نارام سرجون:اسرائيل تبحث عن قميص هنري كيسنجر المفقود .. زمن كيسنجر الذي انتهى
نارام سرجون
كثيرا مانتحرق شوقا لمعرفة الخبايا والاسرار .. ونتمنى لو ان لنا القدرة على ان نرتدي قبعة الاخفاء ونتسلل الى الغرف المغلقة وننصت بصمت الى المتحاورين والسياسيين .. لأن ديبلوماسية الغرف المغلقة هي الديبلوماسية الحقيقية .. لا المؤتمرات ولا البيانات .. ولاأبالغ ان قلت ان البيانات العلنية للقاءات هي أغطية وتمويه لأن ماقيل في الغرف المغلقة هو ضمير السياسة الذي لايقال .. فللسياسة ضمير ايضا .. ولكنه ضمير لايشبه أي ضمير .. الا ضمير الشيطان ..
وعندما سمعنا عن وصول مفاجئ لوزير الخارجية الروسي الى فلسطين المحتلة برفقة شخصية عسكرية بايعاز من الرئيس بوتين .. عرفنا ان في الغرف المغلقة سيدور حديث هام للغاية .. ولم يكن بمقدورنا الا انتظار التسريبات والتخمينات .. وبناء النتائج باتمام بعض الشيفرات التي فككنا رموزها ..
الا أن الاجتماع الخاص الروسي الاسرائيلي لم يتسرب منه الا بضع قطرات لاتروي ظمأ من يبحث عن الحقيقة في حلقه اليابس .. الى أن تدفق ماء الحقيقة من السماء عندما هاجمت صواريخ الباتريوت طائرة السوخوي السورية .. فصار كل مادار في الغرف المغلقة مفتوحا ككتاب ..
فكما هو معروف فان لافروف جاء من روسيا ليستمع الى رد النتنياهو على مبادرة روسية حيال الجولان السوري المحتل .. فـ النتنياهو ظن انه يمكن ان يبيع الجنوب السوري والمعارضة مقابل عودة الامور الى ماكانت عليه وابعاد ايران وحزب الله عن الحدود .. ولكن بوتين ذكره بحقيقة هامة ان روسيا – في بداية الفوضى في الجنوب السوري – عرضت ارسال قوات روسية بدل الاندوف لحماية خط فض الاشتباك لعام 1974 ولكن من رفض هو اسرائيل .. التي كانت تستخف بالعرض الروسي لأنها كانت على يقين ان عملاءها الاسلاميين وصلوا الى الخط وسيحمونه .. وسيصلون قريبا الى دمشق وسيحمونه من دمشق التي ستعلن نهاية زمن الرفض وبداية زمن التطبيع وأن لاحاجة لاي خطوط طالما أن المجلس الوطني المعارض تعهد بحل الجيش السوري واخراج ايران وقصم ظهر حزب الله .. وسيخرج بوتين وجيشه من بحر طرطوس بقرار من الحكم الجديد .. وستغادر ايضا “الغواصة الروسية” التي ستحمل الرئيس الاسد كما كانت المعارضة تشيع وتهذي بالتلفيقات والتبجحات ..
في رحلات نتنياهو المكوكية الأخيرة الى روسيا كان لديه هاجس واحد وكابوس يردده في نومه .. وهو عودة خط عام 1974 .. ووعده بوتين انه سينقل عرضه – على وقاحته – الى السوريين .. ولكن الرد السوري كان صادما جدا لنتنياهو .. وحسب ماقيل وتناهى الى الأسماع فان السوريين قالوا ان خط عام 1974 هو خط هنري كسينجر .. ولكن زمن كيسنجر وديبلوماسيته وخطوطه انتهت في اللحظة التي كسرت فيها اسرائيل الخط عبر جبهة النصرة وفي اللحظة الاولى التي أغارت فيها على سورية منذ سنوات .. ولذلك فان الخط مات .. ودفن .. وعظم الله أجركم .. فالحدود الآن بلا خطوط ..
