أخطر أنواع الفساد هو ذلك ” المحصّن” بقانون” أو بأحكام تشبه القانون بقوتها..
والكلام ليس على سبيل استعراض حكمة أو قولاً مأثور، بل هو خلاصة استشراف وقائع بالغة الخطورة تجري في حنايا القطاع الحكومي الذي يبدو اليوم ” دابة قصيرة” يمتطيها كل هاوٍ للفروسية المزيفة.
إنه الاستثمار في مخاصمة المؤسسات والجهات الحكومية، وهو بعائدات مضمونة ومجزية أحياناً، ولا يتطلب في سياق ” تكاليفه الرأسمالية” سوى تحريك دعوى و إيجاد محام “شاطر” ، ويكون الاستثمار مضمون الجدوى والعائد إذا أحيلت المخاصمة إلى مركز من مراكز التحكيم في حال كان التنازع تجارياً ؟!!
الواقع أن ثمة مجريات مريبة تدور في فلك العلاقة بين مؤسساتنا العامة وخصومها، أفراداً كانوا أم مؤسسات، والريبة تتأتى من المعبر القضائي والتحكيمي، فهنا في هذا البرزخ تتفاعل أحداث غاية في الشدّ والجذب للمتابعة، ولا تبخل علينا سجلات الحكومة بنماذج صاعقة بقرارات فض المنازعات وصدور الأحكام التي تكون غالباً ضد الجهة العامة ؟!!
ما نلامسه في هذا المقال ليس ظنوناً أو تهيؤات أبداً، بل فصول جرت وتجري على مسرح مختلف الجهات العامة، وما على الراغب بالتحرّي سوى أن يرصد عدد الدعاوى الرابحة للقطاع العام سواء كان الأخير مدعٍ أو مدعى عليه، ومقارنتها مع الأخرى الخاسرة، وسيستنتج أن الأولى هي الاستثناء والثانية هي القاعدة، التي تؤشّر إلى حالة بالغة الخطورة وصل إليها قطاعنا العام المأزوم بأوضاعه وقيوده، لتزداد أزمته في تكبده أعباءً ثقيلة جراء تكاليف المخاصمات.
مجريات تتوالى بما تصدمنا به من مفاجآت، رغم أن لدينا إدارة “طويلة عريضة” اسمها إدارة قضايا الدولة مهمتها الدفاع وتمثيل الجهات العامة في المخاصمات القضائية التي تجري مع الأطراف الأخرى، إلّا أن وجود هذه الإدارة ودور ” محامي الدولة” يبدو مثار استفهام وتساؤل حالياً، بخصوص الدور والحضور كمحامي دفاع عن المال العام.
لسنا الآن في وارد استعراض الحالات ..فهي كثيرة وكثيرة جداً، إلّا أن أحدث ما حُرّر يتعلّق بقضيّة مرفوعة على المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي من قبل 75 عاملاً يعملون لدى مستثمر فندق سميرا ميس في دمشق…لكنهم وجدوا في مخاصمة المؤسسة صاحبة الفندق فرصة لتقاضي مبالغ تعويضات عن أذية تسبب بها وضع المستثمر الذي يعملون لديه، وكان لهم ما أرادوا ، واللافت أن الدعوى بدأت بالادعاء على المستثمر الذي كانوا يعملون لدية و على الخط الحجازي والتأمينات الاجتماعية ، لتكون المفاجأة بحصر المسؤولية بالمؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي، ز تنحية المستثمر جانباً رغم أنه هو من استقدم العمالة ونظم عقود العمل وفقاً للقانون رقم 17 ؟!!!!
لقد رست ” مزايدة الاستثمار في الادعاء” على المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي، وهي مطالبة حالياً و مبدئياً بدفع 24 مليون ليرة سورية للعمال الـ 75 .
وتبدو هذه المطالبة مريبة جداً لأنه لا يوجد أية رابطة عقدية بين هؤلاء العمال والمؤسسة، والعلاقة محصورة بين العمال، والمستثمر، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والتأمينات الاجتماعية، و العلاقة بمجملها باتت خانة القانون 17 الناظم لعلاقات العمل في القطاع الخاص.
ورغم أن المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي المالكة للفندق، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، أكدتا أكثر من مرة أنهما لا تقفان في مواجهة العمال، أو تحاولان تعطيل الحكم.
” الخط الحجازي” بالفعل لا تخالف القوانين، وهي بمنأى عن علاقة الخلف والسلف، هذا ما تؤكد عليه المؤسسة و ما أكد عليه المستشار القانوني في رئاسة الوزراء..ليكون على المؤسسة الآن أن تقوم بالطعن أمام محكمة النقض لتوضيح وجهة نظرها بالأحكام الصادرة، وذلك نفعاً للقانون.
تقول وسائل إعلام تناولت الموضوع : إن وجهة نظر الخط الحديدي الحجازي تثير بالفعل الكثير من التساؤلات حول القاعدة القانونية التي صدرت على أساسها الأحكام، وخاصة لجهة الحكم لصالح العمال، فالمؤسسة كما هو وارد في أسباب الاستئناف مالكة للفندق، ولا تنصرف إليها العقود التي أجراها المستثمر السابق مع العمال، وبالتالي ليست هناك رابطة قانونية مع العمال، وليست خلفاً للمستثمر، وهي جهة عامة ينطبق عليها القانون رقم 50 لعام 2004، ولا ينطبق عليها القانون 17 لعام 2010، وجاء أيضاً في أسباب الاستئناف المقدم من المؤسسة أنه لا يمكن للمؤسسة أن تصرف نفقة دون أن يكون لذلك بند من بنود الموازنة، كما أن المحكمة ألزمت المؤسسة بحقوق عمالية غير مترتبة عليها، وتجاهلت أبسط القواعد القانونية منها (لا أجر بلا عمل)، وفي رأي المؤسسة أن تقرير الخبرة جاء مخالفاً للأصول والقانون، وجديراً بالإهمال، وجاءت الخبرة ناقصة، وتجاوز الخبير مهمته، وأن المحكمة توسعت بتفسير حكم المحكمة الإدارية العليا، وأولته تأويلاً خاطئاً.
القصّة طريفة حقيقةً… ورغم ضآلة الرقم الذي كان نتيجة ” استثمار الادعاء” هذه المرّة، إلّا أن ثمة حالات مشابهة بأرقام كبيرة شكلت خسائر مرهقة لمؤسسات الدولة.
الموضوع يستوجب تحركاً حكومياً سريعاً ولو اقتضى الأمر تشريعاً جديداً بشأن مراكز التحكيم، أو استدراكاً من نوع ما تقوم به وزارة العدل، لأن الأمثلة لا تقتصر على ما جرى بشأن المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي.
الخبير السوري