تركيا بين سقف المطامع وأرض الواقع في سورية
العميد الركن د. أمين محمد حطيط
من غير شكّ فإنّ لتركيا الآن دوراً مهماً في موضوع إدلب ومنطقتها، دور يجعل من قرار تركيا وسلوكها مؤثراً بعمق في عملية استعادة المنطقة التي يسيطر عليها الإرهابيون وهي منطقة تكاد تعادل مساحة لبنان وتزيد على 10 آلاف كلم2 يحتشد فيها ما يناهز الـ 65 ألف مسلح يحول وجودهم دون ممارسة الحكومة الشرعية مهامها السيادية على الإقليم وحماية المواطنين وتمكينهم من ممارسة حقوقهم كمواطنين سوريين.
فتركيا تستطيع أن تلعب دوراً إيجابياً يستفيد منه الجيش العربي السوري في عملية التحرير لاختصار الوقت والاقتصاد بالجهود والتضحيات، كما يمكنها ان تلعب دوراً سلبياً يقلب الصورة إلى عكسها فيطول الوقت ويتضخّم حجم الكلفة والخسائر.
فأي دور فعلي ستلعبه تركيا في هذا الصدد؟
للإجابة على التساؤل نعود الى الأهداف الرئيسية والدوافع التي حملت تركيا على التدخل العدواني الإجرامي الفظ في سورية، وحيث أنه بالعودة الى ذلك نجد ان هذه الأهداف والطموحات لم تستقرّ على سقف معين حيث انها بدأت في العام 2011 بالعمل على إقامة الإمبراطورية العثمانية الجديدة الممتدّة من تونس إلى سورية عبر ليبيا ومصر وجزء من فلسطين والأردن، وانتهت اليوم مختصرة منحصرة في سورية ب 3 أهداف رئيسية هي:
الهدف الأول وهو ذو طبيعة استراتيجية بوجه دفاعي وبفرعين: الأول يتصل بالأكراد وفيه تسعى تركيا لمنعهم من إقامة كيان ذاتي في الشمال السوري، لأن في هذا الكيان إذا قام تأثير على وحدة الإقليم التركي الذي يعيش فيه ما يناهز الـ 15 مليون كردي 15 من سكان تركيا . والثاني يتصل بالفضاء الاستراتيجي الحيوي لتركيا ويظهر من باب تنافسها مع إيران والسعودية، وتعتبر تركيا أن خروجها من غير مكاسب في سورية يعني ضمور فضائها الاستدراجي إلى حدوده الوطنية. وهذا امر ترفضه تركيا وتعمل لمنع حصوله باي وسيلة.
الهدف الثاني ذو طبيعة سياسية استراتيجية ويتمثل بضمان وجود مميز للإخوان المسلمين في السلطة في سورية بواحد من طريقين: الأول حصولهم على ثلث مقاعد الحكومة ومجلس الشعب أو حصولهم على حكم منطقة الشمال الغربي السوري في إطار الفيدرالية التي يسعى اليها الغرب او اللامركزية الموسعة التي تراها تركيا مناسبة لأهدافها.
الهدف الثالث ذو طبيعة اقتصادية تتصل بالإنتاج والتجارة فضلاً عن مسائل النفط والغاز. ويتمثل بوضع تركيا يدها على الاقتصاد السوري ومنع هذا الاقتصاد من منافستها وجعل سورية الباب المفتوح الواسع أمام البضائع التركية نحو العالم العربي عامة والخليج خاصة.
لهذه الأسباب تبدي تركيا تصلباً في مسألة إدلب وتعمل بكل ما في وسعها لمنع عملية تحريرها على يد الجيش العربي السوري، ولهذه الأسباب أيضاً قامت بمناورتها في طهران اثناء قمة الثلاثي الراعي لتفاهات استانه، حيث حاولت اولاً منع عملية تحرير إدلب، ولما فشلت طرحت فرض هدنة لمدة ستة أشهر تقوم هي خلالها بتفكيك الجماعات المسلحة ضمن تصوّرها لهم وتصنيفها هي للإرهابيين وغير الإرهابيين، ولما رفض طلبها عادت لنغمة إحياء منظومة خفض التصعيد التي أسقطتها هي أصلاً مع الجماعات المسلحة.
