المحاصيل المنسية التي قد تكون أهم طعام في المستقبل
توفر أربعة محاصيل فقط ثلثي إمدادات العالم من الغذاء، وهي القمح والذرة والأرز والصويا. لكن هناك علماء في ماليزيا يسعون حاليا لإحياء محاصيل أخرى تعرضت لكثير من الإهمال.
في بستان صغير للفاكهة قرب مضيق ملاكا، يركز ليم كوك آن على زراعة فاكهة اللونغان وكذلك الأناناس، متخليا عن أشجار الكيدوندونغ التي تدخل ثمارها في صناعة المخللات والسلطات في ماليزيا.
يقول المزارع (45 عاما) إنه لم يعد يحتفظ سوى بشجرة واحدة من أشجار الكيدوندونغ لعدم شيوع ثمارها بخلاف المحاصيل الأخرى المعروفة في الأسواق. فمزارع صغير مثل ليم ليس بوسعه الاستمرار في إنتاج تلك الثمار النادرة دون ما يكفي من الطلب عليها.
وعلى مسافة أقل من ساعة بالريف الماليزي، يسعى علماء داخل ثلاث صوامع ضخمة لتغيير مستقبل الطعام، وذلك عبر استكشاف الجديد من المحاصيل البديلة مثل الكيدوندونغ. إذ يجري تحويل ثمار تلك الشجرة إلى عصير خال من السكر وغني بفيتامين سي ومستساغ المذاق داخل مقر “مركز محاصيل المستقبل”، وهو أحد المراكز البحثية العالمية.
وبينما يتجول بين حدائق المركز الكثيفة خارج العاصمة كوالالمبور، يقول رئيس المركز، سيد عزام علي، إن مركزه يهتم بـ”محاصيل منسية”. فهناك أصناف – مثل المورينغا الرفيعة وبقول البامبارا المائلة إلى الصفرة بالإضافة إلى ثمار الكيدوندونغ – ظل الإنسان يزرعها طيلة قرون، لكنها ظلت مجهولة خارج نطاقها الجغرافي الضيق، بل وتناقص الطلب عليها حتى في موطنها الأصلي حتى توارت بين المحاصيل الأربعة الكبيرة.
ويقول عزام علي إن هذه المحاصيل – القمح والذرة والأرز والصويا – توفر ثلثي إمدادات العالم من الغذاء، بحيث أصبح البشر معتمدين عليها بشكل شبه كامل، وذلك رغم وجود “سبعة آلاف نوع من المحاصيل التي زرعها الإنسان لآلاف السنين وباتت الآن طي النسيان”.
لكن الباحثين يسعون للاستفادة من تلك المحاصيل المهملة التي أزيحت بسبب طغيان المحاصيل الأربعة الأوسع انتشارا.
وتتمثل أهمية ذلك في أن قطاع الغذاء يسهم بنحو ثلث انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم، وذلك بحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، والتي تقدر أيضا حاجة العالم لزيادة إنتاجه الغذائي بمقدار النصف بحلول عام 2050، ليكفي حاجة سكانه المتوقع أن يصل عددهم إلى عشرة مليارات نسمة.
ويتطلب ذلك حلولا عاجلة لسد الطلب دون مفاقمة التغير المناخي وإلحاق المزيد من الضرر بالتنوع الطبيعي والأنظمة البيئية.
ويؤكد مركز محاصيل المستقبل أن المحاصيل المنسية يمكن أن تسهم بشكل كبير في حل تلك المعضلة، وأن الاستثمار فيها سيساعد الدول على الاعتماد بصورة أقل على المستورد من المحاصيل الشائعة وما تنتجه خطوط الإنتاج من كربون ملوث للبيئة.
