المتغيرات الدولية وأميركا وإسرائيل
د. يوسف جاد الحق
قد لا يكون جديداً القول إن أميركا تعيش اليوم أسوأ أحوالها على أكثر من صعيد، فهي:
أولاً: تعاني أزمة اقتصادية مالية تمسك بخناقها، آخذة في التفاقم أكثر فأكثر ولاسيما في عهد رئيسها الحالي دونالد ترامب.
لقد بلغت مديونيتها للصين ولدول أخرى رقماً قياسياً، إضافة إلى عجز ميزانيتها بما ينوف على أربعة تريليونات من الدولارات، وربما يعزى هذا الوضع البائس إلى سببين رئيسيين، أحدهما مغامراتها العسكرية العدوانية التي تدفعها إليها جماعة «المحافظين اليهود الجدد»، إذ هم يصورون لها أنها سيدة العالم بلا منازع، وأنها المهيمنة الوحيدة على أقداره ومقدراته، فتشن حروباً على العراق وأفغانستان والصومال، ثم على سورية وليبيا بطريقة غير مباشرة وعبر مرتزقة من الإرهابيين من داعش وجبهة النصرة وغيرهما وفي وقت واحد تقريباً. وثانيهما الألاعيب اليهودية بمقدراتها المالية والاقتصادية في عمليات المضاربات العقارية والعقوبات العشوائية، والبورصة وغيرها من أوجه النشاط الاقتصادي والإنتاجي.
وقد نضيف إلى هذا سطوة هذه الجماعة على الإدارة الأميركية إلى حد تسخيرها في خدمة الأهداف الصهيونية الإسرائيلية ولو حتى آخر جندي أميركي، وآخر دولار أيضاً!
ثانياً: تعاني أميركا الآن، وعلى أرض الواقع، هزائم سياسية في أكثر من ميدان، فهي لم تعد قادرة على التحكم في قرارات المحافل الدولية، كمجلس الأمن، وهيئة الأمم المتحدة، وهيئة اليونيسكو، وغيرها، كما كان عليه الحال فيما مضى وإلى أمد طويل، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات، يحدث هذا في وقت شرعت في التكون قوى عظمى مناهضة لسياساتها، تتمثل في الوقت الحاضر في دول البريكس أي روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، بل إن دولاً كثيرة في أماكن شتى من العالم لم تعد تكترث لتهديدات أميركا سواء عن طريق القوة أم حجب الدعم المالي والمعونة المالية أو العقوبات، بعد أن ثبت هزالها وهشاشتها.
هذا فضلاً عن انكشاف ادعاءاتها الكاذبة المضللة حول رعايتها لحقوق الإنسان، في وقت رأى العالم، ويرى في كل يوم، اختلال الموازين، وتعدد المكاييل التي تزن بها وتكيل في مختلف القضايا العالمية والإنسانية، وليس أدل على ذلك من موقفها من الممارسات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، على مدى عقود طويلة، لم تسمح حتى بمجرد إدانتها، ولو بالكلام وحده، الذي لا يقدم ولا يؤخر، على حين تصدر في كل عام قوائم بأسماء دول تنسب إليها انتهاك تلك الحقوق، كما يحلو لها أن تطلق عليها تسميات مختلفة عجيبة كالإرهاب، وقوى الشر، وما إلى ذلك من ترهات وأباطيل مستثنية إسرائيل بطبيعة الحال.
ثالثاً: تمارس أسوأ أشكال التمييز العنصري، سواء على شعوب دول في أماكن كثيرة من العالم، أم على أرضها بين فئات من الشعب الأميركي نفسه، ناهيك عن اختلال الموازين في الدخل وفرص العمل، وسيادة البطالة، والتقشف، والفقر في الأوساط الشعبية، ولاسيما لدى المواطنين السود، وهذه الأخيرة تسمية أميركية، وقد أمسى العالم يرى المظاهرات في «وول ستريت» وأمام البيت الأبيض ذاته، احتجاجاً واستنكاراً للسياسات الاقتصادية المنحازة والمجحفة بحق هؤلاء، على حين يعفى من الضرائب كبار الرأسماليين، ومحتكرو صناعة السلاح والنفط، والبورصة وغيرها وغيرها، وجلهم من اليهود.
