مركز بحثي يكشف عن أسرار ضعف قطاع التجارة الخارجية السوري ووصفة للعلاج
بين مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” في دراسة له ، أنه يمكن تلخيص أبرز نقاط الخلل في التجارة الخارجية بما يأتي:
يوجد خلل بنيوي في قطاع التجارة الخارجية، يترجمه عجز مستمر في الميزان التجاري، على مدى 21 عاماً من أصل 25 عاماً، يعكس بدوره عجز محاولات تحرير الاقتصاد بعامة، والتجارة الخارجية بخاصة؛ عن الحدّ من ذلك الخلل، أو معالجته، هو ناجم عن العقلية التي تحولت إلى عرف في التجارة الخارجية؛ يقوم على إيجاد أسواق للمنتجات المحلية، بغض النظر عن جودتها، بدلاً من التخطيط للإنتاج بناءً على دراسات الأسواق الخارجية، لتلبية متطلبات الأذواق والجودة فيها، وهذ ما يشكل أحد أبزر المعوقات الداخلية لقطاع التصدير في سورية، ولا تشكل التجربة الفاشلة في تصدير الحمضيات طوال الأعوام الماضية إلا مثالاً حياً لتلك المعوقات، وللعقلية السائدة في إدارة التجارة الخارجية.
تُلاحظ هشاشة التوازن في الميزان التجاري بسبب التركز الجغرافي والقطاعي، قبل العام 2004، ونتيجة اعتماده على عائدات تصدير النفط الخام بالدرجة الأولى، ثم على تصدير الأغذية والنباتات والتوابل والحيوانات الحية فيما بعد العام 2004.
لوحظت درجة تركز العالية، في جانبي التصدير والاستيراد، لكن المشكلة تبرز بشكل أكبر في جانب التصدير، القائم بصورة رئيسة على المواد الخام والصناعات الاستخراجية بما فيها النفط، كمكون رئيس، ثم الأغذية والمزروعات والتوابل والحيوانات الحية.
لا تعكس قيمة الصادرات قدرة الجهاز الإنتاجي، كما لا تحظى التجارة الخارجية السورية بأهمية نسبية في التجارة العالمية، ولا في التجارة العربية، نظراً لإسهامها المتواضع جداً.
تخلف المنتجات المصدرة مقارنة بالمستوردة، والزيادة في سعر كيلو المستورد عن سعر كيلو المصدر.
لا توجد ميزات تنافسيّة مهمة، في أي قطاع من قطاعات التجارة، باستثناء بعض الحالات في مراحل محددة، ولصناعات استخراجية بحتة (النفط بشكل رئيس)، التي لا تملك أية قيم مضافة في التصنيع، ومثلها، مواد زراعية وأغذية وحيوانات حية، ما لا يمكن حسبانه ميزة تنافسية حقيقية.
إنّ الأداء السلبي للتجارة، بنيوي، ويرتبط بعوائق داخلية في قطاع التصدير، تحدّ من قدرته في تحسين أداء التجارة، ودعم النمو الاقتصادي، وذلك بسبب التأثير السلبي له في إجمالي الناتج المحلي.
يُلاحظ قصور الإنتاج المحلي عن تلبية الطلب الداخلي، وبالتالي ضعف مؤشر الاكتفاء الذاتي، نظراً للاعتماد على المستوردات لتلبية أكثر من ربع الطلب المحلي.
يضاف إلى ذلك نقاط خلل أخرى، على أساس متابعة واقع التجارة الخارجية، في سورية، خارج نطاق المؤشرات المعتمدة في البحث، يمكن إيجازها بغياب الشفافية في العملية التجاري، تحديداً في غياب بيانات دقيقة عن الصادرات والمستوردات، نظراً لعدم الإفصاح عن الأسعار الحقيقية للمستوردات والصادرات من قبل المستوردين والمصدرين للتهرب من الرسوم والضرائب وعدم الإفصاح عن حجوم أعمالهم الحقيقية، والتخوف من تعهدات قطع التصدير، وعودة تطبيقه في أي وقت، يساعدهم في ذلك وجود تغطية للعديد من مخالفاتهم في بعض الجهات الحكومية، رغم وضوح آلية الاستيراد والتصدير، تحديداً لدى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، إضافة إلى تدنٍّ في مستوى الخدمات اللوجستية، والفساد الموجود في بعض مفاصل العمل الجمركي.