كما أن زيادة تنوع المحاصيل التي يستهلكها الإنسان تعزز الأمن الغذائي في وقت يهدد ارتفاع حرارة الكوكب المحاصيل القائمة، ناهيك عن كون المحاصيل المنسية بين أكثرها مقاومة للتغير المناخي وأفضلها من حيث القيمة الغذائية، حسبما يؤكد عزام علي، معتبرا تنويع مصادر الغذاء أمرا لا غنى عنه لمستقبل البشر.
ويتفق خبراء الأمن الغذائي مع ذلك، إذ تقول سيسيليا تورتاجادا الباحثة بمعهد السياسات المائية بجامعة سنغافورة الوطنية إن تلك المحاصيل الأصلية على إغفالها ذات أهمية خاصة، مؤكدة أن المشكلة “ليست في عدم توافر الغذاء في العالم بل في الجهل بالمتوافر منه”.
ذلك الجهل هو ما واجهه عزام علي أثناء دراسته الدكتوراة في الثمانينيات، إذ تعرف على المحاصيل البديلة خلال لقائه بمزارعات في النيجر.
واندهش علي من المحاصيل التي كن يزرعنها بجوار أكواخهن بوسائل بدائية لإطعام أسرهن مع غياب المحاصيل المعتادة، ورأى فيها أفقا هائلا لتأمين أنظمة غذاء بديلة. ورغم ذلك كان عليه أن يجهد حتى يقنع العالم بما رآه.
غير أن علي لم يأل جهدا في مشروع تلو الآخر حتى تتأكد إمكانية زراعة تلك المحاصيل في بيئات مختلفة. ولكن ظل السؤال عن جدواها الاقتصادية.
وفي أحد أركان مركز محاصيل المستقبل، تخلط خبيرة الأغذية تان شين لين عجينة خضراء زاهية مستخلصة من دقيق أوراق المورينغا، كبديل عن الطحين، لخبز كعكة منخفضة الغلوتين وأعلى في القيمة الغذائية.
ويعهد إلى شين لين بابتكار وصفات تدخل فيها تلك المكونات غير المألوفة لتستسيغها الأذواق في ماليزيا وخارجها. وخلال السنوات القليلة الماضية، استعانت شين لين ببعض المحاصيل المنسية المزروعة بالمركز – مثل المورينغا والبامبارا – لصناعة الحساء والبسكويت والمعجنات وغيرها.
تقول شين لين، المدربة أيضا على صناعة الحلوى، إنها تحرص على “تحديث أسلوب استخدام المحاصيل المنسية بدلا من استخدام الوصفات القديمة، لتلقى قبولا لدى الطبقات المتوسطة المتزايدة في العالم، والتي تنزع للأطعمة السريعة والمصنعة، ولتغيير الصورة النمطية عنها باعتبارها طعام الفقراء والنسوة والعجائز”.
وقد بدأت بعض منتجات المركز تلقى نجاحا. ويسعى المركز لطرحها في المحال أملا في رواجها كما راجت محاصيل مثل الكينوا، التي كانت مجهولة قبل 30 عاما خارج موطنها بجبال بوليفيا وبيرو، وباتت الآن تتصدر قوائم الطعام المرموقة.
وتركز المبادرة، التي يضطلع بها المركز، على قياس المحاصيل من حيث فائدتها الغذائية وليس ضخامة محصولها. فمنذ ما عرف بالثورة الخضراء خلال الستينيات، هيمنت المحاصيل عالية الإنتاج على الساحة الزراعية لمواجهة المجاعات التي شهدها العالم.
واليوم يقول علي إن “قضية التغذية أصبحت قنبلة موقوتة” بسبب تدني الأملاح المعدنية بالمحاصيل جراء ارتفاع مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون. وبدلا من تعزيز المحاصيل الرئيسية، ينبغي الاستثمار في المحاصيل المنسية ذات القيم الغذائية الأعلى.
