البترودولار يرتدي حزامه الناسف!
منذ نشأته في 1974، على ظهر النفط السعودي وبين حنايا خبث العقل الإمبريالي، لم يتعرض «البترودولار» لمثل ما يتعرض له اليوم من «اختبار المستقبل» المجهد.
لطالما شكل «البترودولار» رأس حربة الغرب في الحروب الاقتصادية، على سبيل المثال ضد الاتحاد السوفييتي والصين من خلال اللعبة المزدوجة: إنهاك الصين، كأكبر مستورد عالمي لموارد الطاقة عبر رفع الأسعار والتلاعب بتقويم النفط بالدولار، وفي المقابل، إنهاك الاتحاد السوفييتي كأكبر منتجي النفط والغاز في العالم، عبر خفض الأسعار والتلاعب بتقويمها، أيضاً.. على مثل هذا النول المدعم بمضخات النفط الوهابي الطيّع، تم نسج التنافس الإيديولوجي بين قطبي آسيا.
في القرن الجديد، وما أن التقطت دول العالم رائحة شعار «أميركا أولاً»، حتى أصبح انتزاع اقتصادياتها من الربق الدولاري هدفاً وطنياً، خلال السنوات الأخيرة، أفرط الفدرالي الأميركي في الاستخدام السياسي لنظام المدفوعات العالمي الذي يسيطر عليه، قد يكون خياره هذا قهرياً في سياق محاولات مستميتة لوقف ساعة الزمن المتحول، إلا أن ذلك لم يلبث أن استدعى تسارعاً كبيراً في عقاربها.
وسط هذه الحرب الاقتصادية العالمية المتصاعدة بحدتها والمعقدة بتداخل جبهات المتضررين، بات أمر الهيمنة الأميركية على التبادلات العالمية كقربة بعشرات الثقوب، خلال الأعوام الأربعة الماضية، وعقب فشل حرب «أوبك» على الصادرات النفطية الروسية، ومحاولة استنهاض الصدام الصيني الروسي على خلفية تضاد المصالح بين منتجي الطاقة ومستهلكيها، كانت «الأواني المستطرقة» على أهبة الاستعداد لبرهان حضورها، فكاد الاقتصاد الصيني يحقق قفزته العالمية..
فشل محاولة المنظومة البريطانية الأميركية ممارسة دور الرجل المطاطي تارة ضد روسيا وأخرى ضد الصين، أعاد بسرعة خيار تحسين أسعار النفط مشفوعاً بمحاولة تدجين روسيا ضمن «أوبك +».
وسط هذا الدفء المصطنع في المناخ الروسي الأميركي، اندفعت موسكو إلى الاستحواذ على حصة طاغية من سوق الطاقة الأوروبية واستبدال صمامات صادراتها الغازية الأوكرانية التي استحوذ عليها الأميركي، بأخرى تحت مياه البلطيق.. الجنون الغربي بلغ مبلغه بعدما أدرك بأن حربه مع آسيا لا تزال مشتعلة على جبهاتها المتراصة اقتصادياً على حساب الهيمنة الغربية، لا بل بزوغ مؤشرات جدية بانضمام تاريخي لشركاء آخرين على الجبهة الأوراسية، إليها.
في هذه البيئة الاقتصادية العالمية المشحونة بمنعكسات ما بعد الهزيمة الغربية في سورية، ورغم كل إيحاءات أميركا الكاذبة بضرورة خفض الأسعار، فهي لم تتأخر عن العودة إلى تسليط سيف نظام المدفوعات مجدداً على رقاب مستوردي النفط، ومصدريه.. لربما يختزل المشهد الطاقوي الإيراني الحالي، التبدلات العالمية العميقة التي تنتظر «البترودولار» وتبلور تيار مناهض يستعد لخوض الحرب حتى نهايتها.
الصين، التي بات شراء النفط الإيراني بالعملات المحلية خيارها الأول، ألمحت قبل يومين إلى أن ردها على موجة العقوبات الأميركية الأخيرة «سيكون مؤلماً».. لربما يؤشر ذلك إلى نضوج خيارها «الشمشوني» بالتخلي عن الأرصدة الدولارية، مرتكزة في ذلك إلى ضمانات بتدفق احتياجاتها الطاقوية من روسيا وقطر وإيران وفنزويلا وإفريقيا، ومن سورية مستقبلاً، وإلى استقرار أسواق منتجاتها والتصاعد المضطرد في فائضها التجاري مع الولايات المتحدة الذي وصل إلى مستويات قياسية الشهر الماضي، رغم موجات العقوبات المعاكسة.
النزعات الجدية للتحرر من نظام المدفوعات العالمي الأميركي، لم يلبث أن تسلل إلى مناطق أخرى تعد محل نفوذ أميركي تقليدي، فعلى حين امتثلت كوريا الجنوبية واليابان بدرجات متفاوتة للعقوبات الأميركية على إيران، ذهبت الهند إلى إعلان نيتها تسوية مدفوعات الخام الإيراني «بالروبية» عبر بنوك محلية بدءاً من تشرين الثاني، وهو موعد تنفيذ العقوبات على تجارة الطاقة الإيرانية.
على الضفة الأوروبية، ذهبت وزارة الاقتصاد الألمانية إلى إفشاء المساعي الجدية في القارة لإنشاء قنوات دفع وأنظمة مستقلة عن نظام «سويفت» الأميركي، وإلى تأسيس صندوق نقد أوروبي، قبل أن تؤكد أن الاتحاد يدرس تأسيس نظام مدفوعات يسمح باستمرار التعاملات التجارية مع طهران حالما تفرض الولايات المتحدة عقوباتها.
أما الاتفاقات الروسية الإيرانية المرتكزة إلى تجارة بينية «سلع/ نفط»، فليست سوى عناوين فرعية لخطط إستراتيجية تسعى موسكو من خلالها إلى التخلص من «إملاءات» الدولار بشراء الذهب وقد تصل إلى بيع سندات الحكومة الأميركية، فهي استطاعت خلال السنوات الأخيرة مثلاً، زيادة احتياطات معادنها الثمينة من 457 طناً في 2008 إلى 1944 طناً هذا العام.
قد تكون الخيارات الأميركية «انتحارية» في سياق محاولاتها الجنونية لوقف تدهور «رفاهيتها» التي اقتنصتها بمبضع «البترودولار» من أفواه البشرية، إلا أن حصيلتها ما فتئت تؤكد أن خيارها هذا يحاكي ارتداء «حزام ناسف» في انعكاس ثقافي سلبي لعلاقتها المديدة مع الوهابية «البترودولارية» السعودية.
الوطن- علي محمود هاشم