هواجس كيسنجر
أنس وهيب الكردي
في مقابلته الأخيرة مع «فايننشل تايمز» البريطانية بدا وزير خارجية الولايات المتحدة السابق هنري كيسنجر متشائماً حيال مستقبل العالم والنظام الدولي المبني على أساس اتفاقية وستفاليا لعام 1648.
أوحى الرجل التسعيني، الذي لا يزال فاعلاً في كواليس السياسة الدولية، بأن روسيا لن تقبل بقواعد هذا النظام، وإن كان لم يذهب إلى تشبيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالزعيم النازي أدولف هتلر. بالطبع، إن اقتراح بوتين المذهل أمام نظيره الأميركي دونالد ترامب في قمة هلسنكي، بتنظيم استفتاء تقرير مصير في المناطق الشرقية من أوكرانيا، ضرب وتراً عميقاً لدى كيسنجر وكذلك الدول المجاورة لروسيا. هذه الدول فيها أقليات روسية لا يستهان بها، تبلغ في بعض الدول ثلث سكانها (كازخستان على سبيل المثال)، يتوضعون بالقرب من حدود وطنهم الأم. ولأن الصعود الروسي في ظل قيادة قوية تعرف ما تريد، يأتي وسط انتشار مظاهر عدم الاستقرار في الدول المحيطة بروسيا، فإنه يعطي موسكو أفضلية للمساهمة في إعادة تشكيل محيطها على المديين القصير والمتوسط.
الصين، الجهة الدولية الأخرى التي تقلق كيسنجر، أشار هذا في مقابلته إلى أن الصين تعمل على تنظيم أوراسيا اقتصادياً وجيوسياسياً عبر مشروع «الممر والحزام» المعادل المعاصر لطريق الحرير، ويبدو أن الوزير الأميركي السابق لم يحمل في جعبته ما يمكّن واشنطن أو الغرب من الرد على هذا الصعود الصيني، بل الأرجح أنه بدا مستسلماً أمام القدر الصيني المحتوم، على الرغم من جهود إدارة ترامب الكبيرة لضرب الصين اقتصادياً عبر الحرب التجارية، أو جيوسياسياً من خلال دق إسفين بينها وبين كوريا الديمقراطية، وغيرها من الدول في جنوب شرق آسيا، القلقة على استقلالها من العودة الصينية العالمية.
هذان التحديان، الصيني: حيث تعمل بكين على تنظيم أوراسيا وفق تراتبية هرمية مرتبطة بالصين، بعيداً عن القوة الأميركية، والروسي: حيث تطالب موسكو باستعادة نفوذها عبر إمبرطورايتها الواسعة في آسيا الوسطى، الشرق الأوسط، شرق أوروبا، القوقاز والبلقان، وتواجه الغليان المتصاعد في محيطها القريب، يضغطان على النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة. استفحال هذين التحديين يأتي في الوقت الذي يزعزع ترامب التحالف الغربي، ويهتز الاتحاد الأوروبي على وقع سياسته «أميركا أولاً»، وتصاعد المد اليميني المتطرف.
ما يقترحه كيسنجر أن تقوم واشنطن بتعريف للنظام الدولي المقبول لديها، بعد أن شكل وصول ترامب وتصرفاته نهاية لحقبة عالمية، كما قال عميد الدبلوماسية الأميركية السابق: إن «ترامب قد يكون واحدًا من تلك الشخصيات في التاريخ الذي يظهر من وقت لآخر للاحتفال بنهاية حقبة وإجباره على التخلي عن مطالبه القديمة»، مضيفاً: «لا يعني ذلك بالضرورة أنه يعرف ذلك، أو أنه يفكر في أي بديل رائع، يمكن أن يكون مجرد حادث».
وفقاً لكيسنجر، لا بد من ترتيب توافقي مع روسيا حول أوكرانيا ينزع فتيل المواجهة، ويطمئن الدول المجاورة إلى دور موسكو في المنطقة. اصطناع توزان جديد للقوى في الشرق الأوسط بين إسرائيل، تركيا، السعودية وإيران، ومنع هذه الأخيرة من الهيمنة على المنطقة وتشكيل إمبراطورية عبر الهلال الخصيب، يرى فيه الثعلب العجوز، مصلحة أميركية روسية مشتركة. بمعنى آخر يقترح كيسنجر التعاون مع روسيا لإعادة بناء نظام للأمن في أوروبا والشرق الأوسط. وقد يمتد التعاون الأميركي الروسي إلى آسيا الوسطى، الراقدة فوق صفيح ساخن من القومية والتطرف الإسلامي.
وبالنسبة «للعلاقة العالمية الأكثر أهمية» لمستقبل العالم والنظام الدولي، يرى كينسجر أنها علاقة بين واشنطن وبكين. ويعتري العجوز المخضرم الإحباط الكامل من حالتها الراهنة، حيث أدى أداء ترامب إلى تدهورها، بعد فرضه الحرب التجارية على بكين، وسعيه المنفرد للتعامل مع قضية كوريا الديمقراطية، عاملاً على استبعاد الصين عنها. وكيسنجر يطمح إلى علاقة أميركية صينية تضبط اندفاع بكين نحو إعادة تشكيل أوراسيا ما يتناسب مع مصالحها البعيدة الأمد، وما يخدم استقرار النظام الدولي ويحد من تقلباته مع إعادة تعريف الدور الأميركي العالمي وانسحاب واشنطن من بعض مسؤولياتها العالمية.
من الصحيح أن ترامب من أكبر معجبي وزير الخارجية الأميركية السابق، والذي يعتبر أبرز مفكري العلاقات الدولية وأهم ممارسي الدبلوماسية العالمية، إلا أن سياسته الراهنة، تعمل على إعادة تشكيل العالم بطريقة لا يمكن إلا أن تخيف كيسنجر، فبدلاً من أن تخفف مستويات الفوضى الضاربة أطنابها في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، تعممها وتنشرها قاضية على ما تبقى من استقرار ضروري يتيح التفاوض على صورة الحقبة العالمية المقبلة.
لم يعمل ترامب وفقاً لتعليمات كيسنجر، والأخير، بل العالم كذلك، لا يملكان سوى أن يقلقا من سيد البيت الأبيض.
الوطن