سورية وبناء التوافقات
مازن بلال
تبدأ مشكلة اتفاقية إدلب بين روسيا وتركيا من نقطة مختلفة تماماً عن كل التفاصيل المتداولة، فنموذج هذا الاتفاق لا يحمل أي ربح أو خسارة بالمعنى المألوف لأنه في النهاية محاولة لفض اشتباك دولي وإقليمي، وتأكيد روسي أيضاً على الدور الخاص بـ«مجموعة أستانا»، ولكن الأزمة في أنه يحتاج إلى واقع خاص داخل سورية، وحتى في التصورات التي يمكن بناؤها لمسار الحل السياسي مستقبلاً، فالاتفاقات الدولية غالباً ما تتجاوز الكثير من الآثار الجانبية التي تظهر داخل المجتمعات، وتنحصر وظيفتها عموماً في تحديد المسؤوليات للدول المنخرطة في الصراع، على حين تبقى المسائل الأخرى مرهونة بتداعيات ما يحدث وباستيعاب المجتمع المعني بالاتفاق لما يجري.
ما حدث في سوتشي هو اتفاق أدى لمواقف وتحليلات سورية ولكنه لم ينعكس على مجمل التفكير السياسي السوري، فمثل هذه الاتفاقيات لا تحتاج لطرف مواقف القوى منها لأنها وقعت أساساً من دون استشارتها، وربما يؤدي فهم السياق العام للتفاهمات الروسية – التركية إلى التعامل بشكل مختلف مع أي حالة دولية مشابهة بشأن سورية، فنحن أمام مجموعة من الإجراءات الدولية بما فيها جولات التفاوض في جنيف تضعنا أمام مسألتين:
– الأولى أن الأفكار الدولية بشأن الأزمة السورية غير معنية بأي حل إلا بقدر ما يوفره هذا الحل من إعادة توزيع للقوة بين دول المنطقة لضمان توازن جديد، وحتى اليوم هذا الأمر لم يتم؛ وحدث ما هو غير متوقع من تمركز للقوة في سورية عبر روسيا وإيران بالدرجة الأولى.
حتى الآن لا يمكن لواشنطن وموسكو ضمان أي توازن جديد، وهو ما يؤدي إلى تصعيد دولي يمنع وجود رابح أو خاسر في المنطقة على الصعيد الدولي، ورغم أن ميزان القوة مختل لمصلحة روسيا، إلا أن هذا الأمر متأرجح ولا يمنح أي أفضلية لأي قوة إقليمية بما فيها «إسرائيل» كي تأخذ زمام المبادرة في التعامل المباشر مع أزمات شرقي المتوسط.
– المسألة الثانية هي التعزيز السياسي لجميع القوى الإقليمية، فالأرجحية العسكرية تحتاج في النهاية لأرضية سياسية للاستقرار، وهذا الأمر لا يتوفر إقليمياً على الأقل فكل الدول لديها صراعات مختلفة ومزمنة.
عمليا فإن إيران وتركيا كقوتين أساسيتين لديهما الكثير من التناقضات الداخلية التي تمنع اعتمادهما للتوازن الإقليمي من الولايات المتحدة على الأقل، على حين تعمد واشنطن لتعزيز الواقع السياسي لـ«إسرائيل» من خلال إضعاف الجانب الفلسطيني بشكل واضح وتقديم مساحات إضافية للقيادات «الإسرائيلية»، ورغم ذلك فإن إمكانية تأمين أرجحية قوية لـ«تل أبيب» لا تزال صعبة نتيجة الاضطراب العام في المنطقة.
إن هذه المعادلة الإقليمية المتأرجحة تجعل من اتفاق إدلب محاولة للرهان على قدرة المسارات التوافقية على تحقيق توازن مختلف، وسواء نجحت موسكو وأنقرة في ذلك أم فشلتا فإن مسألة الأرضية السياسية ستبقى ضرورية، والرهان سيتجه نحو العلاقات الداخلية بدلا من الاتفاقات الدولية، وهذا ما يجعل الداخل السوري أكثر ضرورة من أي وقت مضى، فالقدرة السياسية هي الأساس لخلق التوازن الداخلي قبل أي شأن خارجي.
السياق السياسي لما حدث في سوتشي يضع الاحتمال السياسي أولاً، ويدفع الاستحقاق باتجاه القوى السورية بالدرجة الأولى للتعامل مع التوازن الداخلي وبناء علاقات سياسية فيما بينها كأولوية، فليس مهما إبداء المواقف والتعامل مع موسكو من منطلق الثقة؛ فتعقيدات الاتفاقات الدولية تحتاج لـ«هندسة» البنية السياسية السورية كي تحقق مصالحها وفق سياق جديد مختلف كليا عن بدايات الأزمة.
الوطن