رابعاً: قد هزمت أميركا على الصعيد العسكري في كل مكان قامت بالعدوان الحربي عليه، لقد خرجت من العراق، بعد ثماني سنوات متصلة تجر أذيال الخيبة، وقد كلفتها تلك الحرب من القتلى في جنودها والخسائر في معداتها وخزينتها، ما لا حصر له ولا قبل لها به، وصحيح أنها أحلَّت في العراق دماراً وخراباً، وجرائم لا إنسانية في أهله مما يكلل جبينها بالعار إلى أبد الدهر، إلا أنها خرجت في نهاية المطاف مهزومة مدحورة، وفي أفغانستان ها هي ذي لا تعرف، حتى الآن، وبعد انقضاء السنين الطويلة، كيف تخرج من ورطتها وحلف الأطلسي معها، في ذلك البلد الذي كادت أن تقضي على أسباب الحياة فيه، ناهيك عن ممارسات جنودها والمرتزقة الذين كانوا ومازالوا يتخذون من القتل وسيلة للتسلية، والمراهنة على أرواح البشر ودمائهم، ومما لا ينسى لأميركا أفضالها في غوانتانامو، فهو وحده كفيل بأن يضع أميركا في أدنى المستويات الأخلاقية والإنسانية إن لم نقل ما يجردها منها.
في كل ما سلف نجد أيدي «المحافظين اليهود الجدد»، واللوبي اليهودي وإسرائيل وراءه.
ونعرِّج على الحالة الإسرائيلية في وقتنا الراهن، فما تعانيه هذه ليس أقل مما تعانيه أميركا، إن لم يكن أشد سوءاً، حيث إنها هي نفسها باتت تدرك أنها بدأت عدها التنازلي المفضي، في نهاية المطاف، إلى زوالها كياناً ووجوداً، من هذه المنطقة التي فرضت نفسها عليها بدعم من قوى معادية لأمتنا، لحقبة من الزمن، أشاعت فيها الموت والدمار لشعب مسالم يعيش على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، فإسرائيل تعتمد في وجودها نفسه على أميركا، وما يصيب أميركا سينعكس عليها بالقطع.
لقد تغيرت الأوضاع كلها اليوم، فها هي إسرائيل تلحق بها سلسلة من الهزائم المتلاحقة بدءاً من عام 1973، في حربها مع مصر وسورية، ثم تتلقى بعد ذلك هزيمة أخرى عام 1982 في لبنان، ثم تخرج في عام 2000 من جنوب لبنان صاغرة تحت ضربات المقاومة اللبنانية، أعقب ذلك هزيمة منكرة لها عام 2006 في جنوب لبنان، كما حدث الشيء نفسه في غزة عامي 2008/2009، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض التي لا تزيد مساحتها عن 260 كم2، المفتوحة ميدانياً وتضاريسياً، حيث لا جبال ولا غابات تقيها ضربات الطيران الإسرائيلي وقصف دباباته ومدفعيته وأسلحتها المحرمة دولياً على شعب أعزل، ولا ننسى هنا ما بدا من ضعفها المزري أمام الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، حتى أمام حجارة أطفالها ومقاليعهم.
إذاً لم تعد إسرائيل تلك القوة التي أخافت الكثيرين ذات يوم، بفعل إجرامها غير المسبوق من ناحية، وآلة الإعلام المضلل والمهوِّل لقوتها من ناحية ثانية، وانتكاساتها وهزائمها المتتالية ما هي سوى مقدمات لما هو آت، ولا يساورنا الشك في أنها سوف تدفع الثمن لكل ما قامت به إزاء شعب فلسطين وشعوب عربية أخرى.
من هنا نرى أن المستقبل ينبئ بأن هاتين الدولتين المتغطرستين تواجهان مستقبلاً مشتركاً واحداً، سوف يحيل البيت الأبيض إلى بيت أسود، كما يحيل إسرائيل إلى خبر كان، الظواهر المشهودة اليوم والمتغيرات المتسارعة على الصعيد العالمي تؤكد هذه الحقيقة.
لقد أثبت التاريخ عبر عصوره المتواليات أن ما يخالف سنن الكون لا ديمومة له، وإسرائيل خالفت قوانين الأرض وشرائع السماء والسنن الكونية في كل ما أقدمت عليه، بل إن وجودها نفسه على أرض اغتصبتها، وشعب شردته وقتلت ما لا يحصيه عدد من أبنائه، فضلاً عما أحاقت به من مآسي وويلات لا حصر لها سوف يفضي في نهاية المطاف إلى زوالها، شأنها شأن غزوات كثيرة، عرفها التاريخ، على هذه الديار المقدسة.
أجل، لقد بدأ العد التنازلي في كلتا الدولتين أميركا وإسرائيل، إسرائيل إلى زوال وأميركا لن تزول ولكنها سوف تمشي في أدنى مراتب الدول في النظام الدولي الجديد، بعد أن كانت على رأسه لحقبة من الزمن، ولا ريب أن لعلاقتها بإسرائيل سبباً مباشراً فيما سيلحقها من أذى على كل صعيد.
الوطن