يوغوسلافيا: من ’اتفاقية يالطا’ اللصوصية الى ’جمهورية كوسوفو’ المافياوية
جورج حداد
تعتبر شبه جزيرة البلقان من أهم المناطق الجيواستراتيجية الحساسة في العالم، ففيها تلتقي ثلاث كتل حضارية ـ سياسية دولية مختلفة هي: العالم المسيحي الغربي الذي هو امتداد تاريخي لروما القديمة؛ والعالم المسيحي الشرقي بزعامة روسيا؛ والعالم الاسلامي بواجهته العثمانية.
وبسبب ذلك كان البلقان دائما مسرحا للحروب الاثنية والقومية والدولية والنزاعات والفتن والثورات. ولهذا أطلقت عليه صفة “برميل البارود”، وصارت كلمة “بلقنة” تعني اثارة الفتن والقلاقل.
ويذكر ان شرارة الحرب العالمية الاولى انطلقت من البلقان حينما أقدم طالب صربي فقير “قومي” الاتجاه، على اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك.
وخلال الحرب العالمية الثانية احتل النازيون والفاشست الالمان والايطاليون دول البلقان، واتخذ منها هتلر احدى قواعد الانطلاق للعدوان على الاتحاد السوفياتي، خصوصا عبر البحر الاسود.
وخاضت المقاومة الشعبية، بقيادة الأحزاب الشيوعية نضالا اسطوريا للتحرر من النازية والفاشية والملكيات والطبقات الرأسمالية المتعاونة مع الاحتلال، وقدمت مئات آلاف الشهداء في هذا السبيل. وتجلى ذلك بالاخص في بلدان يوغوسلافيا والبانيا واليونان. وكانت المقاومة اليوغوسلافية بقيادة رابطة الشيوعيين اليوغوسلاف بزعامة المارشال (لاحقا) جوزف بروز “تيتو” الكرواتي الاصل. وفورًا بعد نهاية الحرب، في 1945 (اي قبل اربع سنوات من انشاء “السوق الأوروبية المشتركة” في 1949 التي تحولت فيما بعد الى “الاتحاد الاوروبي”، طرح المارشال “تيتو” مسألة تحويل “برميل البارود” البلقاني الى منطقة سلام وتعاون وتآخٍ بين شعوب البلقان، وذلك عن طريق دائرتين توحيديتين:
الاولى ـ اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية، الذي يضم جميع “السلافيين الجنوبيين” (بما في ذلك بلغاريا).
والثانية ـ اتحاد فيديرالي او كونفيديرالي لجميع دول البلقان، اي الجمهوريات السلافية الجنوبية بالاضافة الى البانيا واليونان ورومانيا، مع ايجاد صيغة مناسبة مع تركيا ليشمل الاتحاد القسم الاوروبي ـ البلقاني من تركيا.
وقد عارضت الكتلة الغربية بشدة المشاريع الاتحادية لتيتو لأنها تتعارض مع مصالحها الرئيسية ونزعتها الامبريالية لإضعاف جميع شعوب العالم والهيمنة عليها. وكان ذلك مناسبة لاجراء أول اختبار عملي لتطبيق اتفاقية يالطا اللصوصية لتقاسم النفوذ الدولي التي وقعها الخائن ستالين مع روزفلت وتشرشل. وحسب المعلومات الصحفية المسربة كانت الاتفاقية تقضي بأن تكون تركيا واليونان (وبالتالي مضائق البوسفور والدردنيل) ضمن منطقة النفوذ الغربية، وان تكون يوغوسلافيا “منطقة عازلة” buffer zone تتقاسم فيها الكتلتان الغربية والسوفياتية النفوذ 50-50%. وقد عمل ستالين على تنفيذ اتفاقية يالطا “باخلاص!” عن طريق التآمر لاجهاض الحكم الديمقراطي الشعبي في اليونان بعد نجاح الشيوعيين في انتخابات سنة 1946، وتمت اعادة تسليم اليونان للملكيين وسحب قوات الجيش الشعبي اليوناني (بقيادة الجنرال الاسطوري ماركوس) عبر الاراضي التركية الى بلغاريا والاتحاد السوفياتي. ومات ماركوس كعامل عادي في معمل أحذية سوفياتي.
