تحرير إدلب بدأ الآن
أحمد فؤاد
قبل انطلاق معركة سوريا الكبيرة الأخيرة، في إدلب، يظهر الانتصار السوري وشيكًا وشبه كامل، يتحقق بهيًا وعظيمًا، كما هي عادة دمشق، الهاوية لخط التاريخ، منذ ما قبل التاريخ، يدور الزمن دورته الكاملة، وتعود عاصمة الشرق لتكتب بمداد من دم العظماء مفتتح فصل جديد في تاريخ أمتها والمنطقة على السواء.
منذ سنوات صنع تدفق النفط والدولار على صحارى الخليج عالمًا جديدًا، وانتقل الثقل العربي التقليدي من عواصم الحضارة إلى مجاهل البداوة، وتحركت نقاط الفعل العربي جنوبًا إلى حيث ممالك أنشأتها بريطانيا قبل رحيلها الاضطراري، لتحصد الأمة كلها سنوات من الدم والتشرذم والتيه، وتصبح وليمة على مائدة لئام، لم يتورعوا عن تقسيم لحمها حية، وكانت سوريا هي الغنيمة الكبرى في حربهم.
ومع اقتراب نهاية الحرب الكونية على سوريا، تختتم دمشق العروبة أحد أسوأ الفصول العربية، بعجزها وانكفائها، تلقي بأفعال التخاذل والتراجع إلى الصحراء إلى جب النسيان، وتستعيد الدور القيادي المفقود، بعد حرب شهدت مرحلتها الأولى الاشتباك مع الوكلاء المحليين لإمبراطورية الشيطان العالمية، وقرب النهاية، تدخّل اللاعب الحقيقي ليتحمل نصيبه من الفشل، بعد حرق كروت اللعبه كافة، ونهائيًا.
المقاومة من بوابة الوعي بحركة التاريخ، المدركة للتفاعلات بين القوى العالمية – حتى التي تقف في صفها ذاته – كانت السبيل السوري للعصف بمؤامرة كونية “شيطنت” الوطن السوري، بفعل أياد داخلية قذرة، وأموال خليجية تدفقت كما لم تتدفق من قبل، على مقاتلين مأجورين، وأبواق إعلامية، وخطط تفتيت، فضحها كلها حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر السابق، في حديث متلفز، حين اختلف اللصوص.
الوعي السوري بالفارق الهائل بين التحالف مع محور المقاومة -حزب الله والجمهورية الإسلامية- من جهة، والحليف الروسي “المهم والضروري”، من جهة أخرى، لا يسمح لأي مزايدة سواء على دمشق أو موسكو، فمن البداية كانت روسيا في قلب المعركة، وسمح وجودها للجيش العربي السوري وحلفائه، ببسط السيطرة على الغالبية الساحقة من الأراضي السورية، وغطت موسكو الجانب السوري سياسيًا طوال مدة الحرب.
لكن المزايدة على الموقف السوري انطلقت، مع قيام الصهاينة بإسقاط طائرة روسية “إيل 20″، فوق الأراضي السورية، وبدأت الاتهامات للحليف الروسي، الذي يتعامل ببرودة شديدة مع كل استفزاز موجه ضد قواته، وكأن المنتظر مثلًا أن يشن بوتين حربًا عالمية، تحقق للمزايدين إزالة الكيان الصهيوني، بدون إرهاق أو حرب يخوضونها.
سماحة السيد حسن نصر الله، وفي تعليقه على الحرب في سوريا، ودور حزب الله فيها، كظهير للجيش العربي السوري، وللوطن السوري ككل، قال: “أنتم لا تفهمون هذه المقاومة، ثلاثون سنة مضت لم تفهموها ولن تفهموها، والمقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة، مرحلة جديدة بالكامل بدأت الآن”. وبالفعل كانت مرحلة جديدة، بدأت من معارك تحرير القصير في صيف 2013، إلى معارك تحرير القلمون في ربيع 2015، إلى معارك تحرير تدمر في شتاء 2016، والتصميم الكامل على تحرير إدلب، لوضع نهاية سعيدة للحرب.
بداية فإن “المزايدة هي أخت الكفر”، سبيل الضعفاء لرفع أصواتهم، وإعطاء ذواتهم إحساساً بالقيمة، في عالم لا يعترف بهم، وإن اعترف فهو لا يراهم، والأحداث المستمرة للسنة الثامنة في سوريا أثبتت أن الحليف الروسي، وإن كان حليفًا تكتيكيًا، إلا أنه حقق نقلة هائلة لوضعه الدولي، وأفاد سوريا، في الوقت ذاته.
العملية الصهيونية تأتي ردًا على اتفاق سوتشي، الذي انتزع من الغرب ورقة العدوان، عدوان كان ينتظر أول طلقة من الجيش العربي السوري لتحرير إدلب، ليحطم المكتسبات، ويعطي المجموعات الإرهابية المسلحة “قبلة الحياة” من جديد. ونجح بوتين والدبلوماسية الروسية الهادئة في تطويع الموقف التركي وتحقيق مكسب بسيط لأردوغان، لحلحلة موقفه، وكسر حلفه العدواني مع “الناتو”، وكسر الحلف بين الفصائل الإرهابية المسلحة في إدلب، والتفريق بينها.
الاتفاق الروسي الإيراني التركي نزع فتيل التدخل الغربي، وحطم تمامًا آمال الكيان الصهيوني في عمل ينهي تمدد الجيش السوري على كامل ترابه الوطني، والأهم أنه وفر على الجيش العربي السوري الكثير من الدماء، بعد الاتفاق على نزع السلاح الثقيل للفصائل المسلحة الإرهابية من خطوط التماس، وأفقد التحالف بين كل المجموعات المسلحة الظهير التركي الداعم.
الضربة الصهيونية جاءت إثر اتفاق “سوتشي”، كدليل واضح على العجز والضيق، بعد استنفاد كل مسببات التدخل الغربي، ولا بد من قراءتها في هذا السياق، إضافة إلى أن الحليف الروسي ليس هو الاتحاد السوفيتي، وهذه حقيقة لا تبخس روسيا حقها ووضعها الدولي، فبوتين ليس خروشوف، وشويغو وزير دفاعه ليس جوكوف، وزير الدفاع السوفيتي وبطل الحرب العالمية الثانية، الذي هدد وقت العدوان الثلاثي على مصر بمحو لندن وباريس بالصواريخ النووية.
باختصار فإن حلف المقاومة تعامل بمنتهى الواقعية والوعي مع كل التحديات التي خلقها الغرب، وذيوله في الخليج والكيان الصهيوني، حلف يتمتع بالثقة الكاملة في إنهاء ملف إدلب، كما أنهى بنجاح كامل ملفات الغوطة وحلب والجولان.
العهد