الفصل الأخير في الحل العسكري للأزمة السورية
فيصل جلول
مع عودة إدلب إلى حضن الدولة السورية، سيكون سقف التنازلات السياسية التي سيقدمها الرئيس السوري متواضعاً للغاية، ولن يصل في كل الحالات إلى تنازلات طائفية وإثنية من النوع الذي تطالب بها الدول الغربية. وإن تم ذلك فإن الحرب السورية تكون قد ختمت بالحل العسكري على الطريقة الجزائرية وذلك بخلاف كل التوقّعات التي قالت ألا حلّ عسكرياً للأزمة السورية.
اعترف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان بأن الرئيس السوري بشّار الأسد قد ربح الحرب في سوريا. هذا الاعتراف يعني ضمناً هزيمة الدول التي اجتمعت من أجل إسقاط دمشق في العامين 2012 و2013 في تونس وإسطنبول ومراكش وباريس وروما ومن بعد في لندن وباريس وعواصم أخرى، وقد وصل عددها إلى 112 دولة، من ضمنها بطبيعة الحال، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وعدد من الدول الأوروبية والعربية.
اعتراف لو دريان بالهزيمة في الحرب الدولية على سوريا، سبقه اعتراف من كبار المثقفين الفرنسيين بهزيمة الغرب في “أول حرب مباشرة مع قائد عربي منذ قرون”، وكنا قد أشرنا في حينه، إلى ما ذكره الباحث الفرنسي المرموق أوليفييه روا في هذا الصددّ، ومنظِّر ما يُسمّى ب “الربيع العربي” برنار هنري ليفي.
لكن لو دريان أحب أن يتشاطر بالقول أن “الأسد ربح الحرب لكنه لم يربح السلام”، وحتى يربحه عليه أن يستمع إلى مطالب “أصدقاء سوريا” الذين ضمر عددهم حتى وصل مؤخراً إلى أقل من عشر دول، وهؤلاء يريدون بحسب الرئيس إيمانيوال ماكرون في خطاب ألقاه مؤخراً أمام السفراء الفرنسيين في الخارج “أن يكون للأقليات الدينية والإثنية دورها في مستقبل سوريا على قدم المساواة”، وحتى يكون لها هذا الدور، يجب إعداد دستور جديد يكرس لها ذلك، بشهادة وضمان الدول الكبرى، ما يعني بوضوح، أن على بشار الأسد الذي ربح الحرب على جبهات القتال، كي لا تسقط بلاده في الهاوية الإثنية، أن يخسرها في عملية السلام في سوريا فتصبح شبيهة بالعراق الجريح، كما نراه أمام أعيننا هذه الأيام، مطعوناً بدستور الطوائف والإثنيات الذي فرضه المحتل الأميركي على العراقيين عام 2005.
يزيد لو دريان وآخرون أنه لكي يُعيد الأسد إعمار بلاده سيحتاج إلى أوروبا، لأن حليفه الروسي لا يمتلك المال، ولن تدفع أوروبا يورو واحداً ما لم يبن السلام في سوريا بشروط أوروبية أو غربية، أي على قاعدة الإثنيات والطوائف.
قد لا يكون كلام وزير الخارجية الفرنسي مجرداً من الحقيقة، لكن لسوريا أيضاً حلفاء وأصدقاء، يمكن أن يساهموا، جزئياً على الأقل، بإعادة الإعمار ولديهم بعض الوسائل، ناهيك عن برمجة العملية برمّتها على زمن أطول وترتيب أولويات تأخذ بعين الاعتبار عودة النازحين.
يتناسب الاعتراف الفرنسي بهزيمة الغرب في سوريا، مع طبيعة الإصلاحات السياسية المواكبة للحرب والتي يعبر عنها مسار “أستانة” حيث لا مشاركة غربية في هذه الاجتماعات حتى على مستوى مراقب، علماً أنها تبحث بترتيبات سياسية ودستورية لم تخترق حتى الآن سقف الدستور السوري الجديد، للعام 2012 وينص صراحة في مادته الثانية على أن “السيادة للشعب السوري” ولا يحق” لفرد أو لجماعة ادعاء هذه السيادة” ، وتقطع هذه المادة الطريق على دستور الطوائف والإثنيات الذي تريده الدول الغربية لسوريا.
