نارام سرجون:هل يسحق اردوغان قلبه الأطلسي .. أم أن الدب يبقى دبا؟؟
نارام سرجون
ليس هناك أجمل من اللحظة التي تتصارع فيها الوحوش التي كانت تحاصرك .. ولكن اياك ان تصفق لانتصار احد الوحوش أو ان تنتظر نهاية المعركة او تظن لحظة ان الوحوش التي أكلت الوحوش قد شبعت ولن تأكل لحمك ..
الحرب التي فرضت على الشعب السوري كانت حربا بين الوحوش ورغم ان حمد بن جاسم استعمل مصطلح “التهاوش” وهو مصطلح تتداوله الكناية للإشارة الى الصراع بين الكلاب والكلاب) فانه يدل على مستوى آخر من الصراع كان قائما بين كلاب الصيد الصغيرة العربية والإسلامية التي أطلقها الغرب المتوحش لاصطياد طائر الفينيق ..
ولكن حدثت تلك اللحظة الفاصلة عندما التفتت الوحوش الى الوحوش وحدث ارتفاع في مستوى الضراوة بينها عندما فشلت في الفتك بـ “الصيدة” حتى بدأت بالفتك ببعضها .. قطر والسعودية وتركيا واميريكا .. الكل ينهش في لحم الكل .. ..
اليوم نتوقف أمام ماهو أهم من لحظة النشوة والاحتفال باقتتال الأعداء .. ونواجه سؤالا مهما طرحه النزاع التركي الاميريكي الذي لايزال الدخول عليه بالتحليل مغامرة لأنه لحظة اشتباك وغبار لانعرف فيها الجد من اللعب .. والسؤال هو: أي الطرفين سيكون فوزه خيرا لنا؟؟ وهل يمكن الاسترخاء عند لحظة النزاع والصراع والاطمئنان الى أن ماحدث يعني اننا دخلنا عصرا جديدا وأن الذئاب ستنهش الذئاب ؟؟
السؤال المحير منذ أن تفاقم النزاع هو اين تركيا منا الآن هل نعيدها أيضا الى (حضن الوطن) تائبة مستتابة طالما انها تزعم أنها عدو عدوي (أميريكا) وصديق صديقي (روسيا) في نفس الوقت؟؟ فهي وضعت قدما في معسكر روسيا .. وهاهي أميريكا تناطحها وتمسك بعنقها وتريد اعادتها الى بيت الطاعة أو الحظيرة الاميريكية؟؟
المشكلة هي أن لاشيء تغير في تركيا .. فالسلوك الذي يتغير لايعني ان الطبيعة تغيرت وأن الجغرافيا تغيرت وأن التاريخ تغير .. فهل معاهدات السلام مع اسرائيل مثلا غيرت من طبيعة هذا الكيان العدواني وفلسفته العنصرية والتوسعية وحلمه بالتمدد بين الفرات والنيل؟؟ ومن تسبب في معظم الحرب علينا هو أردوغان وحزبه .. وهما لايزالان في السلطة .. فهل نتغير لأن السلطان تغير في سلوكه؟؟ وهل يعني ان الدب الذي يرقص معنا في السيرك لم يعد متوحشا ولن تستيقظ فيه وحشيته لأنه صار يركب الدراجة الهوائية ؟؟
وللاجابة عن السؤال يجب ان نفتح هذا السؤال كمن يفتح صندوقا ليخرج منه صندوق آخر فيه سؤال آخر يقول: أي تركيا يمكن ان نعيدها الى حضن الوطن؟؟ تركيا اردوغان او تركيا مابعد اردوغان؟؟
مصالحنا تأمرنا ان نبحث عن مصالحنا .. ولكن المصالح عمياء وصماء .. لاتقرأ ولاترى التاريخ ولا الجغرافيا ولاتشم رائحة السموم في المطابخ .. بل ترى صناديق الكنوز وولائم المال والمصالح .. ولكن كل من لحق مصالحه دون أن يفتح عينيه وأذنيه وخياشيمه عليه ان يستعد للسقوط في الهاوية او أن يتحضر لأوجاع السم في بطنه لاحقا .. لأن السم يكمن في المصالح عندما لاتدخل مصفاة التاريخ والجغرافيا .. وعندما لايتم تنقية مواسم القمح بالغربال ..
