قمة هلسنكي.. نحو نظام عالمي جديد
سركيس ابو زيد
قمة ھلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين كان لھا وقع سيئ في الولايات المتحدة. وكان التفاعل معھا سلبيا في أوساط الكونغرس بشقيه الديمقراطي والجمھوري. ھذه القمة أثارت حفيظة مراكز صنع القرار في واشنطن الذين عبّروا عن استيائھم من النتائج ومن إرتكاب ترامب مخالفات استراتيجية وتكتيكية فادحة، ما دفع بالمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية (سي. أي إيه) جون برينان للقول إن تصريحات ترامب أكدت “أنه في جيب بوتين تماما”.
انعقد اللقاء في ظل حرب عسكرية واقتصادية يخوضھا الرجلان كل على طريقته
هذا اللقاء اكتسب أهميته في كونه يجمع زعيمين قويين يسعى كل منھما الى تكريس شعاره في استعادة قوة بلاده وجعلھا في الصف الأول، حيث انعقد اللقاء في ظل حرب عسكرية واقتصادية يخوضھا الرجلان كل على طريقته. فالرئيسان وصلا الى ھلسنكي على وقع تطورات كبيرة في العالم مع تفجر حرب اقتصادية تجارية بين أميركا وكل من الصين والاتحاد الأوروبي، ومعركة ما بعد الخروج الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، وأيضا على وقع تطورات ساخنة في المنطقة، أهمها سوريا.
أنظار الشرق الأوسط والعالم اتجهت الى ما يمكن أن تسفر عنه قمة ھلسنكي بالنسبة الى سوريا، حيث الأرضية المشتركة الأكثر وضوحا بين الطرفين. وفي قراءة سريعة في وقائع وأجواء قمة ھلسنكي، يمكن الخروج بالاستنتاجات التالية:
1- كان لقاء ناجحا باعتراف الطرفين اللذين خرجا بانطباعات إيجابية ومريحة.
2- سوريا بدت مركز التلاقي الأوضح بين الجانبين اللذين التقيا عند نقاط عدة مھمة:
– الاتفاق على توفير أمن الكيان الاسرائيلي.
– التنسيق العسكري بين الجيشين الأميركي والروسي، في إشارة الى خط التنسيق الذي تستخدمه القوات الأميركية والروسية لتجنب وقوع مواجھة غير مقصودة على أرض سوريا أو في أجوائھا.
– العودة الى التطبيق الكامل لاتفاق فصل القوات السورية والإسرائيلية في الجولان في تأكيد لعودة الوضع في الجولان الى ما كان عليه قبل الحرب السورية.
3- إيران ھي مركز التنافر والمجال الأقل وضوحا في المساحة المشتركة التي رسمتھا قمة ھلسنكي. فقد ظھر اختلاف بين الزعيمين حول موضوع الاتفاق النووي الإيراني، وكرر بوتين اعتراضه المعروف على نقض الولايات المتحدة للاتفاق النووي وانسحابھا الأحادي منه، أما في شأن وجود إيران ودورھا في سوريا، فكان الغموض سيد الموقف الذي اختصره ترامب بھذه الكلمات “سوريا مشكلة معقدة، ستتعاون أميركا وروسيا في إيجاد حل لھا”.
4- ترامب الذي أظھر ودا تجاه بوتين ومرونة لامست حدود الضعف، دافع عن روسيا في موضوع تدخلھا في الانتخابات الرئاسية الأميركية وقال: “لا أرى أي سبب يدفع الى الاعتقاد بأن الروس تدخلوا في الانتخابات الرئاسية عام 2016″.
ھذا الموقف أثار عاصفة من الانتقادات في الولايات المتحدة وفتح الباب أمام ھجوم سياسي عنيف من قادة الحزب الديمقراطي الذين وصفوا أداء ترامب في المؤتمر الصحفي المشترك مع بوتين بأنه معيب، وأنه قام بتقوية خصومنا وإضعاف دفاعاتنا ودفاعات حلفائنا”، وقالوا إنه لم يحصل في تاريخ أميركا أن قام رئيس للولايات المتحدة بتأييد خصم لھا كما فعل ترامب مع بوتين، ھذا الموقف عكس قلق نخب أميركية من حجم تأثير بوتين على ترامب، كما يكشف الھوة في العلاقة بين ترامب والمؤسسة الأمنية العسكرية الاستخباراتية الأميركية المتمسكة بالثوابت الاستراتيجية في العلاقة مع روسيا. وھناك فجوة أخرى قائمة بين رغبة ترامب في إقامة علاقات جيدة مع روسيا وبين السياسات الفعلية لإدارته التي حافظت على العقوبات المفروضة على روسيا إثر ضمھا شبه جزيرة القرم لروسيا والقوات الموالية لھا.
الرئيس ترامب راغب في إقامة علاقة شخصية طيبة مع بوتين
في تقدير محللين أميركيين أن الرئيس ترامب راغب في إقامة علاقة شخصية طيبة مع بوتين الذي يرى من جانبه ما يرغب به ترامب، ومن المرجح أن يستغل ذلك للضغط من أجل إنھاء العقوبات، من دون أن يظھر مؤشرات ضعف، ومع ذلك ليس من السھل رفع العقوبات التي صوّت عليھا كونغرس يسيطر عليه الجمھوريون، وسيحتاج ترامب الى أمر ما ليتمكن من إقناع الكونغرس.
في المقابل، فإن التقييم العام في” الكيان الاسرائيلي يعاكس ويميل الى “الإيجابية والارتياح”، إستنادا الى إعلان بوتين استعداده واتفاقه مع ترامب لتأمين الحدود بين الأراضي المحتلة وسوريا، وفقا لاتفاقية فصل القوات بين الطرفين منذ العام 1974.
لكن الإرتياح الإسرائيلي ظل مشوبا بالحذر بسبب حالة عدم اليقين في شأن الموقف الروسي وعدم الثقة ببوتين، وعدم استعداده أو عدم قدرته على ممارسة ضغوط على إيران لإخراجھا من سوريا. أوساط عسكرية في “تل أبيب” أبدت تحفظاً على ھذه اللھجة المتفائلة، وقالت “خلافا لادعاءات جھات سياسية إسرائيلية بأن روسيا تعمل على إبعاد إيران عن الحدود، فإن المعلومات المتوفرة لدى الجيش الإسرائيلي تقول إن الروس وفروا غطاء جوياً للقوات البرية التي عملت في منطقة درعا، وضمت بالإضافة إلى قوات النظام السوري عناصر عديدة من حزب لله اللبناني والقوى الموالية لإيران”.
من الواضح، أن روسيا أصبحت شريكا إقليميا لا غنى عنه يساعد في حفظ التوازن، ولقد نجح بوتين في إخضاع أعدائه من دون قتال، واتخذ موقفا حاسما في سوريا بأقل تكلفة ممكنة، والآن يبدو أن ترامب سيؤكد انتصار بوتين الكبير في سوريا، خاصة وأن بوتين ھو الرابح من قمة ھلسنكي التي كرّسته لاعبا دوليا أساسيا، وأحيت النديّة في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وأطلقت مسار شراكة روسية – أميركية في المنطقة والعالم، الى درجة يمكن القول إن ما بعد قمة ھلسنكي لن يكون كما قبلھا. وفيها بدأت ترتسم معالم نظام عالمي جديد.
العهد