أنبوب الغاز الروسي ’السيل الشمالي – 2’ وصل إلى بحر البلطيق
جورج حداد
من أهم القضايا الجيواستراتيجية التي يواجهها المجتمع الدولي هي حاجة أوروبا إلى الطاقة. ففي مرحلة تاريخية معينة برزت أوروبا (ولا سيما اوروبا الغربية) على أنها “مصنع” و”مركز العالم”. وحتى اليوم لا تزال أوروبا هي المركز الاقتصادي العالمي الأول، قبل أميركا والصين وروسيا. ومع انتقال العالم من عصر الفحم الحجري الى عصر النفط، ثم الغاز الطبيعي، في الحرب العالمية الأولى، فإن أوروبا أصبحت بحاجة إلى الحصول على الطاقة لأجل صناعاتها وزراعاتها وآلتها الحربية ولأجل الإنارة والتدفئة للسكان، لا سيما في شتاءات أوروبا الباردة. وبدون النفط والغاز فإن اوروبا تموت، بالمعنى الحرفي للكلمة.
وخلال مرحلة الاستعمار الكلاسيكي، فإن أوروبا عاشت واغتنت على حساب نهب خيرات البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في الشرق. وكان النفط أحد أهم المنهوبات. وبعد انهيار الاستعمار القديم خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، وضعت أميركا يدها على النفط في الخليج العربي ـ الفارسي وغيره من المناطق المنتجة للنفط. وصارت السيطرة على النفط إحدى أهم وسائل فرض الوصاية الأميركية على أوروبا.
ومع تعاقب المراحل التاريخية، برزت روسيا كمحور حضاري، قومي وديني وثقافي وسياسي، مستقل عن أوروبا والعالم الغربي، مع أن القسم الأوروبي من روسيا يشكل 40% من إجمالي مساحة القارة الأوروبية.
وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت حاجات أوروبا الى الطاقة تزداد باضطراد. وبدأت روسيا تبرز بوصفها بلدا منتجا للنفط والغاز، قادرا على تلبية الحاجات الاوروبية. ولكن ذلك كان يتعارض طبعا مع مصلحة الولايات المتحدة الاميركية التي تسعى الى استمرار وصايتها على أوروبا، كما يتعارض مع الاتجاهات الأوروبية المعادية تاريخيا للشرق الروسي منذ عهد الامبراطورية الرومانية القديمة.
لكن، في نهاية المطاف فإن المصالح المادية الحيوية هي التي تقرر سلوكيات الدول وليس الاختلافات السياسية والايديولوجية. وهذا ما أفسح في المجال لروسيا، السوفياتية وما بعد السوفياتية، ان تدخل سوق تزويد اوروبا بالغاز الطبيعي الروسي. وفي البدء بمد أنبوب الغاز القاري من روسيا الى اوكرانيا، ومنها كان الغاز يوزع الى الدول الاوروبية الأخرى.
ومقابل استخدام أراضيها، كانت أوكرانيا تحصل على حصتها من الغاز بأسعار مخفضة جدا، كما تحصل على رسوم الترانزيت عن الغاز المار في أراضيها. لكن الطبقة الاوليغارخية الجديدة في اوكرانيا ما بعد السوفياتية سارت في ركاب الغرب وانتهجت خط إثارة الأزمات مع روسيا فأخذت تمتنع عن دفع أثمان كمية الغاز المخصصة لها وتسرق من الغاز المار إلى اوروبا وتدعي ان الكمية لا تصلها كاملة.
وهذا هو سبب “أزمة الغاز” بين روسيا وأوكرانيا سنة 2008. وكي لا تتكرر هذه الأزمة قررت روسيا الاستغناء عن استخدام الأراضي الاوكرانية للترانزيت، وإنشاء أنبوب غاز جنوبي عبر البحر الاسود (كان من المفترض ان يصل الى بلغاريا ومنها يتم التوزيع الى البلدان الاوروبية الشرقية والوسطى، ولكن تقاعس بلغاريا في اعطاء جواب الموافقة النهائية، بسبب الضغوط الاميركية، دفع القيادة الروسية الى الاتفاق مع اردوغان على مد الانبوب عبر تركيا ومنها الى اليونان ومنها يتم التوزيع الى البلدان الاخرى. ولكن هذا الانبوب لم يتم انجازه بعد لاسباب سياسية وادارية وفنية) وكذلك الى انشاء انبوب شمالي تمت تسميته “السيل الشمالي” الذي يعبر من الأراضي الروسية عبر بحر البلطيق ويصل الى شمالي المانيا ومنها يتم التوزيع الى بلدان اوروبا الغربية والوسطى. وقد بدأ هذا الأنبوب في العمل وعين مديرا للشركة الخاصة به المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر. والآن تقوم المانيا بتوزيع الغاز الروسي.