لذلك يجب ان نذهب كالتلاميذ لحضور درس التاريخ والجغرافيا عن تركيا قبل ان نلبي دعوة المصالح الشرهة ودعوة العواطف المنفعلة والواقعية التي لاترى من خلال ضباب المطاحن السياسية التي تطحن كل شيء لتبيعه على انه دقيق وطحين ..
اليوم تحاول تركيا ان تعيد تقديم نفسها في الشرق على ان مصالحها اقتضت قيامها بحركة دوران والتفاف كبيرة وتدريجية كلفتها غضب أميريكا وحلفائها القدامى .. وان تركيا التي استفاقت اليوم ليست هي تركيا الربيع العربي .. وان اردوغان الذي ملأ بطنه من دمنا اكتشف أن جلده امتلأ بالجراح والطعنات الغادرات من اميريكا وحلفائها وصار مليئا بالندوب والوشوم قد قرر ان يخلع جلده وان يسحق قلبه الأطلسي بقدميه الاسلاميتين .. ويعود الينا عودة الابن الضال ..
وللأسف فهناك من استمالته الحركات التركية فيما هناك ميل للاعتقاد ان الازمة التركية الأميريكية هي بداية الافتراق .. والتموضع الجديد الذي أقله النأي بالنفس عن أزمات المنطقة والانكفاء للعق الجراح .. وصارالبعض يقرأ في الدوران التركي فرصة لقراءة جديدة مبنية على الواقعية السياسية والحنكة التي تقودها معطيات نتائج الحرب التي حولت تركيا وأرغمتها على ان تغير قلبها .. خاصة أن الأتراك اكتشفوا خيانة الغرب للصفقة التركية الغربية في تقاسم الشرق العربي على أساس إعادة نفوذ تركيا الى أقاليم عربية في سورية والعراق ومصر .. فكان هذا سببا وجيها لتصديق صراخهم في وجه أميريكا .. واستمعت الى البعض الذين يشبهون استغلالنا لهذه الفرصة الذهبية من الاشتباك بين الوحوش في ابرام اتفاق ما مع الأتراك برعاية روسية ايراينة للتسريع في انهاء الحرب على سورية .. وهناك من يضرب مثلا على التحالف بين السوفييت الشيوعيين والاميريكيين الامبرياليين واوروبة الرأسمالية في مواجهة النازيين الالمان رغم شدة العداء بين هؤلاء الحلفاء .. فلماذا نعيش في الماضي ونحن نريد ان ننطلق الى سورية الجديدة المنتصرة على مشروع تركيا ..
وقد تدغدغ هذه النظرة روح الغواية فينا ونميل الى الاطمئنان .. ولكن اياكم من الوقوع في الحفرة الخطرة .. ليس لأن تركيا في الجغرافيا بلد يقاسمنا أكبر الحدود .. وهي بلد كبير .. وكل بلد كبير ينظر الى البلدان المجاورة الأصغر منه على انها امتداد جسدي له وهدية الاله الطبيعية له .. بل الخطورة هي ان تركيا لاتزال في ظل حكم إسلامي لايعرف اليأس ويبحث عن أي لحظة تبدو له كالنافذة او حتى كالثقب ليتسرب منها .. وأخطر مافي تركيا الإسلامية الحالية هي انها لاتزال تحت عباءة أردوغان الذي تحول الى ساحر في نظر مريديه ومحبيه .. واردوغان في النهاية هو نتاج الثقافة والتربية القومية التركية التي ترى ان نهوض تركيا يقوم على فكرة اعادة احتلالها للجنوب العربي .. واردوغان استمد شعبيته في تركيا لأنه مثل الروح التركية العثمانية التي تقدم للطلاب في المدارس التركية وفي البيوت ودروس التاريخ والدين .. وهو انعكاس لأحلام الأتراك عموما .. هذه الاحلام التي ترجمتها عدة محاولات سابقة في عهود الجمهوريين الأتاتوركيين ومنذ تأسيس حلف بغداد تشي بحقيقة هي أن تركيا تريد العودة بأي ثمن وهي ترى فينا الأرض الموعودة والكنز الذي فقدته وفقدت بضياعه صولجان الشرق ..
