عبد الباري عطوان: فتوى خطيرة لـ دي ميستورا تبيح إبادَة “النّصرة” في إدلِب
الظُّهور المُفاجِئ للمَبعوث الدَّولي استيفان دي ميستورا على رادار شاشَة أزَمَة مدينة إدلب المُتفاقِمَة يُوحِي بأنَّنا أمام “تِكرارٍ حَرفيٍّ” لسِيناريو حلب الشرقيّة قبل عام، مَع فارِقٍ أساسيٍّ وهو أنّه لا تُوجَد إدلب بعد إدلب هَذهِ المَرَّة.
في المُؤتمرِ الصِّحافي الذي عَقَده في جنيف بعد غِيابٍ استمرَّ ثلاثَة أشهُر تَقريبًا، قدَّم المَبعوث دي ميستورا عَرضًا مُشابِهًا للجَماعات المُسلَّحة لعَرضِه الأوّل الذي رَفضوه في حلب قبل عامَين، تَضَمَّن استعدادًا للتَّوجُّه إلى مدينة إدلب لتَأمين إقامةِ مَمرٍّ إنسانيٍّ من إجلِ إجلاء السُّكَّان المَدنيين (عددهم حَواليّ ثلاثَة ملايين شَخص) من المَدينة قَبل الهُجومِ السُّوريّ الكاسِح الذي باتَ وَشيكًا.
وعندما نَقول أنّه “لا إدلب بعد إدلب” فإنَّنا نَعنِي أنّ هذا المَمَر الإنسانيّ الذي يتعَهَّد دي ميستورا بإنشائِه بدايته في المَدينة المُستَهدفة “بأُم المَعارِك” في الأزَمَةِ السوريّة، ونهايته في دِمَشق، أو بالأَحرى المَناطِق الخاضِعة لسَيطَرَة الجَيش العربيّ السوريّ، وهذا يَعنِي الاستسلامَ الكامِل لجَميع المُقاتِلين لضَمان أرواحِهم وعائِلاتِهم، وتسوية أوضاع بعض السُّوريين مِنهُم مع السُّلطات السوريّة على غِرار ما فعله نُظراءهم في حلب ودرعا والغُوطة الشرقيّة، ونحن نَتحدَّث هُنا عن “بعضٍ” ليس “كًل”، أمّا المُقاتِلين الأجانِب فوَضعُهم مُخْتَلِف وليس مَوضِع “مُساوَمة” أو “تَفاوُض”.
***
أخطَر ما قاله دي ميستورا في مُؤتَمرهِ الصِّحافيّ، ويَكشِف عن أهَم مَحاوِر معركة إدلب الكُبرَى، هو قَولُه “أنّ عدد مُقاتِلي هيئة تحرير الشام (النُّصرة) حواليّ 10 آلاف مُقاتِل”، وأضاف وهُنا الجَديد “أنّهم إرهابيّون ويَستَحِقُّون الهَزيمة”، واعترَف المَبعوث الدَّوليّ لأوّل مَرّة بهذا الوُضوح عِندما أكّد أنّ “الحُكومة السوريّة وجَبهَة النُّصرة لديهِمِا القُدرَة لإنتاج أسلحةٍ كيماويّة، وغاز الكُلور تَحديدًا”.
هُناك عِدَّة نُقاط مُهِمَّة يُمكِن استنتاجُها مِن كَلام المَبعوث الدَّولي، ولا بُد من التَّوقُّف عِندَها في أيٍّ مُحاولةٍ جِديَّةٍ فاعِلَةٍ لاستقراءِ المَشهد الحاليّ المُتعَلِّق بمَدينة إدلب:
ـ الأولى: وَصْف مُقاتِلي هيئة تحرير الشام (النُّصرة) بالإرهابيين وأنّهم يَسْتَحِقُّون الهَزيمة، يَعني إصدار حُكْمٍ، أو ضُوء أخضر دوليّ بالتَّصفيةِ والإعدام عليهم، واستثنائِهم من أيِّ تَسويةٍ، والعَرض بإخراج المَدنيين مِن المدينة يعني حِصارَهم تَمهيدًا للقَضاء عليهم، على غِرار ما حَدَث مع من بَقِيَ من مُقاتِلي “الدولة الإسلاميّة” (داعش) في مَدينَتيّ المُوصِل والرِّقَّة.
