ما بعد منبج: الموقف بين واشنطن وأنقرة في شمال سوريا
عقيل سعيد محفوض
يبدو الموقف بين واشنطن وأنقرة حول سوريا، كما لو أن بينهما خلاف لا يريد أن ينتهي، واتفاق لا يريد أن يكتمل، حال بين-بين، فيها الكثير من عوامل التنافُر ومثلها وأكثر من عوامل التقارُب، غير أن ذلك لا يمثّل فرقاً كبيراً من منظور دمشق، فالطرفان عدّوان لها، ويحتلان أجزاء من أرضها، وإذا اتفقا فاتفاقهما هو ضدّها، وإذا اختلفا فخلافهما هو على تعريف أدوار ورسم سياسات ورهانات كل منهما تجاهها، بل إن جهدهما انصبّ منذ بدايات الأزمة، على تعيين حدود الاعتمادية المتبادلة بينهما، ومدى اعتمادية كل منهما على ما يعدّه الطرف الآخر خصماً، ولكنهما لم يصلا في خلافهما إلى حد المواجهة أو القطيعة.
أفاضت أنقرة في تأويل اتفاق منبج بينها وبين واشنطن، والقاضي بإخراج القوات الكردية من المدينة، وعدّته “خارطة طريق” للعلاقات بين البلدين بدءاً من منبج بالذات إلى الوضع في شمال سوريا وصولاً إلى الأزمة السورية ككل، بل أن بعض التصريحات التركية ذهب إلى حد الحديث عن أن الاتفاق المذكور هو مُقدّمة لإنهاء المسألة الكردية في تركيا والمنطقة! فيما اقتصدت واشنطن في الكلام عن الاتفاق، ولم تهتم كثيراً بتقديم توضيحات أو ردود أو تأكيدات علنية حول ما قالته أنقرة عنه.
وقد ظهر بالفعل تراجُع في الدعم الأميركي للقوات الكردية غرب الفرات، أمام تركيا تحديداً، فيما تُكرِّرُ واشنطن التأكيد على دعمها لتلك القوات شرق الفرات، تجاه دمشق وحلفائها، ويبدو أنها لا تزال تُعرقل الجهود الرامية للتوصّل إلى اتفاق بين الكُرد ودمشق، قائلة أن ثمة من يحاول الإساءة لعلاقاتها مع الكُرد.
إذا صحّت التقديرات التركية وذهبت التفاهُمات بين أنقرة وواشنطن أبعد من منبج، فهذا يضع الكُرد أمام تهديدات مُتزايدة، ويدفعهم إلى البحث في أجندة للتفاهُم مع دمشق، وثمة مؤشّرات مُتزايدة على ذلك؛ وسوف تكون أنقرة عندئذٍ بحاجةٍ إلـى “تأكيد” تفاهُماتها مع موسكو وطهران في أستانة، وإلا فقد تتعرّض “مكاسبها” في إدلب وريف حلب إلى تهديدات جدّية، وخاصةً أن الجيش السوري وحلفاءه عازمون على طرد تركيا والجماعات المسلّحة الموالية لها من شمال سوريا.
مع تقدّم الجيش السوري نحو إدلب، تقف تركيا موقفاً بالغ التعقيد والخطورة، ذلك أن اتفاق خفْض التصعيد في إدلب يستثني جبهة النصرة والمتحالفين معها، ومن ثم فهي لا تستطيع منع استهدافهم، ثم إنها أخذت وقتاً طويلاً لتهيئة وتكييف الأوضاع في المدينة وريفها، ولكنها لم تحلّ مشكلة وجود التنظيمات الإرهابية فيها، وسوف تجد نفسها مُضطرّة للاختيار بين بديلين: الدفع نحو الحل، أو نحو المواجهة.
وإذ تقول أنقرة إن تقدّم الجيش السوري نحو إدلب، يمكن أن يُهدّد جوهر عملية أستانة بالانهيار! فمن غير المتوقّع أن تُقدِم على دفع الأمور نحو مواجهة مفتوحة، لأن ذلك يعني تقويضاً لمجمل التفاهُمات التي أقامتها مع موسكو وطهران في إطار أستانة وغيرها، ثم إن المشهد السوري مختلف عما كان عليه أيام دفعت تركيا بجبهة النصرة وتنظيمات أخرى لاحتلال إدلب وجسر الشغور. وثمة بالقطع تداعيات كثيرة قد لا تكون أنقرة مُستعدّة لتحمّل تبعاتها، أقلّها هو انطلاق مقاومة كردية مؤثّرة في عفرين.
وفي الوقت الذي أظهرت فيه أنقرة تشدّداً في السياسة حيال عملية مُحتمَلة للجيش السوري في إدلب، وقدّمت تطمينات للجماعات المسلّحة الموالية لها بأن الوضع في إدلب مختلف عنه في الغوطة أو درعا، فقد أبرزت بالمقابل مرونة في الميدان، وقامت بسحب قوّاتها من مواقع مُتقدّمة قريبة للجيش السوري. وربما جاء ذلك تدارُكاً لتطوّرات غير محسوبة، أكثر منه قبول وتسليم بما يعتزم الجيش وحلفاؤه القيام به. وبانتظار ما سوف تُسفِر عنه المداولات مع موسكو وطهران.
لكن الأمور لن تقف هنا، ذلك أن ثمة أبواباً أخرى للمساومة والرِهان، وإذ تُطالب واشنطن حلفاءها بتحمّل المزيد من الأعباء المادية والعسكرية في شرق الفرات (بريت ماكغورك 14-7-2018)، فهذا يُعطي تركيا فرصةً لإعادة تعيين أولويّاتها وتعريف علاقاتها وتحالفها مع واشنطن والغرب، حتى لو لم تكن معنية مباشرة بذلك الطلب.
وطالما أن واشنطن وموسكو تواجهان صعوبة في التوصّل إلى تفاهمٍ مستقرٍ حول سوريا، بما في ذلك أدوار أنقرة وطهران وتل أبيب وغيرها فيها، فسوف تواصل أنقرة سياستها المفضّلة، وهي اللعب على التناقُضات واستثمار الفروق والفجوات بينهما من أجل تحقيق ما أمكن من المكاسب، وتدارُك ما أمكن من التهديدات والمخاطر.
الميادين