يقترح البحث العمل على اتجاهين متوازيين، لمعالجة الخلل في قطاع التجارة الخارجية والانتقال به إلى قطاع مسهم بشكل رئيس في النمو الاقتصادي، والحدّ من الفقر، هما:
تعزيز قطاع التصدير، كما هو محدد في الاستراتيجية الوطنية للتصدير، التي أقرتها الحكومة السورية في شهر آذار 2018.
اقترحت الخطة الوطنية للتصدير مجموعة من الحلول المهمة لمعالجة مشكلات التصدير بشكل جذري، يستلزم خطة عمل على المدى القصير والطويل، وذلك على الشكل الآتي (بإيجاز مع الحفاظ على المعنى الدقيق):
– تحديد الأدوار المطلوبة من الجهات المختلفة (وزارات الزراعة والصناعة والاقتصاد والتجارة الداخلية وحماية المستهلك، إضافة للمصرف المركزي) بشكل واضح ومكتوب، بغية دعم تشجيع الصادرات وتأمين التسهيلات المصرفية اللازمة لإتمام دورة الإنتاج التشغيلية، والترويج للصادرات السورية في الخارج.
– تسهيل نفاذ المنتجات السورية إلى الأسواق الخارجية عن طريق الخطط التسويقية والترويجية.
– تعزيز كفاءة الخدمات اللوجستية .
– ضمان كفاية الأنظمة والسياسات والأطر لدعم جودة المنتج السوري.
– تطوير برامج دعم وتمويل التصدير.
– إنجاز تحول تدريجي في هيكل الصادرات ينتقل من الأنشطة القائمة على استخدام الموارد الطبيعية إلى التكنولوجيا المتوسط، وأخيراً إلى صادرات عالية التكنولوجيا.
– تشجيع إقامة شركات متخصصة بتصدير المنتجات بهدف الاستفادة من وفورات الحجم، تحديداً تلك المتخصصة بتصدير المنتجات الزراعية.
– دراسة آلية سير العملية التصديرية المعمول بها حالياً، وتحديد مواطن الضعف الموجودة لا سيما ما يتعلق بتدفق الوثائق والمراحل الزمنية لإنجاز المعاملات والكشف على البضاعة وإخراجها؛ وذلك بهدف وضع مخطط سير عملية تصديرية تلتزم به كافة الجهات المعنية، وهنا اقترحت وزارة الاقتصاد إنشاء نافذة واحدة، إلكترونية، للتصدير .
اعتماد التجارة القائمة على سلسلة العرض (Supply-Chain Trade) في سورية كمدخلٍ موازٍ لتعزيز التصدير، وصولاً إلى تمكين التخصص الرأسي، بإحلال ذكي لبعض المستوردات، من أجل تحسين ظروف التجارة الخارجية، وتفعيل دورها الداعم للنمو الاقتصادي.
إن التجارة القائمة على سلسلة العرض تتيح للبلدان فرصة استغلال مزاياها التنافسية دون الاضطرار إلى تطوير صناعاتها المتكاملة رأسياً التي توفر للمنتجين السلع النهائية من المدخلات الوسيطة التي يحتاجون إليها… وتتيح فرصاً جديدة للبلدان منخفضة الدخل لكي تصبح جزءاً من “المصنع العالمي”، ويتطلب تيسير تلك التجارة تدابير تتجاوز خفض تكاليف التجارة العالمية .
وفي الحالة السورية، يتبنى البحث ما جاء في «وجهة نظر» التي نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد) بعنوان “تمكين التجارة الرأسية في سورية: تجربة تجميع السيارات نموذجاً” ، إذ استشهد الباحث بدراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع Bain & Company والبنك الدولي حول تمكين التجارة بينت أن العامل الرئيس الذي يحدد قدرة الدولة على الإسهام في سلسلة العرض هو كفاءة تسهيلات التجارة والخدمات اللوجستية، مبينةً أن تحسين مؤشرات الأداء اللوجستي بنسبة معينة بين بلدين؛ يخفّض التكاليف التجارية أكثر بعشر مرات من تخفيض الرسوم الجمركية بالنسبة نفسها.