ولذلك فان بوتين أخذ الرد السوري الذكي واستثمره لاحراج نتنياهو وحلبه الى آخر نقطة .. فرغم انه لاأحد يحلب كما العرب في الخليج فان اليهود يمكن حلبهم من مخاوفهم وقلقهم الوجودي .. فقد غير بوتين العرض الروسي القديم الى عرض يظهر فيه دهاؤه وتنسيقه الدقيق مع حلفائه .. فهو غير متحمس لتلبية شروط وطلبات اسرائيل .. وهو لايريد ان ينكفئ الايرانيون في سورية وهم من ساعده وسيساعده في المعركة الضخمة في المنطقة تي لم تنته تماما .. وهو يعلم ان الاسرائيليين لايريدون الانسحاب من الجولان .. ولكنه أبلغ النتن ياهو انه لايمكن اقناع السوريين والايرانيين بالعودة الى خط عام 74 وكأن لاشيء حدث خاصة ان اسرائيل هي التي خرقت الاتفاق ولابد من تقديم مغريات وثمن ما لاعادته .. فالبضاعة التي يبيعها نتن ياهو قديمة ولابد من عرض جديد .. ويبدو ان أفضل عرض يمكن لروسيا ان ترعاه هو سلة حل كاملة لكامل الجولان ولاداعي لفض الاشتباك القديم ذي الشريط الضيق الذي انتهت فاعليته ودوره .. ويبدو أن نتنياهو أراد أن يتذاكى فارسل أنه يريد معاهدة على غرار كامب ديفيد وخطوطا على غرار خطوط سيناء .. أ – ب – ج .. بحيث لايتحرك جندي سوري واحد ليتجاوز خط 100 كم شمال فلسطين المحتلة (اسرائيل) ..
ويقال – على ذمة الرواة الموثوقين – أن لافروف حمل في جيبه الرد السوري وهو كلمة واحدة فقط هي: لا .. وأعطاه للنتنياهو مع عرض روسي جديد للمساعدة بحيث تنتهي قضية الجولان بعودتها الى سورية مع ضمانات أمنية لاسرائيل .. أي سلام من دون معاهدة سلام .. ومن دون خطوط استفزازية للسيادة السورية .. لأن السوريين قالوا انهم لايريدون نسخة تجميلية عن كامب ديفيد .. فلايوجد أنور السادات في دمشق بل بشار حافظ الأسد وجيله المحارب .. وهذا امر يجب ان ياخذه الاسرائيليون في اعتبارهم اذا ارادوا التعامل مع السوريين ..
نتنياهو لم يفاجأ بالعرض الروسي بل فوجئ بالرفض السوري الذي يتحداه رغم التهديد ورغم أن الاسرائيليين يظنون أن البلاد خارجة من حرب وان السوريين لن يترددوا في قبول العرض والطلب الاسرائيلي .. والرفض السوري يعني شيئا واحدا يقرأه الاسرائيليون في رأس الأسد .. وهو انه بمجرد نهاية الحرب السورية فان الأسد يخطط لاطلاق المقاومة التي يشكلها بهدوء في الجولان .. والتي ستتحرك بلا خطوط ولاقبعات زرق .. وبدل الحزام الطيب للنصرة .. سيكون حزام حزب الله السوري وغيره .. انه كابوس اسرائيل ..
غالب الظن أن النتن ياهو أبلغنا الرسالة الجوابية السورية التي وصلته مع لافروف ولم نعد بحاجة للتسلل الى الغرف المغلقة التي جمعته بالوفد الروسي .. لانه قام برد فعل انتقامي سريع وانفعالي باسقاط الطائرة كجواب على الجواب .. فهو يحس بالحرج الشديد امام الكتل السياسية الاسرائيلية والمتشددين .. لأنه وعدهم أنه كقائد عام للربيع العربي سيطيح بجبهة الشمال السوري وحزب الله وايران من دون اطلاق رصاصة واحدة .. ولكن جبهة الشمال الآن تطبق عليه وتلتهم القميص الرقيق الذي كان يحمي اسرائيل .. قميص هنري كيسنجر الذي فصله لها عام 1974 .. ولذلك فان اسقاط الطائرة السورية السوخوي ليس خطابا غاضبا موجها للسوريين وحدهم يقول فيه انه هو من سيكسر الخط اذا أرادوا المماطلة وعليهم تحمل عواقب عنادهم .. بل هو يحاول ان يتدارك موقفه داخل اسرائيل لأنه أوصل الجيش والمخابرات الاسرائيلية الى نقطة هزيمة جديدة كبيرة تمثلت في عجز كل اسرائيل وأدواتها الضاغطة في اسقاط دمشق في أكبر مغامرة اسرائيلية استخدمت فيها كل اسلحتها العربية السرية وتنظيماتها الاسلامية .. وفوق كل هذا تسببت هذه المغامرة في فقدان قميص هنري كيسنجر في الجولان والذي يبدو ان من المستحيل ان يستعاد .. وسيبقى الشمال عاريا من غير اي ثوب أممي او دولي يحميه .. وربما يشبه قميص كيسنجر قميص يوسف في القصة القرآنية .. ورغم ان بطلي الحكاية يهوديان (يوسف وهنري) فان الفرق هو أن نتنياهو يبحث عن قميص كيسنجر المفقود رغم انه هو الذي أعطاه للذئب ليمزقه .. أما اخوة يوسف فانه وجدوا القميص رغم أنهم أعطوا صاحب القميص للذئب كما ادعوا ..
