دلالات وعبر من ميدان تحرير الغوطة الدمشقية
العميد د. أمين محمد حطيط
أصبح مألوفاً لدى المتتبّعين والمراقبين لسلوك معسكر العدوان على سورية أنّ هذا المعسكر يُعلي وتيرة اهتمامه بميدان معيّن بمقدار ما يكون لهذا الميدان تأثير على مسار العدوان، وبمقدار ما يكون للمعتدي من آمال وأهداف يصبو إلى تحقيقها من خلاله. وقد اعتدنا على معسكر العدوان أن ينظر إلى بعض الميادين السورية وكأنها تختصر الحرب برمّتها، كما فعل في حلب في العام 2016 ويفعل اليوم في الغوطة الشرقية في العام 2018.
ففي حلب، وكما يذكر الجميع صوّرت معركة تحريرها على يد الجيش العربي السوري بأنها اعتداء على الإنسانية جمعاء وبأنها خروج على قواعد الأخلاق والقانون وإلخ…. وكان القصد من الصخب العدواني آنذاك منع الجيش العربي السوري من إنجاز تحرير المدينة كاملة، لأنهم رأوا في هذا التحرير يومها سقوطاً لهدف استراتيجي كبير من أهداف العدوان. هدف يتمثل بتقسيم سورية بشبه مناصفة بين معسكر العدوان ومعسكر الدفاع وتعويض الهزيمة التي تمثلت بإجهاض مشروع إسقاط سورية والهيمنة عليها.
أما اليوم، وفي الغوطة الشرقية، فإنّ قوى العدوان تبتغي أن تحتفظ بورقة استراتيجية من أجل حجب التحوّل في طبيعة العدوان الذي انتقل من حرب البديل إلى حرب الأصيل، ومن حرب الأداة الى حرب صاحب المشروع، كما ويريد العدوان أن يشغل دمشق في أمنها. وبالتالي يضغط على مَن يعنيه أمر السير قدماً في الحلّ السياسي الذي وضعت ركائزه الأولى في سوتشي ببيان استقلالي ينقض ويسفّه البيان الانتدابي الذي صدر في جنيف في 30 حزيران 2012، فضلاً عن رغبة أميركية إضافية بإظهار مسار أستانة الذي تقوده روسيا ومعها إيران وتلتحق بهما تركيا ظاهراً، إنه كله وما نجم عنه هو مسار عقيم لا يجدي نفعاً، الأمر الذي يوجب العودة الى جنيف وبيانها الانتدابي والهيمنة الأميركية عبر الأمم المتحدة التي يعمل موفدها بأوامر مباشرة من الخارجية الأميركية.
لقد حرّكت قوى العدوان على سورية أدواتها في الغوطة وحملتهم على الانقلاب على منظومة مناطق خفض التوتر التي انضووا تحتها برضاهم، واقتدحوا نار حرب ظنوا أنّ قوى العدوان قادرة على حمايتهم من ردّة الفعل الدفاعية السورية والحليفة عليها، وتصوّر من أمر بفتح النار على دمشق وإحراق التفاهم حول المناطق المنخفضة التوتر أن دمشق ستكون مكبّلة اليدين وتعجز عن الردّ، كما ظنّ أنّ التدخل الدولي العدواني سيكون جاهزاً لرفد المسلحين بمزيد من القوى الإرهابية التي تتمكن من المشاغلة للوقت الذي يلزم العدوان لتحقيق أهدافه التي في أدناها «إطالة أمد النزاع»، كما ظنّوا أنّ التطورات الميدانية التي سيتحكّمون بمجراها ستتيح لأميركا نشر القاعدة العسكرية الـ 21 على كتف دمشق وعندها يكون الفوز الاستراتيجي الأميركي الأكبر.
ظنون وآمال كبيرة علّقت على ميدان الغوطة الشرقية ولأجل ذلك حشد لقضية الغوطة كلّ ما يمكن ليد العدوان ان تصل إليه من مال وإعلام وسياسة ودبلوماسية. وبات خبر الغوطة يتقدّم على أيّ خبر حتى تصوّر البعض أنّ الكرة الأرضية اختصرت بتلك المساحة من 100 كلم2 في الغوطة التي يخطفها الإرهابيون، او انّ سكان العالم اختصروا بـ 400 ألف هم من يخطفهم الإرهابيون في الغوطة لاتخاذهم دروعاً بشرية. وعلى ضوء هذه المغالاة والتصوير انطلق الإرهابيون في عدوانهم على دمشق وخروجهم على منظومة خفض التوتر.