لقد كان واضحاً في طهران ان تركيا فشلت في مسعى منع عملية تحرير إدلب ولكنها ظنت أنها استحصلت على أيام إضافية قبل انطلاق العملية أو أقله تأخير انطلاقها أسبوعين ممنية النفس بأن لقاء القمة في سوتشي بين بوتين واردغان الذي اتفق عليه بين الرئيسين في 17 الحالي، سيوفر لها فرصة لتحقيق ما تسعى اليه ويحفظ لها دوراً مميزاً في المنطقة يساعدها في ملامسة أهدافها التي ذكرت. وعلى هذا الأساس سلم الجميع بأن هذه القمة ستكون حاسمة بالنسبة للمواقف التركية والروسية من عملية تحرير إدلب التي يتمسك بوتين بمقولة وجوب اجتثاث الإرهاب منها مهما كانت الظروف ويعوّل على دور تركي إيجابي من المسألة.
بيد أن سورية ومعها محور المقاومة وبالتحالف مع روسيا، لا تستطيع ان تعطي تركيا ما تطلب او تطمح إليه، سوى الفرع الأول من الهدف الأول الذي هو هدف سوري وطني سيادي قبل أي أحد آخر. فسورية لن تتقبل أي صيغة او فكرة انفصالية تمسّ بوحدة ارضها وشعبها، وإذا كان في ذلك ما يريح تركيا فأن سورية لن تكون محرجة في تأمين هذا الهدف من بوابة المصالح السورية الوطنية اما عن التنافس مع الآخرين فإن سورية اختطت لنفسها مساراً استدراجياً منذ أربعة عقود ودافعت عنه في الميدان خلال 8 سنوات ولن تكون مضطرة للمراجعة بما يؤذي هذا المسار.
وفي الهدفين الأخرين فإن سورية لا تستطيع ان تتنازل عن حقوقها السيادية وواقعها الاستقلالي او شيء من مصالحها الاقتصادية، ففي هذا المجال يترك للشعب السوري أن يختار مَن يمثله ويكون على الدولة أن تحفظ مصالح الشعب الاقتصادية في سياق من التعاون والتنسيق المفيد وبشكل ندي لا يتقدّم فيه أحد على أحد.
ونظراً لهذه الحقائق التي تصطدم بها الأهداف التركية نجد أن التركي لا يستقر على موقف أو رأي في موضوع سورية، فمن جهة يجد نفسه في منظومة استانه التي تلزمه باحترام سيادة ووحدة واستقلال سورية، أي تجريده مما يطمح إليه، ومن جهة أخرى يعود الى طموحاته وأهدافه المتعددة ما يحفزه على رفض التخلي عن تلك الأوراق والتصدّي لأي جهة تحاول انتزاعها منه.
وعلى هذا الأساس لا نجد أن هناك إمكانية للمراهنة على موقف تركي اختياري أو تطوّعي تلقائي يساهم في حل مسألة إدلب بما يناسب وحدة واستقلال وسيادة سورية على كامل أرضها بدون إرهاب او احتلال، وبالتالي يكون من المفيد التعاطي مع الموقف التركي على أساس حقيقته وأهدافه والتصدّي لهذه الأهداف بالقوة المركبة المتاحة والممكنة.
والقوة المركبة التي نعنيها هي تضافر الجهود العسكرية في الميدان التي تُشعر التركي بأن المواجهة العسكرية لن تكون في صالحه مهما ابتدع من صيغ التدخل ولبس الأقنعة، وقوة أمنية استخبارية تقنع المسلحين خاصة السوريين منهم بأن عودتهم إلى كنف الدولة هي الضمان الوحيد لمستقبلهم. وفي هذا نذكر بالبراعة السورية في عقد المصالحات والتسويات مع المسلحين، وقوة سياسية دبلوماسية يناط أمرها بروسيا وإيران للضغط على تركيا وانتزاع تأييدها لعملية إدلب بالمشاركة الإيجابية أو أقلها بالحياد. ومن هنا تأتي أهمية لقاء بوتين بأردوغان الذي عقد أمس، في سوتشي لتشكل الفرصة الأخيرة قبل الانطلاق في عملية تحرير إدلب، وهي العملية التي لا يمكن لسورية وحلفائها التفريط بها أو الإعراض عنها لأن من شأن ذلك الإطاحة بمعظم المكتسبات التي تحققت في الحرب الدفاعية التي مارستها سورية بوجه العدوان عليها.
البناء