القانون الذي أربك السوق وخلط أوراق الرقابة “باقٍ ويتجدّد” ؟!!
مازال القانون رقم 14 الناظم لعمل مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك تشوبه الكثير من التساؤلات لجهة عدم قدرته على كبح جماح التجار، وحتى فرض هيبته على من سطوا على السوق ممن لم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير بالمواطن، فضعف القانون جاء لمصلحة الكثيرين ممن يتبجحون بقدرتهم على دفع “دية” المخالفة والإغلاق، فهل يبقى اعتراف وزارة التجارة الداخلية بضعف الـ 14 “ببعض المطارح”، وعدم لحظه للعديد من الملاحظات، كفيلاً بحل مشاكل المحال التجارية والمستهلك على حد سواء، بعيداً عن سياسة العصا، أم أن التعديلات التي هي بصددها قادرة على الوصول لحلول ترضي التاجر، ولا تكون على حساب المستهلك؟!.. تكهنات لا يقدر على الإجابة عنها إلا أصحاب الدار الذين شدوا الأحزمة للخروج بقانون “عصري” يخدم كافة حلقاته: (تاجر– مستهلك- منتج– مستورد).
مسودة القانون
الدكتور حسام نصر الله، مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية، اعترف خلال حوارنا معه بأن القانون رقم 14 لعام 2015 تجاهل الكثير من الملاحظات التي تحتاج لإعادة النظر، خاصة ما يتعلق بالغرامات المالية للمخالفات التي لم تعد رادعة لحجمها، بغية الوصول إلى قانون يواكب الأوضاع الراهنة، ومسيرة التطوير والتحديث، وبما يخدم المصلحة العامة أولاً، ومصلحة المستهلك، وأصحاب الفعاليات بكافة أنواعها: (التجارية– الصناعية)، ويحقق الأهداف التي تم وضعه من أجلها بالشكل الأمثل، وكشف نصر الله عن إعداد مسودة مشروع تعديلات على بعض مواد القانون المذكور من قبل لجنة تم تشكيلها لدى الوزارة، والوزارات، والجهات المعنية، وأهم ما تضمنته هذه التعديلات رفع قيمة الغرامات المالية، بحيث شملت كافة المخالفات بالتزامن مع رفع مدة عقوبة السجن الواردة في بعض مواد القانون الحالي، والتي يعود تقدير الحكم فيها لقاضي الموضوع، وإضافة لذلك تم تفصيل وشرح بعض المواد التي كانت موضع التباس وغموض لدى التطبيق العملي، بحيث تكون واضحة لا تخضع للتأويل أو التحريف، وإضافة بعض البنود التي أغفلت في القانون النافذ لتكمله من كافة النواحي، ورأى نصر الله أن توسيع قاعدة العقوبات المنصوص عليها ستصبح أكثر حزماً وتأثراً في ضبط المخالفات والتجاوزات في الأسواق، منوّهاً إلى أن رفع قيمة التسويات المالية لبعض المخالفات استند إلى أن قيمة الغرامات الحالية لم تعد رادعة للكثير من أصحاب الفعاليات التجارية، حيث كان البعض يتساهل في ارتكاب المخالفة نظراً لانخفاض قيمة الغرامة المالية، وفي المسودة ما قد يحل تلك المعضلة، إلى جانب توسيع حجم الإغلاقات الإدارية التي تنفذها الوزارة حسب جسامة المخالفة التي عادة ما تشمل الإتجار بالمواد المدعومة من قبل الدولة، وخاصة مادتي الدقيق التمويني، والمحروقات، كما طالت موضوع تداول الفواتير بين حلقات الوساطة التجارية، وبشكل نظامي، وأفاد مدير التجارة الداخلية بأن مشروع التعديلات ركز أيضاً على آلية عمل المراقبين التموينيين، ويصبو إلى مواكبة التطورات الاقتصادية، والتجارية، والقوانين المماثلة في الدول المتقدمة للوصول في النهاية إلى قانون عصري، مشيراً إلى أن القانون في مراحله الأخيرة تمهيداً لرفعه لرئاسة مجلس الوزراء لاستكمال أسباب صدوره أصولاً.
