أَقنِعَةُ إِدلب!
عقيل سعيد محفوض
تتساقط الأقنعة في الموقف حول إدلب، وتتكشف الأمور عن رهانات تتجاوز المشهد السوري نفسه إلى المشهد الإقليمي والعالمي. ويحضر في التجاذبات حول إدلب اليوم أمور تتعلق بروسيا وأميركا وإيران وحزب الله والنفط والغاز واللاجئين والكرد وإسرائيل وطبيعة الدولة السورية في مرحلة ما بعد الحرب، فيما “تغيب” إدلب نفسها عن الأجندة الفعلية لدى فواعل الأزمة، أو أنها تحضُر بوصفها عنوان أو قناع لا أكثر!
يتَعَقَّد الموقفُ حول إدلب، وتراجعت التقديرات المتفائلة حول تكرار سيناريو المنطقة الجنوبية فيها، بل أصبحت عنواناً لمواجهة كبرى وشيكة في سوريا، لا يغير من ذلك اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان حول إقامة منطقة منزوعة السلاح وتجميد العمليات العسكرية. (17 أيلول/سبتمبر الجاري). تقول أنقرة وحلفاؤها الغربيون أنهم كانوا السبب في “إيقاف” أو “تأجيل” عملية عسكرية للجيش السوري وحلفائه ضد إمارة إدلب، في حين أن ذلك –والمرجو ألا يكون مديداً- له أسباب أعمق وأبعد.
تتحدث قصة قصيرة للكاتب والمسرحي الراحل سعد الله ونوس عن حفلة تنكرية، حيث ينزع رجل وإمرأة كل منهما القناع الذي يرتديه، قناع وراء قناع حتى ازدحم المكان وضاق بالأقنعة. هذا هو عين ما يحدث بشأن إدلب، إذ يخلع أردوغان وحلفاؤه قناعاً بعد آخر، من دون أن يتضح للجمهور متى يكون الفصل أو بالأحرى القناع الأخير في المشهد.
الأقنعة/الذرائع التي لدى أنقرة وواشنطن ضد عملية إدلب هي “كلامٌ باطل يُراد به باطل”، وليس لدى دمشق أو موسكو أو طهران أي أوهام بهذا الخصوص. القصة لا تتعلق بـ “قناع” المخاوف على المدنيين، ولا “قناع” استخدام مزعوم للكيماوي، لأن تجربة استعادة درعا والقنيطرة حاضرة، ولم يحدث فيها شيء مما هَوَّلَ به خصوم دمشق حولها، لا معارك كبيرة، ولا لجوء، ولا من يحزنون، بل إن الحياة تعود بسرعة إلى طبيعتها في المحافظتين.
لماذا التهويل التركي والغربي حول إدلب إذاً، وهم يعلمون أن استعادة إدلب أمر يقوم مقام الضرورة، ولا رجعة عنه، إذ لا يمكن التعايش مع إمارة إرهابية فيها؛ ألا تريد أنقرة أن تُجَنِّبَ الموالين لها في إدلب وتتجنب هي معهم تأثيرات الأعمال العسكرية، ألا تمثل عودة المنطقة الجنوبية إلى الدولة السورية منوالاً مناسباً، علماً أن بإمكان أنقرة أن تحصل على ضمانات مزدوجة من موسكو وطهران؟
ذهب أردوغان إلى قمة طهران التي جمعته بالرئيسين الإيراني حسن روحاني والروسي فلاديمير بوتين (7 أيلول/سبتمبر الجاري)، وطلب فيها “تجميد الأوضاع” في إدلب، مقترحاً خطة إجراءات للحل، وَجَدَتْها طهرانُ وموسكو “مشوشة” و”غير مترابطة”، والأهم أنها “غير بريئة”، إذ تتطلب فترة غير محددة من الزمن، ما يعني عملياً “إجهاض” خطة دمشق لاستعادة إدلب، بل والإعداد لإقامة منطقة ذات “وضعية” أو “كيانية” خاصة. رفض الرئيسان روحاني وبوتين مقترحَ أردوغان، لكنهما منحاه مهلة إضافية لتنفيذ تعهداته التي كان قطعها لهما منذ أستانة 4، بأن يفكك جبهة النصرة والتنظيمات الإرهابية الأخرى في إدلب، لكن أردوغان ذهب بعيداً في التصويب على موقف شريكيه في عملية أستانة، ويبدو أن ما حصل عليه في اتفاق سوتشي بينه وبين بوتين في 17 أيلول/سبتمبر الجاري كان أكثر من مهلة، وهو قريب من مطلبه بـ”تجميد” الوضع بشأن إدلب.