علاوة على ذلك فان وجود شخصية مثل اردوغان على رأس الهرم التركي يجب ان يبقى مصدر تحذير لأن هناك عربا في الشرق الأوسط وسوريين إسلاميين يؤمنون به ويوالونه ويناصرونه كما لو أنه رسول من السماء كانوا بانتظاره .. فلم أجد شخصا تمتع بهذه الشعبية وهذا الانتشار في العالم العربي – وهو غير عربي – مثل رجب طيب اردوغان .. ولم أعرف شخصا تحيط به الأساطير وحملات التسويق والترويج مثل اردوغان ومشروعه الإسلامي .. ولم أجد شخصا اجتمع عليه الإسلاميون من المحيط الى الخليج مثل اردوغان الذي صار حزبه يستنسخ في كل مكان ويعتبر المرجعية في النجاح السياسي .. وهو صار رمزا للإسلاميين رغم افتضاح فساده وفساد عائلته في تركيا وارتباطه بمشاريع غربية تسببت في تدمير الشرق العربي الإسلامي .. بل انه لايزال ينظر اليه على انه بطل إسلامي ويستحق ان يغفر له لأنه كان يحاول تحرير الشرق الإسلامي لاعادة حكم الإسلام ولكنه حورب .. رغم انه اثبت غباء مطلقا في القراءة المستقبلية للصراعات وخذل الإسلاميين في جميع معاركهم وتركهم لمصيرهم ولم يقم بدور فدائي معهم فانه في نظرهم لايزال القائد الذي يجتهد من أجلهم ولذلك فانه يتعرض لضغوط ومؤامرات في الداخل والخارج التركي .. بل ان خروجه من الهزائم باقل الخسائر صارت تقرأ وتترجم على انها نصر من الله لايقل عن نصرته للنبي في هجرته القاسية نحو مشروع الدعوة الإسلامية .. وانتصارات اردوغان لاتقل عن انتصارات النبي الذي تعرضت مسيرته لانكسارات وهزائم وتعرجات ..
أردوغان التركي في صراعه الظاهري مع اميريكا لايريد الخروج من عباءتها .. وهو يرفع عقيرته بالاحتجاج والهجوم ولكنه في الغرف المغلقة لين وطري وديبلوماسي وصوته خفيض ومهذب ورقيق .. وسبب العواء على المنابر هو أنه يريد ان يقايض الاميريكيين وهو يريد ان يتاجر معهم .. فهو لايريد ان يساندهم في حصار ايران قبل ان يتعهدوا ان يشدوه قليلا في موقفه من الأكراد وفي معركة ادلب القادمة لأنه يريد ان يخرج بأي صيد في هذه الحرب ليقدمه كانجاز للشعب التركي .. فهو ان خرج من ادلب دون ثمن فانه كمن خرج من المولد من غير حمّص رغم انه كان صاحب المولد .. وهو في نفس الوقت يطلب ذات الأشياء من الروس والايرانيين .. ويقف بين الفريقين الاميريكي والروسي محاولا ابتزاز اي منهما عله يحصل على قطعة من الصيدة التي (هربت منه) .. ويأخذ بعض الحمّص من المولد الذي صنعه في سورية ودعا ارهابيي العالم اليه ..
أردوغان لايجد اي استجابة لطلباته .. فالروس والسوريون والايرانيون مصرون على اتمام المهمة باخراجه من سورية .. والاميريكيون يرون انه كحليف وعضو في الناتو لايحق له مساومتهم .. بل عليه مساندتهم في معركتهم مع ايران وروسيا .. وقرروا معاقبته وتصرفوا معه كما يتصرف راعي البقر مع العجول التي تخرج من القطيع .. بملاحقتها والقاء الأنشوطة على قرونها لاعادتها الى القطيع .. وهذا ماحصل فالانشوطة الاقتصادية التي رماها ترامب على قرون العجل التركي كانت سببا في تعثر الليرة التركية وارتباك اردوغان وتخبطه بعد أن تذوق مرارة العقوبة في الليرة التركية ..
