لبنان حتى نهاية عام 2010 بنحو 16 مليار دولار، منها 12 بالمئة ودائع مصرفية (1.92 مليار دولار)، وبحسب منظمة «الإسكوا» بلغت الأموال التي أدخلها السوريون إلى لبنان حتى نهاية عام 2015 نحو 11 مليار دولار، ولكن وفق مصادر اقتصادية في لبنان فإنها تبلغ بين 15 و18 مليار دولار.
في ذلك الوقت، لوحظ ارتفاع احتياطي مصرف لبنان 8 مليارات دولار من 29 مليار إلى 37 مليار، في فترة شهدت انخفاضاً في واردات السياحة وضعف التحويلات من الخليج وأوروبا، ما دل في حينها أن مصدرها سورية، ما يعني أن الحدّ الأدنى لودائع السوريين في المصارف اللبنانية يقترب من 10 مليارات دولار، مع احتمال كبير لأن يكون المبلغ أكبر من ذلك، وهذا ما نقلته وسائل إعلامية محلية عن مصادر مصرفية بأن الرقم يصل إلى 20 مليار دولار، لكننا لم نتمكن من توثيق ذلك الرقم وفق البيانات المتاحة، لذا نعتمد الحدّ الأدنى وهو 10 مليارات دولار، وهو ما يشكل نحو 6 بالمئة من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية (173.5 مليار دولار حتى نهاية تشرين الأول 2017 بحسب بيانات مصرف لبنان).
صورة اقتصادية للبنان
يعاني لبنان تداعيات أزمة اقتصادية مصرفية برزت بشكل ملموس مع العام 2017، وذلك باعتراف قادة القطاع المصرفي فيه، نتج عنها تراجع في الإيداعات بالعملات الأجنبية في المصارف اللبنانية، وانخفاض دولرة القروض إلى 69.8 بالمئة، وانخفاض في الائتمان العام، رافقه ارتفاع في أسعار الفوائد بين 2-3 بالمئة على الودائع بالعملة المحلية، وبنسبة أقل على ودائع القطع الأجنبي، وذلك بحسب التقرير الاقتصادي للربع الأول 2018 الصادر عن بنك عودة.
يهدف ذلك إلى زيادة التركيز على الودائع بالليرة اللبنانية، وبالتالي تشجيع اللبنانيين على عدم سحب ودائعهم، وفي الإقراض؛ فإن التوجه هو لزيادة منح الائتمان للقطاع الخاص، إذ من المعلوم أن أغلب تعاملات المصارف اللبنانية هي مع القطاع العام لتمويل الحكومة، وهذا ما يرفع المخاطر من أي عجز حكومي عن السداد.
المخاوف المصرفية الحقيقية أفصح عنها صراحة رئيس جمعية مصارف لبنان جوزيف طربيه خلال كلمته في الجمعية العمومية السنوية منذ أيام مشيراً إلى تواصل الضغوط الضريبية على القطاع المصرفي مع صدور القانون رقم 64 عام 2017 الذي «استحدث سيلاً من الضرائب الجديدة التي انعكست بمعظمها على القطاع المصرفي، فارتفعت أسعار الفوائد ورفعت معها كلف تمويل الاقتصاد بمختلف قطاعاته».
وتضمن القانون تعديلات على القانون المتعلق بالضريبة على الفوائد، أحدث بعضها «ازدواجاً ضريبياً مستغرباً»، ورفعت عملياً «الضرائب على المصارف إلى مستويات قياسية».
ترافق ذلك مع معدّل نمو ضعيف للاقتصاد اللبناني وفق تقديرات بأن يتراوح بين 1.2 بالمئة و2.5 بالمئة عام 2017، الأمر الذي وصفه طربيه بأنه «يبقى غير كاف لتأمين فرص عمل جديدة بالوتيرة المطلوبة»، ترافق ذلك مع ارتفاع الدين العام إلى حدّ كبير قارب 151 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي اللبناني، «مما ينطوي على أكلاف باهظة في غياب المعالجات، ويستدعي برنامجاً للتصحيح المالي طال انتظاره لتثبيت مستوى المديونية ثم تراجعها»، والكلام لطربيه، الذي اعترف بخروج فقط 2 بالمئة من الودائع، واصفاً الأمر بـ«غير المؤثر».