خلاف وليس اختلافاً
الدكتور عابد فضلية، الأستاذ في كلية الاقتصاد، خالف مدير التجارة عند “مغازلته” للقانون الجديد وحداثته، حيث اعتبر أن لا وجود لصفة عصري وغيره، بل هناك قانون مناسب أو غير مناسب للمرحلة، معتبراً أن وجود قانون لحماية التجار، والمنتجين، ورجال الأعمال الوطنيين هو مسألة إيجابية، على ألا يكون ذلك على حساب المستهلك، وشرائح أخرى تنتمي للمجتمع السوري، أما بالنسبة للتعديلات التي تجري على القانون (14) لعام (2015) فرغم توقعه بأنها تهدف لمزيد من الحماية للمستهلك، إلا أنه تساءل عن قدرة التعديلات الفعلية في حماية هذا المستهلك الذي هو الأضعف في سلسلة وأطراف عملية “المبادلة الاقتصادية”، بينما هو الطرف الأقوى بين أطراف هذه السلسلة في المجتمعات الرأسمالية الحرة التي يتهمها البعض بالامبريالية الاستغلالية، تلك المجتمعات والدول التي توجد فيها منذ عقود تشريعات لحمايته، وجمعيات حرة قوية وفاعلة للدفاع عنه، وتعظيم منافعه على حد تعبيره، وفي الوقت الذي انتقد الدكتور فضلية توصيف مدير حماية المستهلك، أثنى من جانب آخر على حديثه في أن مسودة القانون المزمع إصداره تخدم كل الحلقات ذات الصلة بالتبادل والاستهلاك، هذا إذا ما افترضنا– والقول لفضلية- أن توازن المستهلك يتعلق بتوازن المنتج، وتوازن السوق يتعلق بتوازن كليهما، وتوازن أو رضى المجتمع يتعلق بدوره بتوازن هذا الثالوث، منوّهاً على أن نجاح تطبيق أحكام القانون سيحقق مصلحة كل الحلقات ذات الصلة، شريطة التطبيق العملي لأحكامه على أرض الواقع، وهي شروط ليس من المضمون تحققها، والحديث للدكتور فضلية.
تشكيك
الدكتور فضلية الذي أثنى على نية “التجارة الداخلية”، ومساعيها ليكون القانون لصالح المستهلك، شكك بإمكانية ردع المخالفين حتى لو تم تشديد العقوبات على المخالفات التموينية، ورفع مبالغ تسويات الضبوط، وزيادة مدة السجن، كما لم يتفاءل بتطبيق أحكام القانون بصورة مهنية وشفافة، وبالتالي فإن حماية المستهلك ستكون رهن توازن التطبيق على أرض الواقع، ومستوى النص القانوني، سواء من ناحية الرقابة الفعالة والكافية، ومنطقية ومرونة لوائح الأسعار المطلوب الالتزام بها، وهذا بدوره مشكوك به على حد تعبيره، واقترح فضلية زيادة المنافسة في السوق عن طريق تشجيع زيادة الإنتاج الوطني، والسماح باستيراد كل ما يلزم من احتياجاته، خاصة ما يتم تهريبه، والتركيز على ضرورة الالتزام بالمواصفات والمقاييس، وبإعلان الأسعار أكثر من التركيز على تحديد وفرض الأسعار المحتسبة من قبل الجهات التموينية التي من المستحيل أن تكون موضوعية وصحيحة وعادلة دائماً، كونها مركزية وموحدة، ولا تراعي تباين التكلفة، ووفرة المواد، ومستوى الأجور من منطقة جغرافية إلى أخرى، وبالتالي فإن الخلل قد يكمن أحياناً بفرض الالتزام بلوائح الأسعار، وليس بعدم الالتزام بها.
