هل حقاً باتت سوريّة عاجزة، وأسيرة للتفاهمات الإقليمية والدولية؟.
سمير الفزاع
يعتقد البعض بأن أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، تُعد أخطر أزمات الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، قد يبدو ذلك صحيحاً للوهلة الأولى، ولكن عند التدقيق ببعض مجريات الأحداث ونتائجها نجد بأنها تخبرنا بغير ذلك تماماً… ليس الكاريبي ولا كوبا هي ساحة الصراع التاريخي بين القوى العظمى، فلا النفط والغاز، ولا حلقات الوصل بين القارات، والكيان الصهيوني، والجذب الحضاري والحوض اللاهوتي… هناك؛ بل في المشرق العربي، وتحديداً في بلاد الشام، وفي المركز منها سورية.
العبارة التاريخية للإمبراطور الروماني “هادريان”:”تحقيق السلام باستخدام القوة”، إعتبرها الرئيس ريغان (1981-1989) إحدى الدعائم الأساسية للسياسة الخارجية، وفي عام 1983، أوضح ذلك على النحو التالي:”نحن نعلم أن السلام هو الشرط الذي بموجبه تزدهر البشرية، ولكنّ السلام لا يتواجد بمحض إرادته. إنه يعتمد علينا، وعلى شجاعتنا في بنائه وتحصينه ونقله إلى الأجيال القادمة”. تلك العبارة، فتحت باباً موصداً منذ الحرب العالمية الثانية، إستخدام السلاح النووي في “فرض السلام” وتركيع الخصوم، تذكرون حتماً اليورانيوم المنضب في العرق، وزر ترامب الكبير. بالفعل، أجرت واشنطن حينها مناورات نوويّة في أوروبا بالقرب من الحدود السوفيتيّة وردت موسكو بالمثل، لم يكن هذا تعبير عن إستعراض العضلات فقط؛ بل وترجمة للشعار السابق، وتمهيداً لحدثين حاسمين على الأقل: إغراق موسكو في سباق التسلح والمستنقع الأفغاني، وفرض تسوية للصراع العربي-الصهيوني عبر ميزوري وشولتز ومبادرة فهد، تُكمل ما بدأه السادات في كامب ديفيد.
في كل المعمورة، كانت الإصطفافات وتقاسم النفوذ بين واشنطن وموسكو واضحة تماماً إلا في نقطة واحدة فقط تقريباً، المشرق العربي حيث لا حدود ثابتة بين حلفي وارسو والنيتو. ولكن بعد كامب ديفيد والحرب العراقية-الإيرانية، حُسم الفضاء الذي يدور فيه المشرق العربي لصالح واشنطن بإستثناء سورية. دمشق الحليف التاريخي لموسكو المترنحة، والحاضرة بقوة في لبنان، وشريكة مصر في أمسها عندما حاربت كيان العدو الصهيوني، وحليفة إيران المناهضة للنفوذ الأمريكي، والخصم اللدود لواشنطن في كل حركاتها وسكناتها في المنطقة… إنها العقدة التي بقيت دون حلّ طوال حُكم الرئيس حافظ الأسد، ولكن ماذا عن بشار حافظ الأسد؟.
هل صحيح بأن سوريّة لم تحرر أرضها من أدوات إرهابية تغزوها لمصلحة آخرين، إلا عبر تفاهمات تُبرمها روسيا مع أعداء سوريّة سواء كانوا أميركيين أو صهاينة أو أتراك أو عرباً…؟!. في تسريب صوتي نشرته “نيويورك تايمز”، في 30/9/2017، أعرب كيري عن إحباطه بسبب عدم تمكنه من إنهاء الأزمة السورية. كان ذلك خلال لقاء بالأمم المتحدة في 22 أيلول، مع “معارضين سوريين” مباشرة بعد انهيار وقف لإطلاق النار في حلب. يقول كيري:”رأينا أن قوة داعش كانت في تزايد وكنا نعتقد أن الأسد كان مهدداً بالفعل…نحن نعلم أن داعش كان يكبر، وكنا نتابع. اعتقدنا أننا بذلك نستطيع حمل الأسد على التفاوض وبدلاً من أن يفاوض “حصل” على دعم من بوتين”.
ما الذي يريد كيري من الرئيس بشار حافظ الأسد التفاوض حوله؟!.