خلاصة القول هي ان تركيا مع أردوغان وبدونه ليست الا في مرتبة العدو الأزلي الذي احتلنا لأربع قرون .. واردوغان هو انعكاس لثقافة وتربية الاتراك لابنائهم من أن الجنوب العربي هو امتداد تركيا المسروق الذي تجب استعادته بأي ثمن .. وكل سلوك تركيا في القرن العشرين كان عدوانيا واستعماريا لم يعترف باستقلالنا ابدا .. واكبر دليل هو الاستيلاء على لواء اسكندرون السوري في اول لحظة تاريخية مخاتلة لم يفوتها التركي .. ولذلك فان من حقنا كسوريين ان ننظر الى مستقبل العلاقات مع تركيا على انه محفوف دوما بالمخاطر .. وانها تشبه الدب في السيرك الذي يركب الدراجة ويسلينا ويصادقنا .. ولكن الدب يبقى دبا .. وكما يفكر الاسرائيليون في اي اتفاق مع العرب علينا ان نتعلم منهم كاعداء .. فهم يضعون في حسبانهم ان العربي سيبقى عربيا ولن يحبهم .. ولذلك فانهم لايستسلمون للنوايا الحسنة عند رسم خطة اي اتفاق مع العرب بل يرسمون مايضمن أمنهم لمئة وخمس وعشرين سنة على الاقل .. فهم يشترطون تخفيض الجيوش وابعاد السلاح الثقيل عنهم مئات الأميال كما فعلوا في معاهدة كامب ديفيد .. التي حولت سيناء الى عمق استراتيجي خلفي يحمي ظهر الجيش الاسرائيلي لأنها فارغة عسكريا ويمكن اعادة احتلالها في ساعات ..
بعد درس الربيع العربي الذي ضيع الاتراك آخر فرصة للمصالحة التاريخية والغفران الذي عرضناه عليهم .. علينا في علاقاتنا المستقبلية ان نتعامل مع تركيا (مع اردوغان وبدونه) كما تتعامل اوروبا معها .. اوروبة تضع ذاكرتها أمام مصالحها .. فرغم ان انضمام تركيا لاوروبة يمكن ان يفيد اوروبة الا ان اوروبة رفضت بقوة اي تغليب للمصلح على التاريخ .. فهي لاتتجاهل التاريخ والجغرافيا اللذين يقولان ان قنابل العثمانيين ضربت فيينا وانها كانت تريد احتلال اوروبة .. ولذلك كانت تركيا الحالية دولة منبوذة في اوروبة ومكروهة رغم انها علمانية وجمهورية وحداثية .. وذلك بسبب رائحتها العثمانية التي تفوح من تحت الثياب العلمانية وتحملها الرياح وتخرش أنوف الاوروبين عبر مضيق الدردنيل .. والاوروبيون لاينسون ان استانبول هي المدينة المسروقة منهم (القسطنطينية) حتى لو كانت في حلف الناتو .. وعلى ذلك المقياس فان تركيا قامت بسحقنا واحتلالنا لاربعمئة سنة .. وعندما سنحت لها الفرصة في الربيع العربي أرادت ان تعيد احتلالها لنا دون تردد .. وهذا لايمكن ان ينسى ويجب ان يكون اول شيء نتذكره في بناء العلاقات معها لأن الصراع معها لايختلف عن الصراع مع اسرائيل في انه صراع وجود أيضا .. فالاسرائيليون يريدون الغاءنا من الخارطة .. والأتراك لايعترفون بوجودنا الا في حال عبوديتنا وتبعيتنا لهم ..
تحرير ادلب قادم بلا ريب وخلال وقت قصير ستصل احذية الجنود السوريين الى الحدود التركية عند حدود لواء اسكندرون المحتل .. وأنا على يقين أنه لن يكون هناك اي اتفاق مع الاتراك أو اي مقايضة مهمة لأن التركي المراوغ يريد من التصعيد مع اميريكا انزالها الى المفاوضات مع الروس والايرانيين الى جانبه ليقوي موقفه .. ويجب أن يكون العرض الوحيد للأتراك هو الانسحاب دون قيد أو شرط وأخذ عصاباتم معهم خارج الحدود أو تعريضهم للابادة .. لأن ترك اي مسمار لتركيا في أي مقايضة بذريعة أن الدب تغير فانه يعني ترك مايشبه الخلايا النائمة في الشمال السوري حيث هناك موالون لتركيا الاردوغانية دوما .. أما أي علاقة مستقبلية مع تركيا المجاروة على أساس شراكة فيجب ان تبتعد عن الرومانسيات الحالمة وان تؤسس على اساس اننا نتعامل مع دب يراقصنا ونراقصه ولكنه في أي لحظة سيتذكر انه دب ويهاجمنا ..