طريق التسعير
في المقلب الآخر فنّد فضلية إمكانية تطبيق سياسة التسعير الإداري بصورة ناجحة وعادلة على ثلاث مجموعات من السلع والخدمات، مبيّناً أن المجموعة الأولى عبارة عن الخدمات التي يمكن احتساب تكلفتها بدقة مثل أجور الشحن، وتعرفة الركوب بوسائط النقل بين نقطتين محددتين، وأجور الأطباء، وتسعيرة التصوير الشعاعي، وخدمات الأجهزة الطبية على سبيل المثال، والمجموعة الثانية التي يمكن تطبيق الأسعار الإدارية بفعالية ونجاح، صنفها على أنها السلع والمنتجات والخدمات التي تبيعها أو تقدمها المنافذ الحكومية، مثل الاسمنت، والمياه المعدنية، والسجائر المنتجة محلياً، أما المجموعة الثالثة فقد عدّها فضلية السلع والمنتجات التي يبيعها القطاع الخاص، ويكون مصدرها القطاع العام، أكانت مستوردة أو من إنتاجه: (مواد جاهزة، أو وسيطة، أو أولية)، حيث يمكن لوزارة التجارة الداخلية أن تفرض السعر الصحيح، أو الذي تراه مناسباً كونها تعرف تماماً التكلفة التي تحمّلها القطاع الخاص للحصول عليها لغاية إنتاجها، أو بيعها جاهزة، مثل المحروقات، والموز، وبعض السلع الغذائية الأخرى المستوردة من قبل الشركة السورية للتجارة، واعتبر فضلية أن فرض التسعير الإداري، بعيداً عما ذكر، قد تشوبه الكثير من العيوب، وتواجه حسن تطبيقه العديد من المعوقات، وبالتالي فإن توفر وتوفير السلع والمنتجات بتشجيع المنافسة، وإفساح المجال لتكافؤ الفرص، هي الحلول المستدامة لحماية المستهلك، ولإيجاد العلاقة المتوازنة بينه وبين الأطراف الأخرى ذات الصلة.
رقابة تائهة
ومن وجهة نظر الدكتور فضلية فإن سياسة الرقابة التموينية بالعصا لم ولن تجدي نفعاً، إذ يتضح أنه كلما كانت الغرامات أكبر، والعقوبة أشد، زادت مغريات الرشا، وارتفعت فواتيرها، خاصة في ظل ضعف الرقابة، وغياب فعاليتها على السلوك الوظيفي، موضحاً أن القاعدة الذهبية لنجاح أية عملية رقابية تتمثّل بالبحث عن أسباب المخالفة ومعالجتها، والبديل الذي اقترحه فضلية لسياسة الرقابة التموينية هو وضع أسس موضوعية وعادلة لتسعير ما يمكن وما يجب تسعيره إدارياً، وكمثال طرحه الدكتور فضلية هو تسعير الخضار الطازجة التي لا يمكن أن يخضع سعرها العادل إلا للنوعية، والعرض والطلب، حيث من الطبيعي أن يتباين هذا السعر من منطقة جغرافية منتجة لها إلى أخرى لا تنتج ما يكفي منها، لاسيما أن سعرها وكمية عرضها يختلف من شهر إلى آخر في الموسم الواحد، وهنا لا يوجد أي معنى لتسعيرها مثلها مثل الحلويات العربية التي تختلف بنوعيتها وتكلفتها باختلاف نوعية وتكلفة الكثير من مكوناتها، إذ لا يمكن في كثير من الأحيان لأي خبير أو مراقب تمويني أن يلمس ويُثبت هذا الاختلاف بصورة دقيقة، إضافة لسندويش الفلافل، والشاورما التي تتباين مكوناتها كماً ونوعاً بين بائع وآخر، وتخضع أهم مكوناتها لسعر السوق، بل للبورصة اليومية للحم الفروج، وتمنى فضلية الذي وضع نفسه موضع المواطنين أن تكون الرقابة الحكومية أكثر واقعية.
تفاؤل حذر
في السياق ذاته أكد فضلية على أن النقاش في القانون (14) لعام (2015) يؤكد أن رئاسة مجلس الوزراء مهتمة بأدق تفاصيل ومناحي العمل الاقتصادي الحكومي، ورغم اعتباره ذاك الاهتمام أكثر تفاؤلاً، إلا أنه دعا للحذر منه، عازياً ذلك إلى مدى جدية وتجاوب الجهات الحكومية مع الرؤى والأهداف التي يرمي ويُشدد عليها مجلس الوزراء، آملاً أن تأتي النتائج على مستوى الجهود الحكومية المبذولة.
البعث