كما أنه أثناء تحليل البيانات الكمية، وصلت الدراسة إلى أن تحسين مستوى الإدارة الحدودية وخدمات البنية التحتية للاتصالات والنقل؛ يؤدي إلى زيادة الناتج الإجمالي المحلي بمعدل ست مرات أكثر مما قد تحققه إزالة كافة الرسوم الجمركية على المستوردات.
حدّدت الدراسة تسعة عناصر تعوق سلسلة العرض، موزعة على أربع مجموعات، إذ تضم المجموعةُ الأولى (الوصول إلى السوق) العائقَ المرتبطَ بالوصول إلى السوق الداخلية والخارجية الذي يضم اعتماد نظام الحصص في التجارة الخارجية ورسوم الاستيراد والضرائب، غير الرسوم الجمركية، إضافة إلى المتطلبات المحلية وقواعد المنشأ وبعض المعايير وإجازات الاستيراد والتصدير.
تضم المجموعة الثانية (الإدارة الحدودية) ثلاثة عوائق، يرتبط الأول بكفاءة الإدارة الجمركية، لجهة سرعة وسهولة الإجراءات، ونوعية ونطاق الخدمات التي تقدمها السلطات الجمركية، ويرتبط الثاني بكفاءة إجراءات الاستيراد والتصدير، والثالث بشفافية الإدارة الحدودية، لجهة الفساد، إذ إن الرشوة المدفوعة لتسهيل الإجراءات تضيف تكاليف مباشرة على التجارة، إذ يتم تأخير الإجراءات في حال عدم دفع الرشوة. تضم المجموعة الثالثة (البنية التحتية للنقل والاتصالات) ثلاثة عوائق أيضاً، يرتبط الأول بمدى يسر ونوعية البنية التحتية للنقل، والثاني بمدى توافر ونوعية خدمات النقل، في حين يرتبط الثالث بتوافر واستخدام المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، مثل التعقب وتحصيل الرسوم إلكترونياً… إلخ.
خصصت المجموعة الرابعة لبيئة الأعمال، إذ تضمنت عائقين، يرتبط الأول بالبيئة التشريعية، بما فيها سياسة الاستثمار وقوانين التوظيف تحديداً للعمال الأجانب، وقضايا تشريعية أخرى تؤثر في التجارة وتمويلها، بينما يرتبط العائق الأخير بالسلامة والأمن لجهة معدلات الجريمة والسرقات التي تضيف تكاليف على التجارة… إلخ.
في المحصلة، تؤثر تلك العوائق بشكل مباشر في الأعمال التجارية بوساطة زيادة تكاليف التشغيل والنفقات الرأسمالية، وتفاقم من التأخير الذي تواجهه الأعمال، كما تقلّص من حجم النشاط التجاري، وتزيد المخاطر.
بناءً على ذلك، فإنَّ تعظيم العوائد المتوقعة من اعتماد نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض وتمكين فرص تطور التجارة الرأسية في البلد؛ يقتضيان تركيز الجهود على التعامل مع تلك العوائق لإزالتها، علماً أنّ الدارسة خلصت إلى أن تقليص عوائق سلسلة العرض قد تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي نحو 5 بالمئة وزيادة التجارة بنحو 15 بالمئة.
وعليه فإن المطلوب لتفعيل التجارة القائمة على سلسلة العرض، إلى جانب دعم التصدير، تتضمن ما يأتي (ورد بعضها في «وجهة النظر» المذكورة آنفاً، مع بعض الإضافات):
دراسة جدوى دقيقة للصناعات المحتملة التي يمكن الدخول عن طريقها إلى سلسلة العرض العالمية، مثل: الهواتف الذكية، والمكننة الصناعية، والأجهزة الطبية، وغيرها، ودراسة الميزات التنافسية بهدف رفع مستوى التصنيع في هيكل الصادرات.