وعارض ستالين انشاء اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية ذي النزعة الاستقلالية. واستخدم نفوذه في بلغاريا الديمقراطية الشعبية لمنعها من الانضمام الى هذا الاتحاد الذي كان حائزا على دعم الزعيم الشيوعي البلغاري غيورغي ديميتروف. ولتنفيذ سياسة اضعاف يوغوسلافيا تم (بايعاز من ستالين) طرد رابطة الشيوعيين اليوغوسلاف من “الأممية الشيوعية” الثالثة (الكومنترن) في 1947، وشنت حملة تطهير ضد الشيوعيين الاستقلاليين في مختلف الأحزاب الشيوعية بتهمة “التيتوية”. وفي 1949 تم اعدام القائد الشيوعي البلغاري البارز رايتشو كوستوف وغيره كثير من قادة وكوادر الحزب الشيوعي البلغاري بتهم ملفقة اولها “التيتوية” بهدف منع بلغاريا من الانضمام الى يوغوسلافيا. وفي السنة ذاتها استدعى ستالين تيتو وديميتروف الى موسكو، بحجة البحث في الخلافات. ولكن تيتو لم يقع في الفخ، وارسل احد نوابه بدلا عنه. اما غيورغي ديميتروف فقد ذهب الى موسكو للاجتماع بستالين وعاد الى بلغاريا جثة هامدة بعد ان تم “علاجه” من “كريب” او “نزلة برد” قيل انها ألمت به. وهناك تقارير طبية بقيت سرية لما بعد 1990 تقول ان ديميتروف مات مسموما.
ولكن بالرغم من الستالينية والنيوستالينية (الخروشوفية ووريثتها الغورباتشوفية)، وبالرغم من الضغوط الشديدة التي مارستها الكتلة الغربية باستمرار ضد يوغوسلافيا، فهي قد نجحت في ان تشق طريقها بشكل مستقل وتتحول الى اكثر الدول تقدما، اقتصاديا واجتماعيا، في اوروبا الشرقية، منتهجة مبدأ “اقتصاد السوق الموجه” و”التسيير الذاتي” للمؤسسات كصيغة “متوسطة” بين ملكية الدولة والملكية الرأسمالية الخاصة. وفيما بعد اخذت الثورة الجزائرية المنتصرة بمبدأ “التسيير الذاتي” قبل ان تنحرف “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” عن مسارها الصحيح بعد الانقلاب واعتقال احمد بن بله.
ولعل من المهم أن نذكر هنا ان يوغوسلافيا كانت الدولة الاشتراكية الوحيدة التي صوتت ضد قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، بل ان الوفد اليوغوسلافي تقدم بمشروع قرار لجعل فلسطين جمهورية ديمقراطية موحدة يتمثل في برلمانها وحكومتها المسلمون والمسيحيون واليهود (على الطريقة اللبنانية). ولكن هذا المشروع رفض. في حين ان موقف المندوب “السوفياتي!” الستاليني كان اكثر صهيونية من اليهود والاميركيين والانكليز.
كما اضطلعت يوغوسلافيا بدور بارز في عقد مؤتمر باندونغ سنة 1956 وتأسيس حركة دول عدم الانحياز والحياد الايجابي. وكان جوزف بروز “تيتو” احد ابرز شخصيات المؤتمر الى جانب جواهر لال نهرو واحمد سوكارنو وجمال عبدالناصر.
وطوال حياة تيتو كانت يوغوسلافيا تمثل شوكة في حلق اميركا وحلف الناتو و”اسرائيل” والاتحاد الاوروبي، كما في حلق البيروقراطية “السوفياتية!” الستالينية والنيوستالينية.
وما ان توفي تيتو في 1980 حتى باشرت اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي و”اسرائيل” وتركيا والسعودية في تنفيذ مؤامرة كبرى واسعة ودؤوبة لتقويض وتفتيت وتفكيك يوغوسلافيا اتنيا وقوميا ودينيا ومذهبيا، بالاستناد الى المجموعات ذات الميول الرأسمالية الغربية، المتجلببة بـ”الدمقراطية” و”النزعة القومية”، والطامحة الى تدمير النظام الاشتراكي ونهب ثروات الدولة وملكية الشعب، من جهة، والى المجموعات “الاسلاموية” التكفيرية والارهابية، من جهة ثانية. واندلعت الحروب الاهلية في يوغوسلافيا طوال السنوات الـ80 والـ90. وتفككت يوغوسلافيا كليا ولم يبق منها سوى نواتها الصلبة: صربيا.
وفي التسعينات من القرن الماضي عمدت المخابرات الاميركية الى تجميع عصابات القتلة واللصوص وشتى انواع الخارجين على القانون من الالبانيين في مقاطعة كوسوفو الصربية ذات الاغلبية الالبانية، وشكلت منهم ما يسمى “جيش تحرير كوسوفو” ودربتهم وسلحتهم ومولتهم. ورفع هذا “الجيش” شعار فصل واستقلال كوسوفو عن صربيا بذريعة “حق تقرير المصير للالبانيين” ورفض التسلط الصربي(!!!). وبدأت عصابات هذا “الجيش” بشن حملة من الاعتداءات والاغتيالات وحرب العصابات ضد قوى الامن والمسؤولين والشخصيات الصربية في كوسوفو، وكذلك ضد الالبانيين “الاندماجيين” انصار “الحزب الدمقراطي الالباني” وزعيمه المرحوم ابرهيم روغوفا الذي كان يحظى بالشعبية الاكبر بين الالبانيين في كوسوفو وكان من انصار وحدة الصرب والالبانيين في كوسوفو وكون كوسوفو جزءا لا يتجزأ من صربيا.
