الخيارات الروسية بين طائرتين
محمد عبيد
للمرة الثانية يُشكِل إسقاط طائرة مقاتلة روسية تحولاً عميقاً في تحديد خيارات قيادة الكرملين حول مقاربتها للأزمة في سورية وتفرعاتها الإقليمية.
المرة الأولى كانت في خريف العام 2015 حين قامت طائرات حربية تركية بإسقاط مقاتلة روسية، ثم ما لبث أن تحول هذا الأمر إلى محطة مفصلية تأسيسية لنوع مختلف من العلاقات الروسية-التركية قائم على تنظيم الخلافات، إلى أن تطور إلى تنسيق دائم تحت سقف الثوابت التي أرساها «مسار أستانا»، بالتفاهم والتناغم الكاملين مع القيادتين المعنيتين في سورية وإيران.
كان من المتوقع أن يَقدِرَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على احتواء طموحات رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان الشخصية، ورغبته الجامحة في أن يكون لاعباً إقليمياً «إسلاموياً» وحيداً بعد أفول نجم ما يسمى جماعة «الإخوان المسلمين» في أكثر من عاصمة عربية وسقوط مشروعها السلطوي. كما صار من الممكن لاحقاً الاستثمار على اندفاعة أردوغان للتمايز عن مرجعية بلاده التقليدية: الولايات المتحدة الأميركية وحلف «الناتو» الذي تنتمي إليه، وذلك بهدف ترك مساحة إقليمية لنفسه تُخرِجُه من توصيف التابع إلى موقع الحليف بشروط أولوية الحفاظ على نظامه وسطوته الأحادية. وفي الواقع فإن محاولة الانقلاب الفاشلة التي تشير الكثير من الأدلة إلى قيام واشنطن وبعض أتباعها الإقليميين بتدبيرها ضد نظام أردوغان والدور الإنقاذي الذي لعبته كل من القيادتين الروسية والإيرانية في إنقاذه شخصياً وتثبيت نظامه، وما تبع ذلك من مواجهات سرية وعلنية بينه وبين البيت الأبيض حول المتهم الأول بتسهيل الانقلاب المذكور نَدِّهُ التاريخي فتح اللـه غولن. كل ذلك إضافة إلى وقائع ميدانية أخرى تمثلت بتحرير الجيش العربي السوري وحلفائه لمعظم الأراضي السورية، أرسى معادلة جديدة جعلت من روسيا مرجعية أساسية للاستشارة والتفاهم حول أي خطوة تتعلق بسورية أو بالمنطقة كافة، خصوصاً بعدما وجد أردوغان وأركان نظامه أن الثلاثي الروسي الإيراني السوري لديه أجندة موحَدة فيما يتعلق بسبل الخروج من الأزمة في سورية وإن اختلف ترتيب الأولويات أحياناً.
أما المرة الثانية التي ذهب ضحيتها طائرة عسكرية روسية بمن كانت تحمله من جنود، وذلك نتيجة تصد صاروخي سوري لعدوان جوي إسرائيلي، فيبدو أن تداعياتها ستقود التفاهمات الروسية الإسرائيلية إلى انهيار متدرج بدأت تتكشف معالمه من خلال قرار موسكو المباشر والصارم بتزويد الجيش العربي السوري بمنظومة قيادة وتحكم تكنولوجية حديثة لمراقبة الأجواء السورية وتحديد التحركات فيها بدقة عالية جداً، إضافة إلى صواريخ إس300 التي ستشكل تغييراً نوعياً في قدرات هذا الجيش الدفاعية الجوية.
غير أن الأبرز والأهم أن الإمرة في إدارة واستعمال تلك المنظومتين الإستراتيجيتين ستكون حصراً بيد القيادة العسكرية السورية، ما يعني أن جزءاً أساسياً من التفاهمات بين روسيا وكيان العدو الإسرائيلي لجهة اقتصار امتلاك السلاح النوعي الإستراتيجي وإدارته في سورية على القوات الروسية قد سقط فعلاً، وما ينذر أيضاً بتصاعدٍ دراماتيكي سلبي حاد ينهي أو يعلق على الأقل كل التفاهمات المذكورة، وذلك تبعاً لردود فعل قادة الكيان الإسرائيلي الذين مازالوا يتمسكون بروايتهم الاحتيالية حول عدم مسؤوليتهم المباشرة في إسقاط الطائرة الروسية، وهو أمر تعتبره القيادة الروسية العسكرية استهانة غير مقبولة بالقدرات والإمكانات التكنولوجية العسكرية الروسية، خصوصاً بعدما تم إطلاع المسؤولين العسكريين الإسرائيليين على جميع التفاصيل المسجلة والموثقة، كما تراه القيادة السياسية استفزازاً غير مسؤول ستترتب عليه مجموعة مواقف يمكن أن تُحرِج الإسرائيلي ومن ثم إجراءات عملانية تُخرِجه نهائياً من الأجواء السورية.
يبدو أن العقدة تكمن لدى الإسرائيلي بعدم قبوله الاعتراف بالمسؤولية عن أي فعل جرمي يرتكبه، وهو أمر درج عليه منذ إنشاء كيانه ووجد دائماً الغطاء والتبرير الأميركيين والدوليين لأفعاله. ربما كان يكفي الروسي اعتذار إسرائيلي كما فعل التركي ومن ثم البحث في قواعد اشتباك جديدة تقي الطرفين شر التصادم، لكن الأوان قد فات عملياً.
كان الإسرائيلي ومازال يؤمن أن الدولة السورية وحليفتها إيران إضافة إلى حزب اللـه يشكلون في لبنان وسورية تحديداً، خطراً وجودياً وعدواً إستراتيجياً، وهو عجز في أكثر من محطة ومحاولة عن تحطيم بُنَاهُم التحتية، فإذا به يضيف إليهم اليوم «خصماً» روسياً جمعته بهم الكثير من الرؤى الدولية حول ضرورة إسقاط نظام القطب الواحد لإرساء توازنٍ دولي جديد، كما توحده معهم أجندة إنهاء الإرهاب الدولي الذي تَثبُت يوماً بعد يوم مسؤولية الثلاثي الأميركي-الإسرائيلي-الوهابي عن إيجاده وتغذيته وانتشاره في كل أنحاء العالم.
الوطن