في الطريق إلى إدلب
عقيل سعيد محفوض
تُمثّل إدلب ساحة “المعركة الأخيرة” قبل الإعلان عن نهاية الأزمة السورية، في بُعدها العسكري على الأقل.
رأت إدلب، ومعها تركيا، كيف ارتفعت رايات بيضاء في غير مكان من سوريا، مثل حرستا ودرعا والرستن والقنيطرة وغيرها، ويبدو أن الرايات نفسها سوف ترتفع في إدلب، إذ لا توجد أمام مُسلّحيها خيارات جدّية للقتال، بل إن أيّ قتالٍ سوف يكون انتحاراً. وفي إدلب نفسها الكثير من المسلّحين وعائلاتهم ممَن قَدِموا إليها، بعدما رفعوا الرايات إيّاها، وكانوا قد أقسموا قبل ذلك أنهم لن يُسلّموا أو يغادروا أماكنهم، ومنهم مَن كان على ثقةٍ بأن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تتخلّيا عنه، وسوف تدعمانه إلى النهاية.
تُمثّل إدلب ساحة اختبارٍ لجُملةٍ من التطوّرات حول سوريا، مثل عمليتيّ أستانا وسوتشي، اللتين بدأتا بين روسيا وإيران وتركيا، ومَثَّلتا – مع عوامل أخرى – نقطةَ انطلاقٍ لتفاهُماتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تتجاوز الأزمة السورية، ومثل ذلك تفاهُمات هلسنكي التي بدأت ثُنائية بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، وتتّجه لأن تصبح دولية، إذ أعلن أردوغان عن قمّةٍ رُباعية تجمعه برؤساء فرنسا وروسيا والمستشارة الألمانية في إسطنبول في السابع من الشهر الجاري لبحث الأزمة السورية، تعقبها قمّة أخرى تجمعه بالرئيسين الإيراني والروسي.
وهكذا فإن أمل الإمارة في إدلب، جبهة النصرة على وجه الخصوص، بدعمٍ تركي ضدّ الدولة السورية، وأن تعود الأمور إلى الوراء، هو أقرب إلى الوَهْم، لأنه تعويل أو رِهان انقضى أمَدَه وانتهت صلاحيّته تقريباً. وقد كانت تركيا نفسها في قلب التطوّرات التي أوصلت الأمور إلى هنا، ولو أنها لم تفعل ذلك بمحضِ الرغبة أو الإرادة، إنما بفعل المداولة والمساومة. ويُحسَب لإيران وروسيا أنهما تمكّنتا من اللعب على مخاوفها، وفي الوقت نفسه إقناعها ليس بتعويض الخسائر فحسب، وإنما “وعدها” بمكاسب كبيرة في مرحلة ما بعد الحرب أيضاً.
لكن السؤال المطروح بإلحاح اليوم هو: هل تتخّلى تركيا عن إمارة إدلب، ولماذا أعطت الأوامر بتوحيد التنظيمات المسلّحة في جسمٍ واحدٍ هو “جيش الفتح” بقيادة جبهة “النصرة”، وإذا كان من الصعب أن تعود الأمور إلى الوراء، وهي تعلم ذلك، فأية خارطة للحل أو التسوية يمكن أن تبحث عنها في إدلب؟ سوف تحاول تركيا أن تضع خطّة للاستجابة تأخذ بالاعتبار النُقاط الرئيسة التالية:
إعداد الجماعات المسلّحة لأن تكون قوّة موحّدة، يمكن استخدامها للمواجهة أو للمساومة.
تطمين الإمارة من أن تركيا تحاول تجنيبها وطأة عملية عسكرية واسعة.
احتواء أو تفادي موجة لاجئين جديدة.
التفاوض حول العلاقة بين دمشق وكُردها، وضبط أية تداعيات مُحتمَلة على تركيا نفسها أو رِهاناتها في سوريا.
مشكلة ما يزيد عن 50 ألف مسلّح من مختلف بلدان العالم.