اليوم كما الأمس، عندما يقول البيت الأبيض أو وزارتا الحرب والخارجية الأميركيتين:”عازمون على البقاء في سورية ليس لإلحاق الهزيمة بداعش فحسب؛ بل لضمان انسحاب القوات الإيرانية…” لنكن على يقين بأن القصد هو هو: تسخير “الحضور” الأمريكي عبر أدواتهم أو بحضورهم المباشرة في المشهد السوري بعد أن لاحت نهاية داعش، لسبب جوهري؛ إجبار الأسد على التفاوض. وعناصر التفاوض قديمة ومعروفة، ولكن في كل مرّة تُطرح بصيغة ومشروع جديدين: تخلي سوريّة عن حلفائها في إيران ولبنان وفلسطين وحلف المقاومة، تيسير عقد تسوية سياسية تنهي القضية الفلسطينية إلى الأبد، تبني نهج سياسي-إجتماعي-إقتصادي-ثقافي تمليه واشنطن ومؤسسات الغزو والنهب الدولي كالبنك وصندوق النقد الدوليين… وصولاً للهدف الإستراتيجي المرعب الذي ظهر في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2003، حيث تقام الحكومة العالمية الواحدة التي تُدار من واشنطن، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بالسيطرة التامة على المشرق العربي، وسحق أي نفوذ منافس فيه، وخصوصاً العدو التاريخي في موسكو.
وبدلاً من أن ينبطح “الأسد” مع قطيع “الإعتدال العربي” أطلق موقفه الشهير والمفتاحيّ لفهم الكثير من تصرفاته اللاحقة:”إذا كانت المقاومة مُكلفة فإنها تبقى أقل كلفة من الإستسلام للغرب، ولا إمكانية للإنتصار مع الإستسلام له بينما تحمل المقاومة -في أسوأ الأحوال- فرص متساوية من حيث الربح والخسارة “. تجلّى هذا الموقف في آخر نماذج “الغزوات” الصهيو-أمريكية والرجعية العربية، الربيع العربي. ولأن ما جرى لم يكن ربيعاً كما لم يكن عربيّاً، ولأن الهجمة كانت أكثر من قاسية، والهدف منها تجريف المشرق العربي بالكامل، وإعادة تشكيله وفق تطلعات الحكومة العالمية… لم يكتفي الرئيس بشار حافظ الأسد برفض شروطهم مجدداً؛ بل عمد إلى توسيع رقعة الصراع إقليميّا،ً ومن ثمّ دولياً. لقد منح موسكو فرصة نادرة لتستعيد بها موقعها، وتصحح الآثار الكارثية التي خلّفها إنهيار الإتحاد السوفيتي بكل مقدماته، كامب ديفيد، حرب أفغانستان، سباق التسلح، تكلس مفاصل حياة الإتحاد… عبر تحالفها مع سورية وإيران وحزب الله والصين وآخرين… وليكن واضحاً، أن روسيا خاضت معارك في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، ولكن تلك المعارك لم تكن أبداً في سياق تعديل موازين القوى الدولية وتعديل آثار الإنهيار السوفيتي الكبير وغير المبرر على هذا النحو على الأقل؛ بل كانت في سياق الدفاع المباشر عن النفس وعن البقاء، بينما كانت المعركة الأولى والأهم والأخطر لتصحيح تلك الوقائع والموازين في أكثر بقاع الأرض حساسية وأهمية، سورية… عندها لن نستغرب لماذا أمر ترامب بإغتيال بشار الأسد.
لا أعرف كيف وصل “الأسد” وفريقه إلى المعادلة التي جعلت سيناتوراً أمريكياً “ريتشارد بلاك” يقول بأن إنتصار سوريّة ما كان ليحصل لولا تأييد الله… صحيح بأن سورية قدمت لموسكو تلك الفرصة الذهبية، ولكنها نسجت معادلة إستثنائية في توقيتها ومحتواها ونتائجها: لا يمكن لواشنطن الإنتصار على أعدائها الدوليين –وخصوصا الصين وروسيا- إلا بالسيطرة على المشرق العربي، ولا يمكن لها أن تُنفذ مشروعها في المشرق العربي إلا يإخضاع سوريّة للنفوذ الأمريكي… أقنع “الأسد” موسكو بالتدخل، فصار الإنتصار السوري ممكناً بالقضاء على أدوات واشنطن وحلفائها، وباتت هزيمة سورية شبه مستحيلة لأنها تتطلب هزيمة سوريّة وهزيمة روسيا -على الأقل- في سوريّة… لذلك يتقدم الجيش العربي السوري وحلفائه وتخسر واشنطن وأدواتها. ولكن، يجب أن نبقى في غاية الحذر من هذه المعادلة، لأنها قد تكون بوابة حرب إقليمية –في الحدّ الأدنى- تندفع إليها واشنطن وحلفائها كخيار لا بدّ منه، خصوصاً وأن “الأسد” يرفض التفاوض على شروط الإستسلام التي قدمتها له أمريكا، أولاً، وأنّ ثمن هزيمتها وحلفائها أكبر مما يمكن تحمله، ثانياً… هذا بعض ما فعلته سورية التي يقال عنها بأنها عاجزة، وأسيرة للتفاهمات الدولية.