وبحجة حماية أوروبا من التبعية لروسيا، قررت أميركا منذ بضع سنوات إنشاء أنبوب غاز سمِّي في حينه “نابوكو” (على اسم نبوخذنصر) يمتد من محيط بحر قزوين الى تركيا ومنها الى البلدان الاوروبية الاخرى، ويتزود بالغاز من ايران ومن بلدان اسيا الوسطى. ولكن هذا المشروع مات في مهده، اولا بسبب عدم ضمان ان يجد مصادر للغاز، وثانيا لتكلفته العالية مما كان سيجعله غير قادر على منافسة الغاز الروسي. وللغاية نفسها، بحثت أميركا إمكانية العمل لبناء صهاريج بحرية ضخمة لنقل الغاز الصخري الاميركي الى اوروبا، ولكن هذه الفكرة استبعدت ايضا لأن الغاز الأميركي سيصل الى اوروبا عالي الكلفة جدا وغير قادر على مزاحمة الغاز الروسي إلا على حساب زعزعة الاقتصادات الاوروبية ولا سيما البلدان المأزومة وغير الغنية. وهكذا شق الغاز الروسي طريقه إلى الأسواق الاوروبية بالرغم من العقوبات الاقتصادية الاميركية ضد روسيا التي فشلت في الحؤول دون التعامل مع روسيا على صعيد تصدير الغاز.
واضطرت أميركا لأن تبلع لسانها حول هذا الجانب بسبب الحاجات الاوروبية ذاتها. لكن الحاجة الاوروبية الى الغاز ازدادت اكثر من قدرة انبوب “السيل الشمالي” على الضخ. فقررت روسيا انشاء انبوب “السيل الشمالي ـ 2” بجانب “السيل الشمالي” الاول. وطبعا وجد المشروع الجديد معارضة شديدة من قبل اميركا التي مارست كل انواع الضغط لمنعه من أن يبصر النور. وهذا ما دفع روسيا الى التمهل.
واخيرا، اضطرت اميركا للرضوخ للأمر الواقع. وقد اكتمل مد الوصلة على الاراضي الروسية من منابع التوريد حتى الشاطئ الروسي لبحر البلطيق، وبدأ الان العمل لمد الوصلة في اعماق بحر البلطيق من الشاطئ الروسي الى الشاطئ الالماني في الشمال. وسيكون الانبوب الجديد مزدوجا من اجل المزيد من قدرة الضخ. وقد تأسست لهذا الغرض شركة مستقلة باسم Nord Stream 2 AG، واكدت الشركة ان العمل قد بدأ في الخليج الفنلندي المحاذي لروسيا ومن المقرر ان يجري العمل بشكل متواصل دون أية عطل وليل نهار.
وقبل وبعد مدّ الانبوب ستقوم سفينة أبحاث خاصة بدراسة أوضاع قاع البحر، بدراسة وضع الأنبوب. وتم تنسيق جميع الاجراءات الامنية والايكولوجية بالتعاون مع مصلحة المواصلات الفنلندية ومديرية حرس السواحل، ويجري العمل بإشراف السلطات الوطنية الفنلندية.
بالمقابل، بدأ العمل لمد الأنبوب في القسم البري الألماني في نهاية شهر تموز الماضي، حسبما صرح في نهاية الشهر الماضي كريستوفر ديلبروك، المدير المالي لشركة Uniper (إحدى الشركات الغربية المساهمة في المشروع الى جانب شركة “غازبروم” الروسية) كما نقلت وكالة ريا نوفوستي. وتبلغ طاقة هذا الخط المزدوج 55 مليار متر مكعب من الغاز المسال، سنويا. ويبلغ طول الخط البحري 175 كلم. وقد أعطت ألمانيا، فنلندا والسويد موافقتها على مد الأنبوب في المياه الإقليمية الخاصة بها، فيما تخلفت الدانمارك عن الموافقة.
ولهذا فإن الشركة المنفذة ستعمل على حرف الخط كي يلتف حول المياه الاقليمية الدانماركية بدون اية زيادة في النفقات. وحسب تصريح مانفريد لايتنر، عضو مجلس ادارة شركة النفط والغاز النمساوية OMV، المشاركة في المشروع فإن الكلفة الإجمالية للوصلة البحرية ستبقى ضمن مبلغ 9.5 مليار يورو.
وأبدت كل من اميركا، ليتوانيا، لاتفيا وبولونيا معارضتها الشديدة للمشروع، بحجة أنه مشروع سياسي، ويزيد من تبعية اوروبا للغاز الروسي. الا ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد ان الدوافع الرئيسية لهذا المشروع هي اقتصادية كليا.
وحتى الان فإن المساهم الرئيسي في مشروع الخط البحري هي شركة “غازبروم” الروسية التي تمتلك 50% من الاسهم. وتتقاسم الشركتان الالمانيتان Wintershall و Uniper، والشركة النمساوية OMV، والشركة الفرنسية Engi، والشركة الهولندية Shell، بقية الأسهم.
هذا وقد صادق مجلس السيناتورات الأميركي مؤخرا على قانون جديد لفرض العقوبات على الشركات التي تساهم في تنفيذ أو تمويل هذا المشروع. الا ان الرئيس دونالد ترامب لم يوقع القانون بعد. والمشروع يتابع العمل بدون توقف.
ويقول بعض الخبراء انه بعد ان يبدأ “السيل الشمالي ـ2” في العمل سيكون غير ما قبله. حيث ان المناخ السياسي في اوروبا والعالم كله سيتبدل كثيرا.
العهد