الريوع أو الأثمان الاقتصادية للموقف السياسي، وثمة تقديرات بأن شركات تركية بدأت منذ بعض الوقت بتسجيل نفسها في روسيا وإيران وربما في الصين، تمهيداً لمرحلة إعادة الإعمار في سوريا.
لكن الأمور لا تقف هنا، بل إنها لا تبدأ هنا، ذلك أن حجم التعقيد والتداخُل في ملف إدلب وشمال سوريا يتطلّب خطّطاً تدريجية بعيدة الأمد، ولن تُحلّ الأمور بأسرع مما حدث في الغوطة ودرعا والقنيطرة. وقد تشهد إدلب أعمالاً عسكرية أكبر نسبياً بسبب كثافة عدد وعدّة الجماعات المسلّحة في الإمارة، وما لإدلب من رمزيةٍ جهاديةٍ وتكفيريةٍ من الصعب تفكيكها أو تجاوزها.
وهكذا سوف تُركّز المداولات حول إدلب على التوصّل إلى تسويةٍ أو استعادة تدريجية لـ إمارة إدلب بأقل قدر ممكن من الأعمال العسكرية. ومن الأفكار المطروحة بهذا الخصوص، أن يتم وقف العمليات العسكرية، وعودة الخدمات العامة، والبنية التحتية، وفتح الطُرق الرئيسة أمام حركة الناس والسِلع، وتشجيع عودة اللاجئين، وأن تتسلّم تركيا السلاح الثقيل من المسلّحين، فيما تضمن روسيا ألا يقوم الجيش السوري بعمليات عسكرية كبيرة. ولكن نقطة الاعتراض الرئيسة هنا هي أن تركيا تحاول بذلك إقامة “إدارة مدنية” وتشكيل الجماعات المسلّحة في “جيش” تحت إشرافها، وهذا يمثّل مصدر تهديد كبير، في ضوء الأطماع الواضحة لتركيا في الجغرافيا السورية.
إذا ما سارت الأمور في إدلب على غِرار ما جرى في المنطقة الجنوبية، حسب تقديرات السفير الروسي في دمشق ألكسندر كينشاك، فمن المرجّح أن يتم العمل بالتوازي على:
فتح أبواب المصالحات والتسويات، في ضوء خبرة الغوطة ودرعا والقنيطرة وغيرها.
التعاطي مع مناطق إدلب والمجموعات المسلّحة بشكلٍ منفصلٍ، خلافاً لما تحاوله تركيا.
مواصلة الأعمال العسكرية ضد مواقع المجموعات المسلّحة الرافِضة للتسوية.
البدء بعمليات عسكرية لاستعادة مناطق جنوب إدلب مثل جسر الشغور والأجزاء الشمالية من سهل الغاب، والمناطق الجبلية غرب وشمال غرب إدلب المحاذية لـ اللاذقية وريف اللاذقية الشمالي المتاخِم للواء إسكندرون.
التأكيد على حدوث عمليات عسكرية كبيرة سوف تكون تكلفته عالية، ومن الممكن أن يؤدّي إلى عددٍ آخر من اللاجئين.
مرة أخرى، إن المعضلة الرئيسة أمام عملية مُيَسَّرَة في إدلب هو مصير المسلّحين الرافضين للحل، وخاصة المصنّفين إرهابيين، وكيفيّة “تدوير” ذلك العدد الكبير منهم، وخاصة غير السوريين.
تُمثّل إدلب ساحة “المعركة الأخيرة” قبل الإعلان عن نهاية الأزمة السورية، في بُعدها العسكري على الأقل، وعلى الرغم من سعي تركيا لتوحيد الجماعات المسلّحة في إدلب في تشكيلٍ موحّد، وتوزيع المهام القيادية والقتالية بينها، إلا أن اتجاهات الفعل الرئيسة هي في مكانٍ آخر، وهو البحث عن حلٍ بالسياسة والمساومة، بكل ما يعنيه ذلك من تحدّيات، ذلك أن الأزمة السورية لا تزال تُواصِلُ أهم ميزة فيها حتى الآن، وهي مُغالطة وحتى تكذيب التقديرات والرهانات حولها!
الميادين