في المقابل، هناك العديد من التقارير الاقتصادية والإعلامية اللبنانية التي تحذّر من تراجع مستويات الاستهلاك والاستثمار في لبنان خلال السنوات الماضية، رغم استقبال البلد لمليارات الدولارات القادمة عبر سورية وغير بلدان، ما يشكل معضلة اقتصادية كبيرة.
اتجاه محق
أمام هذا الواقع، يحق للحكومة السورية العمل لاستقطاب أموال السوريين في الخارج، وغير السوريين أيضاً، من خلال المنافسة في العمل المصرفي، في المنطقة، وذلك باتباع سياسة اقتصادية ومالية ونقدية ذكية، مشجعة على استقطاب رؤوس الأموال، وتضمن توفير الثقة لصاحب رأس المال، بعد الانتصارات الكبيرة التي يحققها الجيش في الميدان، في محاولة للاستفادة من الظروف التي يهيئها الواقع الاقتصادي في المنطقة، إلا أن ذلك ليس بالأمر السهل بتاتاً، فالسياسة التسليفية في سورية تعاني الكثير من نقط الضعف، حتى أن التسليفات تقل عن الودائع، وبعض المصارف لا تقبل ودائع لعدم وجود تشغيل لها؛ يحقق الربح، بسبب تداعيات الحرب، وعدم وضوح التسهيلات المصرفية المقرة مؤخراً والمشجعة على الإقراض، فوحدها قروض الدخل المحدود هي التي تشكل 27 بالمئة من إجمالي تسليفات المصارف العامة.
لذا حري بالحكومة التفكير بطرق اقتصادية سليمة، لإحداث تغيير جذري، ليس في هيكلية المصارف العامة، فقط، وإنما في العقلية التي تدير القطاع، وتأمين بيئة اقتصادية مناسبة، تخدم المنافسة في القطاع المصرفي على مستوى الإقليم، وفق مخطط زمني تدريجي مدروس.
بدايةً، إن التوجه لاستقطاب رؤوس الأموال، يتطلب إجراءات سريعة، تقتضي بتحرير حركة رؤوس الأموال، وتضمن استقرار سعر الصرف، مقابل التضحية باستقلالية المصرف المركزي في مجال تحديد معدلات الفائدة، فبدلاً من أن تحدد لتخدم السياسات الاقتصادية العامة، يصبح تحديدها من أجل استقطاب رؤوس الأموال في دول الجوار، وهذا شبه محقق حالياً من جهة معدلات الفائدة وليس الاستقلالية بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث أسعار الفائدة أعلى من دول الجوار نسبياً، وتتراوح بين 9 و14 بالمئة، على أن يترافق ذلك مع فتح باب الإقراض على مصراعيه بشكل جدي وفعال، أمام المستثمرين والراغبين في العمل في البلد مع بدء استعادة عافية الاقتصاد، وتوقع معدلات نمو مدفوعة بزيادة الاستثمارات بعد الحرب.
حري بالحكومة أيضاً الاستفادة من تجارب المناطق الحرة المصرفية، وذلك بإنشاء مثل هذه المنطقة بهدف تأمين استقطاب رؤوس الأموال إلى المناطق الحرة بأقل كلف ممكنة، وبضمانات وإعفاءات تحددها المناطق الحرة، التي تشكل ضماناً للمودعين.
يجدر التوضيح أن السياق ليس للاستفادة من الضعف الاقتصادي في دول الجوار وخاصة لبنان، وإنما للتعلم من الدروس التي خلفتها أزمات المنطقة في الجانب الاقتصادي، لخلق تنافسية في بعض القطاعات الاقتصادية، أملاً في أن تمر الأزمة على لبنان بخير، وبأقل خسائر ممكنة.
الوطن