وبين دهاليز المركز، تكشف مديرة المعامل، غوماتي ستورامان، عن نبتات يعلق عليها الباحثون الكثير من الأمل، حيث تنمو متسلقة بثمارها التي تشبه الفاصوليا تحت أشعة صفراء متوهجة بأحد الغرف التي يستخدمها العلماء لبحث أثر ارتفاع الحرارة وثاني أكسيد الكربون على المحتوى الغذائي للمحاصيل البديلة.
ويقول علي إن تلك البحوث بالغة الأهمية لضمان جودة محاصيل المستقبل في الأجواء الحارة.
وينصب اهتمام جهات عالمية عدة على الأطعمة المنسية، حسبما تقول دانييل نيرنبرغ التي ترأس ما يعرف بـ”وعاء الطعام” وهو مركز بحثي في الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى مركز محاصيل المستقبل، الذي يصف نفسه بأنه أول مركز بحثي في العالم مخصص بالكامل للمحاصيل المغمورة، هناك هيئات أخرى معنية بالتنوع الزراعي، مثل هيئة أمانة المحاصيل، وهيئة إكريسات، ومنظمة بيوفيرستي الدولية. أضف إلى هذا الأعداد المتزايدة من المستهلكين متوسطي الدخل الباحثين عن غذاء صحي، وغيرهم من الراغبين في هجر الأطعمة المصنعة والعودة لما ألفه أسلافهم.
ولا يجب إغفال الدور الأساسي المنوط بالمزارعين أنفسهم. وتقول نيرنبرغ “هذا أمر قام به المزارعون، وخاصة النساء، منذ تعلم الإنسان الزراعة. فقد كانوا يحفظون البذور في محاولة للحفاظ على المحاصيل التي تتناولها أسرهم. وهذا يحافظ على الكثير من التنوع الحيوي الزراعي ويضمن انتقال تلك المحاصيل من جيل إلى آخر”.
لكن الاهتمام بتلك الأطعمة المنسية والمفيدة يواجه منافسة شرسة من جانب الأطعمة الغربية عالية السكر والدهون والمصنعة.
تقول جنيفر كوا، المشاركة في تأسيس مطعم “سيتكا” الرائد في الأطعمة المحلية بإحدى ضواحي كوالالمبور الراقية، إن إحياء المحاصيل المحلية في ماليزيا يواجه “الولع بالمستورد”، مشيرة إلى أنها لاحظت ذلك بمطعمها حيث لا يزال الزبائن يبحثون عن مكونات من الخارج كدليل على “الوجاهة الاجتماعية”، ومن ثم يلزمها تقديم الأطعمة المحلية بشكل مبتكر.
ويعتبر البعض أن العودة إلى الأطعمة المنسية أمر محقق، ومنهم تيم لانغ أستاذ السياسات الغذائية بجامعة سيتي في لندن، إذ يقول إن التغير المناخي “سيجبرنا على تغيير ما اعتدنا عليه من مذاق بتغير المحاصيل” وذلك مع تراجع المحاصيل الحالية واسعة الانتشار.
لكن ينبغي إقناع المستثمرين بالقطاع الخاص بدعم المحاصيل البديلة، وهي مهمة شاقة. ويقول عزام علي إنه رغم توافد الكثيرين من كبار المستثمرين على مركزه، وإعجابهم بما رأوه، إلا أنهم يتبعون ذلك بالقول إن “السوق حاليا غير متاح”.
ومن ثم تركز استراتيجية المركز حاليا على إعادة المحاصيل المنسية إلى الواجهة الشعبية، ومن ثم تنشيط الطلب عليها.
وقد دعا القائمون على المركز في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، لتدشين مبادرة جديدة بعنوان “شبكة الأطعمة المنسية” لجمع وحفظ الوصفات الآخذة في الانقراض على مستوى العالم، لتكون بوابة للعودة مجددا للمحاصيل المحلية.
ويقول علي “تلك الأطعمة المنسية عاش عليها آباؤنا وأجدادنا. ودون حفظ ذاكرتها فسوف يندثر تاريخ من عشرة آلاف عام في جيل واحد”.
BBC