ـ الثانية: حديث دي ميستورا عن امتلاك السُّلطات السوريّة، وجبهة النصرة تحديدًا، القُدُرات على إنتاجِ أسلحةٍ كيماويّةٍ، يَعنِي أنّ “النِّظام السوريّ” ليسَ وحده الذي يُمكِن أن يُنتِج هَذهِ الأسلحة، وبالتَّالي استخدامها، وكأنّه يُرَجِّح وجهة النَّظر الروسيّة التي تُحَذِّر مِن احتمالات إقدامِ جِهاتٍ في المُعارضة السوريّة المُسلَّحة، وربّما جبهة النُّصرة، على استخدامِ هَذهِ الأسلحة وإلصاقِ التُّهمة بالسُّلطات السوريّة، وبِما يُبَرِّر عُدوانًا ثُلاثيًّا أمريكيًّا بِريطانيًّا فَرنسيًّا ثانٍ وَشيك لتَأزيم الوَضع في إدلب، ووضع عَراقيل أمام المُخطَّط الروسي السوري لاستعادَتها، مِثلَما حَذَّر السيد وليد المعلم، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجيّة، في مُؤتَمرِه الصِّحافيّ الذي عقده في موسكو مع نَظيرِه الرُّوسيّ.
***
دي ميستورا مِثل طائِر “أبو فصادة” الذي يُنْبِئ ظُهوره بالنِّسبةِ للفَلّاحين في بلادنا بمَقدَم فصل الخريف، ونُضج الزيتون (يقولون في بلادنا عقد الزيتون)، وحانَ وقت الحَصاد، مع الفارِق الكَبير طبعًا لاختلافِ الظُّروف، واختلافِ المَواقِف تُجاهَه، وحسب الخندق الذي يَقِف فيه المَرء، مُضافًا إلى ذلك أنّ دي ميستورا ليسَ في جَمال هذا الطَّائِر وبراءَتِه.
الرَّجُل بَكَى تَأثُّرًا عِندَما جرى رفض مُبادرته في حلب الشرقيّة، بَكَى لأنّه تَوقَّع هزيمة الفَصائِل المُسلَّحة، مِثلَما تَوقَّع أيضًا وقوع خَسائِر كبيرة في صُفوفِ المَدنيين، وهذا ما حَدَثَ فِعْلاً.
مُبادَرته هَذهِ المَرّة تبدو مُختَلفةٍ جَذريًّا عن نظيرتها الأولى لسَببٍ أساسيٍّ وهو خُلوّها من أيِّ “طَوقِ نجاة” للمُقاتِلين في صُفوف جبهة النصرة، أقوى الفصائل المُسلَّحة وحُلفائِها، والتي تُسيطِر على 60 بالمِئة مِن مدينة إدلب، فلا حافِلات خضراء في انتظارهم، ولا مَلاذَ آمِن ينتظرهم، ولا داعِمين “عرب” يُدافِعون عنهم، ويَقِفون إلى جانبهم، ولا حملات إعلاميّة تَنتَصِر لهُم، سواء في تُركيا أو في بعض الدول الخليجيٍة، على غِرار ما حَدَث في حَلب، الأمر الذي يَعنِي أنّ الخِيار الوَحيد المُتاح أمامهم هو القِتال حتّى المَوت، فالاستسلامُ غَيرُ مَطروحٍ هَذهِ المَرَّة.
عِندَما كُنَّا، وغَيرنا، نَقول أنّ هُناك خُطَّةً دَوليّةً لتَجميعِ المُقاتِلين السَّلفيين في إدلب للقَضاء عليهم دُفعَةً واحِدة، وبمُباركةٍ روسيّةٍ أمريكيّةٍ أُوروبيّةٍ ضِمنيّة، كانَ البعض يُشَكِّك، ويَبيع الوَهم لهؤلاء، وبَعض أنصارِهم، وها هِي الأيّام تَكشِف عن مَلامِح هذا المُخطَّط الحَقيقيّة بتَفاصيلِه الكامِلة دُونَ أيِّ رُتوش.
دي ميستورا لا يَنطِق عن هَوى، وإذا قالَ صَدِّقُوه، فهُوَ يَمْلُك الخَبرَ اليَقين.. والأيّام بَيْنَنَا.
عبد الباري عطوان – راي اليوم