وقد ادت الاعتداءات المتواصلة لـ”جيش تحرير كوسوفو” الى ظهور جماعات شوفينية صربية بدأت تمارس الاعتداءات المعاكسة ضد الالبان. وتطورت الاحداث الى وقوع فتنة شوفينية اتنية ـ دينية بين الصربيين ـ المسيحيين والالبان ـ المسلمين في كوسوفو. وانبرت آلة البروباغندا الغربية المعروفة تدعم شعار فصل مقاطعة كوسوفو عن صربيا وتحويلها الى “جمهورية البانية مستقلة”. واخذ جميع المسؤولين الاميركيين والاوروبيين يتبارون في دعم “ألبنة واستقلال كوسوفو”. تماما على طريقة “الوطن القومي المسيحي” الذي كان يطرحه حزب الكتائب وكميل شمعون في مطلع الحرب الاهلية في لبنان، وعلى طريقة شعارات “استقلال” المناطق “الكردية” في سوريا والعراق.
وفي سنة 1999 شن حلف الناتو حربا جوية وحشية ضد الشعب الصربي المظلوم، بحجة انقاذ الاقلية الالبانية في كوسوفو ودعم استقلال كوسوفو. وعلى مدى اشهر تم تدمير البنى التحتية والجسور والاوتوسترادات والمطارات ومحطات السكك الحديدية والمصانع والمعاهد والمستشفيات في صربيا من اجل افقارها وارجاعها عشرات السنين الى الوراء.
ووقفت الأمم المتحدة تراقب على هذا الفيلم اليورو ـ اميركي “الحضاري!” الطويل. واخيرا تم “ديفاكتو” فصل كوسوفو عن صربيا بقوة الطيران الحربي للناتو والصواريخ والقنابل الذكية الاميركية. وحينذاك ارسلت الامم المتحدة المراقبين الدوليين للاشراف على “فك الاشتباك” واحلال “السلام!” واضفاء “الشرعية اللدولية!” على جمهورية كوسوفو الجديدة التي هي ليست اكثر من غطاء “شرعي” لاكبر قاعدة عسكرية ومخابراتية اميركية في البلقان واوروبا، والقاعدة الرئيسية للمافيا الالبانية الدولية.
وتقول بعض الاستقصاءات الخاصة ان الطائرات العسكرية الاميركية تأتي من افغانستان محملة بالهيروين الى جمهورية كوسوفو، ومنها تتولى المافيا الالبانية عملية توزيع المخدرات في اوروبا وفي اميركا نفسها. ولاعطاء “فكرة” عن طبيعة هذه “الجمهورية”، فإن رئيسها هو المدعو هاشم تاجي. وهو نفسه كان زعيم عصابات “جيش تحرير كوسوفو”. ويتهمه الصربيون بأنه كان احد ابرز قادة عصابة المتاجرة بالاعضاء البشرية، التي كانت تحضّر دفعات من الاسرى الصربيين الاصحاء، اطفالا ونساء ورجالا، الذين كانوا يرسلون الى البانيا ويساقون الى مبنى مموه في ضواحي العاصمة الالبانية تيرانا حيث تتم “العناية” بهم وتحضيرهم لعمليات نزع أعضائهم البشرية، ثم التخلص من بقايا جثامينهم بطرق علمية وفنية لمحو اثارهم تماما، ومن ثم يجري توضيب الاعضاء البشرية في بنوك طبية خاصة وارسالها للتسويق في اوروبا واميركا.
وبعد وفاة سلوبودان ميلوسوفيتش مسموما في سجن المحكمة الدولية في لاهاي سنة 2006، ضعفت مواقع الحزب الاشتراكي الصربي، وفازت في الانتخابات اللاحقة الاحزاب الصربية المؤيدة للانفتاح على اوروبا. وقد طلبت الحكومة الصربية “الديمقراطية” منذ سنوات الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. ولكن اللجنة الاوروبية تشترط على صربيا اولا الاعتراف بـ”استقلال” كوسوفو. الا ان الحكومات الصربية المتعاقبة تخشى حتى الان الاقدام على هذه الخطوة ضد ارادة الشعب الصربي. وفي اذار الماضي اجرى “معهد القضايا الاوروبية” الصربي استطلاعا للرأي، افاد بأن 81% من المستطلعين الصربيين لا يزالون يعارضون الاعتراف بانفصال كوسوفو ولو كان ذلك يعني رفض قبول صربيا في الاتحاد الاوروبي.
العهد