يبدو أن الرجل لمس شيئاً من اندفاع أميركي ضد موسكو وطهران يمكن الإستفادة منه؛ كان إيقاع الرجل مدروساً بعناية في طهران، ثم في اسطنبول مساءً عبر تغريدات له نشرها على “تويتر”، ومن المفترض أنه تابع جلسة مجلس الأمن التي عقدت في اليوم نفسه لقمة طهران، ولاحظ أن مندوبي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودي مستورا قالوا كلاماً حول إدلب قريب جداً من كلامه!
ما الذي جعل موسكو وطهران تعطيان أردوغان ما هو أكثر من مهلة وأقل من تجميد وضع في إدلب؟ أول الأسباب هو أن الحرب ليست هدفاً بذاتها، وإنهما يدعمان دمشق في حربها ضد الإرهاب، ومن أجل استعادة سلطة الدولة في منطقة إدلب، ودمشق حريصة على أبنائها، ولا تريد الإضرار بالناس ولا المزيد من اللاجئين.. ثم إن الاستجابة النسبية لمطالب أنقرة سوف تجعل استعادة إدلب أسرع وأقل تكلفة، وسوف يكون لذلك تداعيات على وضعية إدلب في سوريا ما بعد الحرب، وهذا مما يجب التدقيق فيه، وهو ما تهجس فيه الدولة السورية بالتمام.
من الواضح أن موسكو وطهران لاحظتا أن تصعيد أنقرة حول إدلب يتمفصل مع تصعيد واشنطن ضد دمشق وطهران وموسكو، وتصعيد إسرائيل من اعتداءاتها ضد سورية، وهذا ما يتطلب تدبيراً مناسباً، وأول التدبير هو “التأجيل” في إدلب، ثم إعادة التأكيد على عوامل المصلحة المشتركة مع أنقرة، بما في ذلك منحها ضمانات في أمور تتجاوز إدلب، مثل كرد سوريا، وإعادة الإعمار.
أما واشنطن فلديها قصتها أيضاً، يبدو أن ترامب بدأ يأخذ بعضاً من “عقلانية” الدولة العميقة، فيما بدأت الأخيرة تأخذ بعضاً من تهوره وجنونه. وعندما تركز واشنطن ومجموعة العمل المصغرة على شرطٍ رئيسٍ للحل في سورية هو قطع دمشق علاقاتها مع طهران (14 أيلول/سبتمبر الجاري)، فهذا يعني أن ثمة احتمال لتوافق أكبر بين أنقرة وواشنطن، ثم إن الأخيرة تقيم قواعد عسكرية جديدة شرق الفرات، وإن استعادة الدولة السورية السيطرة على إدلب سوف تُعَجِّل في المواجهة بين دمشق وواشنطن هناك.
تتساقط الأقنعة في الموقف حول إدلب، وتتكشف الأمور عن رهانات تتجاوز المشهد السوري نفسه إلى المشهد الإقليمي والعالمي. ويحضر في التجاذبات حول إدلب اليوم أمور تتعلق بروسيا وأميركا وإيران وحزب الله والنفط والغاز واللاجئين والكرد وإسرائيل وطبيعة الدولة السورية في مرحلة ما بعد الحرب، فيما “تغيب” إدلب نفسها عن الأجندة الفعلية لدى فواعل الأزمة، أو أنها تحضُر بوصفها عنوان أو قناع لا أكثر!
الميادين