يؤدّي بنا ما سبق إلى استنتاج مفاده أن الأسد ربح الحرب السورية، ويقود بمساعدة الروس والإيرانيين ونصف إذعان تركي، عملية سياسية تحفظ النظام ولا تفكّكه، من دون أن تنجح الدول الغربية في تعديل هذا المسار أو الانخراط فيه بشروطها، لكنها رغم ذلك، تضع العصي في دواليب العملية العسكرية التي يقودها الجيش السوري من أجل استعادة إدلب ومن بعد كل الأراضي السورية المحتلة.
تزعم الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا وجزء من حكومة ألمانيا أن آلاف المدنيين (ترامب يقول مئات الآلاف) سيسقطون في محافظة إدلب، وإن الحكومة السورية ستستخدم السلاح الكيماوي، وإن فعلت ستتلقّى رداً أكبر من ذي قبل، بحسب جون بولتون مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب. ماذا تريد هذه الدول التي دمّرت الموصل في العراق والرقة في سوريا بداعي مكافحة الإرهاب من دون أن يرفّ لها جفن على آلاف المدنيين الذين سقطوا؟ هل تريد هذه الدول الاشتراك في حرب تحمي داعش والنصرة والإيغور والشيشان والأوزبيك الذين يتجمعون في القسم الشمالي من إدلب وريفها؟ أم يريدون حماية “الجبهة الوطنية السورية” المؤيّدة لأردوغان في جنوب المحافظة؟ ماذا يربحون من هذا الدعم؟ ثم هل يستطيعون فعلاً المغامرة بإنزال جيوش على الأرض ما دام القصف الجوي، غير كاف لربح معركة، فما بالك بالحرب؟ ولنفترض أنهم يريدون حماية الإرهابيين وتغيير مسار الحرب السورية لماذا انتظروا سقوط حمص وحماة وحلب والغوطة ودرعا لكي يغيّروا المسار؟ الإجابات عن هذه الأسئلة لا توحي باستعداد غربي لخوض حرب على الأرض مع الجيش السوري وحلفائه، وبالتالي إحداث فارق في مصير الحرب السورية. ولو كانت هذه الإمكانية متاحة لما انتظر هؤلاء حتى معركة إدلب. وهم للتذكير يكرّرون الآن التصريحات التي أطلقوها عشيّة استرداد حلب ودرعا والغوطة ولم تغيّر نتيجة الحرب في تلك المواقع.
الخصوصية الأبرز في إدلب تأتي من الجهة التركية. فالسيّد أردوغان لا يريد حرباً على حلفائه المحاصرين في جنوب المحافظة السورية، من طرف أحرار الشام الذين صنّفهم مؤخراً جماعة إرهابية ومن الجيش السوري، وبالتالي سيكون من الصعب ضمان خطوط إمدادهم. وإن خسر أردوغان هذه الجماعة من المسلحين الموالين له، سيضعف موقفه في مواجهة حزب العمال الكردستاني وأنصاره في الشرق السوري، وسيكون مضطراً من بعد إلى الارتداد نحو الحدود، مهزوماً، بعد استثمار 7 سنوات على الأقل في الحرب السورية. والأخطر من ذلك إنه سيكون مضطراً للابتعاد عن الروس أيضاً من دون أن تكون الأحضان الغربية مستعجلة لتوبته، فقد سمعنا ماكرون في الخطاب نفسه يستبعد ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي” لأن أردوغان يبحث عن تكوين عالم إسلامي” بعيداً من نهج رئيس الدولة العلماني كمال أتاتورك.
يبقى أن إدلب تشكّل خطراً جدّياً على قاعدة حميميم الروسية التي تعرّضت لهجمات بطائرات مسيّرة، تماماً كما تعرضت اللاذقية لصواريخ الإرهابيين وهجماتهم. ما يعني أن أمن الروس والجيش السوري على المحك مباشرة في هذه المحافظة التي سينتهي بها المطاف إلى سلطة الدولة السورية ربما خلال أسابيع أو شهور معدودة، ومن بعد يتوجّه الجيش السوري شرقاً لاستعادة المواقع التي تسيطر عليها القوات الأميركية.
مع عودة إدلب إلى حضن الدولة السورية، سيكون سقف التنازلات السياسية التي سيقدمها الرئيس السوري متواضعاً للغاية، ولن يصل في كل الحالات إلى تنازلات طائفية وإثنية من النوع الذي تطالب بها الدول الغربية. وإن تم ذلك فإن الحرب السورية تكون قد ختمت بالحل العسكري على الطريقة الجزائرية وذلك بخلاف كل التوقّعات التي قالت ألا حلّ عسكرياً للأزمة السورية.
الميادين