دراسة التشريعات والأنظمة والقرارات المتعلقة بالاستثمار والتجارة والصناعة والتمويل والضرائب والتأمين، بغية ضمان توافقيتها مع نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية.
إحداث مكتب في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية متخصّص في التجارة القائمة على سلسلة العرض والتجارة الرأسية، بحيث يتولى أمور الدراسات المتعلقة بها، وتحديد العوائق أمام سلسلة العرض، وتحديد متطلبات إزالتها، كما يتابع عمليات التنسيق مع الجهات المشتركة، بين القطاعين، العام والخاص، لضمان عدم التضارب في المصالح، وسير العملية في الاتجاه المخطط له.
تركيز جهود الدبلوماسية الاقتصادية، بالتعاون بين وزارتي الخارجية والاقتصاد، على تعزيز فرص التوسع في سلسلة العرض، مع الدول الصديقة والتكتلات مثل (BRICS)، والاستفادة من تجارب الدول الصديقة في مجال التخصص الرأسي، وخاصة الصين.
توسيع الاستراتيجية الوطنية للتصدير، لتصبح استراتيجية وطنية للتجارة، بحيث تلحظ أهمية العمل باتجاه تمكين التجارة القائمة على سلسلة العرض والتخصص الرأسي، بالترافق مع تفعيل الصناعات التصديرية وإصلاح الخلل في قطاع التصدير، بحسبانه قاطرة رئيسة للنمو.
التركيز على خيارات تحسين مؤشرات الأداء اللوجستي، بدلاً من خفض الرسوم الجمركية فقط، والعمل على تخفيض تكاليف التجارة المباشرة وغير المباشرة، وتقليل المخاطر، وتحسين شبكة النقل والبنية التحتية والاتصالات.
التركيز على العوائق التي تؤثر سلباً في سلسلة العرض، للحدّ منها، وإزالتها، وفق مخطط جدي، حاسم، تحديداً في ما يتعلق بكفاءة وشفافية الإدارة الحدودية والفساد في الجمارك، وتسهيل إجراءات الاستيراد والتصدير، وإلغاء ترشيد الاستيراد الذي فتح التهريب على مصراعيه، وإعادة النظر بإجازات الاستيراد، وسياسات القطع الأجنبي في ما يتعلق بالتصدير على المدى الطويل، وغيرها من الإجراءات التي تسهّل التجارة بالاتجاهين، مع ضمان منافسة عادلة بين الأطراف المشاركة في سلسلة العرض، وعدم حدوث احتكار، والعمل على إشراك المشاريع الصغيرة والمتوسطة في سلسلة العرض والتجارة الرأسية.
الخاتمة
إن تمكين التجارة الخارجية السورية، بوساطة دعم الصناعات التصديرية، وتشجيع التجارة القائمة على سلسلة العرض والتخصص الرأسي متضمنة فرص الإحلال الذكي (الانتقائي) للواردات؛ يشكلان فرصة مهمة لتعزيز أسس ومعدلات التنمية الاقتصادية في سورية، وتشكيل قناة فعّالة لدعم النمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل والحدّ من الفقر، وتطوير بيئة التجارة الخارجية، التي تفرض على القطاعات الاقتصادية تطوير نفسها، وتغيير العقلية السائدة من البحث عن أسواق لما تنتجه، إلى إنتاج ما تطلبه الأسواق، لمصلحة التخطيط العلمي والواقعي للإنتاج، وفق معايير الجودة المطلوبة في الأسواق الخارجية، بكافة حلقاتها وشروطها.
إن موضوع التجارة الخارجية يحتاج إلى مزيد من التحليل، الأفقي والرأسي، للوقوف بدقة أكبر على ملامح هذا القطاع، وعلاقته بالنمو الاقتصادي في سورية، تحديداً التوسع في دراسة قطاع المستوردات، الأمر الذي لم يتسنَّ لنا التوسع فيه ضمن البحث.
المصدر: الاقتصاد اليوم