على كل حال .. مانعرفه هو أن الرئيس بوتين قام بمناورة بارعة جدا فهو لايستضيف نتنياهو لاعجابه به .. بل هذا هو أسلوب بوتين مع خصومه .. من حمد بن خليفة الى أردوغان الى بندر بن سلطان ممثل السي آي ايه في الشرق .. الى محمد بن سلمان .. والى نتنياهو .. فهؤلاء جميعا استقبلهم وجلس معهم رغم انه يعلم انهم يتآمرون عليه وعلى جيشه وعلى دور روسيا وعلى حلفائها المخلصين .. وهو يبارزهم جميعا في سورية .. ولكنه كان يعطيهم كمبارز بارع الشعور انهم يمكن ان يفاجئوه في المبارزة فيفاجئهم بحركة غير متوقعة طاعنة في العنق والصدر .. فهذا مافعل عندما أعطى موافقته على اتفاق جنيف الأول فيما هو يعمل على تفكيك متاريس المعارضة استخباراتيا وسياسيا ويستطلعها عسكريا وبستنزفها الى أبعد مدى قبل ان ينقض عليها مع الجيش السوري .. وهو أعطى اردوغان الى ان أخطأ اردوغان خطأه القاتل باسقاط طائرة السوخوي الروسية .. فكانت تلك لحظة فارقة لم تنته بفرض حظر طيران على جنوب تركيا بل فوجئ اردوغان أن بوتين وحلفاءه السوريين التزموا الصمت عندما نهش الأكراد لحم الشمال السوري ووصلت انيابهم الى بطن تركيا مما جعل تركيا ترتجف وتنكفئ وتتوسل الغفران مقابل ان تساعدها روسيا على لملمة مافي الشمال من فوضى .. وهو يستقبل نتنياهو حتى يظن من يرى المصافحات الحارة واللقاءات ان السوخوي ستنتقل من حميميم الى حيفا .. ولكن بوتين لايعرض عواطفه ولامشاعره بل مناوراته .. فهو بدل ان يعتذر عن مساعدة الاسرائيليين ويوبخهم ويبدو انه منخرط في حرب ضدهم فانه يقايضهم ويحشرهم في الاحراج السياسي .. فبدل اعاادة خط الاشتباك يعرض انهاء ملف الجولان نهائيا في سلة واحدة وهو يدرك ان الاسرائيليين لايريدون التراجع عن الجولان ..
أعتقد ان اسقاط اسرائيل للطائرة السورية مباشرة عقب نهاية زيارة وفد روسي هام الى فلسطين المحتلة يعطينا شرحا وافيا لما حدث ونوقش .. وهذه أول مرة أحس أن نتن ياهو قد وفر علينا مشقة وحرجا محتملا أمام الروس .. حيث يبدو أن خط هنري كيسنجر قد توفي تماما اليوم والاسرائيليون يضربون في جثته .. وتأكد الاسرائيليون أن الزمن الجميل لن يعود وأن الرفض السوري حازم .. فبادروا الى اسقاط الطائرة كرسالة انهم سيبقون الخط بالقوة ولن يسمحوا بقتل الخط .. واذا أظهر السوريون رغبة في المماطلة فان هم من سيدمره عبر هذا الهجوم المباغت على الطائرة وسيفرضون الخطوط الجديدة التي يريدون .. حتى وان اقتضى الأمر معركة واشتباكا لتشكيل خط فض الاشتباك الجديد ..
ولكن تذكروا جيدا أن سقوط السوخوي الروسية في الشمال بغدر تركي لايختلف عن سقوط السوخوي السورية في الجنوب بغدر اسرائيلي .. ليس لان الطائرتين روسيتي الصنع والطراز .. بل لأن روسيا معنية بهما معا .. مرة بشكل مباشر .. ومرة بشكل غير مباشر .. والنتن ياهو الاسرائيلي لايختلف عن النتن أردوغان التركي .. خطأ في الحسابات مع حلف كبير وتحالف عظيم ..سينتهي برسالة جوابية قاسية .. في مكان ما على الحدود .. أو قد يحملها صاروخ اس 300 سوري .. أو حتى اس 400 .. لأن زمن كيسنجر انتهى .. وقميص الثعلب العجوز صار باليا .. وبدأنا زمننا نحن .. زمن لانعترف فيه بخطوط .. ولاحدود … واذا لم يصدقنا النتن ياهو .. فما عليه الا أن يصيخ السمع جيدا .. الأخبار السيئة قادمة اليه من كل مكان ..