بيد أنّ سورية التي كانت تمتنع في الأصل عن معالجة ملف الغوطة الشرقية عسكرياً، حرصاً منها على حياة المدنيين المخطوفين بيد إرهابية، والتي رحّبت بدخول الغوطة في منظومة خفض التوتر ظناً منها بأنها ستشكل حلاً للمعضلة، وجدت في نهاية المطاف أنّ العلاج الوحيد الذي يحقق مصالح سورية ومواطنيها في الغوطة أولاً ودمشق أيضاً، هو العمل العسكري المحترف الذي يجمع في الآن نفسه مصلحة الأمن والحرية للمواطن والوطن على حدّ سواء. بهذا الفهم اتخذ القرار الاستراتيجي الحاسم بتطهير الغوطة الشرقية من الإرهاب. وحشدت لتنفيذه القوى والوسائل العسكرية والعملانية الميدانية ما يتناسب مع مصلحتي الأمن وسلامة المدنيين.
صعق معسكر العدوان من القرار الاستراتيجي السوري وعملوا على منع التنفيذ أو قطع الطريق عليه بشتى الوسائل لهذا كان الإعلام التلفيقي المتغطّي بالعوامل الإنسانية، ثم كانت المحاولة في مجلس الأمن، ثم كان الاتهام باستعمال الأسلحة الكيماوية، ثم كان اللجوء الى استعطاف الرئيسين بوتين وروحاني لوقف الهجوم السوري التطهيري، كلها محاولات ومناورات ابتغى منها معسكر العدوان وقف تطهير الغوطة وإبقاءها ورقة بيده يحرّكها ساعة شاء لإزعاج سورية وإرهاقها وحصد نتائج استراتيجية في الميدان والسياسة.
بيد أنّ سورية وحلفاءها، لم يتوقفوا عند شيء مما ذكر من ضغط أو تهويل وتعاملوا كما تقتضي المصلحة السورية الوطنية العليا وبدأوا معركة تطهير الغوطة باحتراف عسكري رفيع المستوى يحقق أهداف العملية في الوقت الأقصر والخسائر والتضحيات الأقلّ ويظهر مشهداً فيه من الدروس والعبر ما في أدناه القول:
1 ـ إنّ سورية التي خاضت معركة الدفاع عن نفسها ونجحت طيلة السنوات السبع الماضية لن تتراجع عن متابعة تحقيق أهداف الدفاع التامة، مهما كانت التضحيات، وإذا كانت في السابق ناورت وفقاً لاستراتيجية الأولويات، فإنها لا ترى اليوم أولوية تتقدّم تحرير الغوطة ولهذا فهي ماضية فيها حتى النهاية، وقد يكون فورد السفير الأميركي السابق في دمشق فهم هذا الأمر ونصح المسلحين بوقف القتال وعدم المراهنة على الغرب، لأنه لن ينقذهم.
2 ـ إنّ معسكر الدفاع عن سورية أجمع كلمته ومواقفه على مواجهة العدوان في أيّ وجه ظهر فيه في السياسة أو الحرب النفسية أو الحرب النارية الميدانية، وما السلوك الروسي في مجلس الأمن إلى إرسال الطائرات الاستراتيجية الروسية الكبرى إلى سورية إلى مؤتمر الردع الاستراتيجي الأخطر الذي أعلن فيه بوتين عن الأسلحة المتطوّرة التي يمتلكها إلا وجه من وجوه هذه المنازلة.
3 ـ إنّ معسكر العدوان على سورية يعرف في عمق ذاته أنه يغتصب الحقوق ولا يملك شرعية الوجود على الارض السورية أو مواجهة الجيش العربي السوري على أرضه، وبالتالي إنّ المراهنة على عمل عسكري واسع للنطاق يقوم به هذا المعسكر العدواني لإنقاذ الإرهابيين هو رهان خاسر.
البناء